العرب وحرب التجارة الإقليمية سامي منصور

العرب وحرب التجارة الإقليمية

انتهت الحرب الباردة واندلعت الحروب التجارية وما زال العالم يبحث عن تشكيلات ومنظمات تتناسب والمرحلة الجديدة، وإذا كانت اتفاقية "الجـات" تبدو وكأنها المظلة لهذه الحرب فإنها في الواقع لم تكن أكثر من خدعـة للدول النامية أو هي على الأقل مرحلة لاحقة قد لا تحقق قبل القرن القادم.

إن الاتجاه السائد في العالم الآن هو عكس الانطباع الشائع بأن "الجات" هي الطريق نحو عالمية السوق بكل ما يمثله ذلك من مخاطر حقيقية على إنتاج الدول النامية الصناعي والزراعي بحيث تتحول إلى سوق استهلاك وتغلق مصانعها، الغريب أن مباحثات الجات استمرت حوالي عشرة أعوام ومع ذلك فقد غابت الدول النامية عن تنظيم مواقفها. وكالعادة لم تهتم بما يكتب من الخبراء حتى وقعت الاتفاقية فبدأت تهتم وتعقد الندوات والاجتماعات لتقول ما كان يكتب ويقال قبل التوقيع ولم يعد له محل بعد التوقيع..!

والخطر القادم وهو خطر حقيقي على الدول النامية وفي مقدمتها الدول العربية هو في تقسيم السوق العالمية إلى مناطق تجارة حرة تشكل نوعا من التكتلات الاقتصادية ربما كانت أشد خطرا من التكتلات السياسية في ظل النظام السابق للعملاقين لأن الحياد بينهما أمر إن لم يكن مستحيلا فهو بالغ الصعوبة ويحتاج إلى مخططات للمواجهة.

وقد اهتمت مجلة "الأيكونومست" البريطانية بظاهرة الأسواق الحرة الإقليمية ووصفتها بأنها تثير خلافا بين الخبراء، فهناك من يرى أنها على طريق العالمية بينما يري البعض الآخر أنها نقيض لعالمية الجات والواقع أنه يمكن اعتبار رأي كلا الفريقين صوابا بشرط وضع عنصر الزمن في الاعتبارات المرئية للبحث، بمعنى أن تلك الأسواق الإقليمية الحرة هي نقيض لعالمية الجات على المدى القصير الذي قد يمتد عشرين عاما أو ثلاثين وهي مكملة للعالمية بعد ذلك ولكن بعد تعديل الشروط وإن كان هناك احتمال لا يمكن إغفاله أن تتوقف المسيرة عند هذه الإقليمية إذا ما تجمعت الدول الأعضاء في خلق كيان إقليمي قوي ودخلت في حرب تجارية مع أسواق إقليمية أخرى وبالتالي يكتب لهذه التنظيمات سمة البقاء بعد أن تحولت إلى أداة خداع بدلا من أن تكون أداة تجارة وتعامل.

ونجد أنه برغم أن الولايات المتحدة التي كانت هي مهندس اتفاقية التجارة العالمية ومارست كل أنواع الضغوط على دول العالم وخاصة النامية للتوقيع على الاتفاقية لصالح الاقتصاد الأمريكي وغيره من الاقتصاديات القوية على حساب الدول النامية الصغيرة إلا أن الولايات المتحدة نفسها اتجهت في نفس الوقت نحو السياسة الإقليمية. والبداية كانت بإنشاء منطقة تجارية حرة بين الولايات المتحدة و كندا - 1988 م - ثم انضمت إليها المكسيك بعد ذلك بأعوام أربعة. ومنذ منتصف العام الماضي - يوليو 95 م - بدأت شيلي مباحثات مع الحكومة الأمريكية لقبولها عضوا رابعا، ومن المنتظر مع بداية القرن الجديد أن تكون هذه السوق قد ضمت كل دول أمريكا اللاتينية بما يخلق كتلة اقتصادية عملاقة. وهناك بالمقابل السوق الحرة الأوربية التي تقترب من درجة الاتحاد أملا في أن تصل إلى مستوى الوحدة الأوربية مع بداية القرن بقيادة ألمانيا الموحدة وهي عملاق اقتصادي في حد ذاته ومع دول أوربا الموحدة فتكون كتلة اقتصادية عملاقة أخرى لا بد من حساب قوتها في مواجهة الكتلة الأمريكية.

وتسعى اليابان إلى إنشاء كتلة اقتصادية آسيوية من خلال نفس الخطوات وهي سوق حرة للتجارة.

لكل تكتل قطب

والواضح أن ظاهرة الأسواق الحرة قد ورثت عن ظاهرة الانقسام العالمي إلى كتلتين مسألة وجود قطب لكل تجمع أو تكتل. وهو يبتز بحكم قيادته للمجموعة الدول الأعضاء معه قبل غيرها لتحقيق مكاسب له على حساب الآخرين وفي مقدمتهم دول منطقة التجارة الحرة. وهو ما يؤدي بدوره إلى اشتعال حرب باردة جديدة. فالمسألة ليست حرصا على حرية التجارة العالمية ولكنها محاولة من كل قطب لأن يحل مشاكله الاقتصادية ليستطيع الصمود في دائرة العمالقة. ومع الأسف فهي نفس قصة الاستعمار القديم حين كانت عملية استغلال ثروات المستعمرات هي العامل الحاسم في تشكيل الإمبراطوريات البريطانية حيث عاشت تلك الجزر البريطانية الصغيرة الحجم ولكن بقوة عسكرية هيمنت على معظم القارات ومنها الولايات المتحدة نفسها وثروة المستعمرات خلقت لها الإمبراطورية، وحين استقلت المستعمرات أصبحت بريطانيا دولة من الدرجة الخامسة أو السادسة في سلم العمالقة بالعالم..

والحقيقة أنني لا أسعى إلى فتح صفحات الاستعمار خاصة أن البعض قد أصبحت لديه حساسية مرضية من سماع بعض كلمات مرحلة الخمسينات والستينيات وبرغم أنهم جزء من العبء الذي يتحمله العقل في الدول النامية وفي مقدمتها العالم العربي فأنني أضع أمام الجميع صفحة من جريدة "الهيرالد تربيون" الأمريكية الدولية وهي الصفحة الثانية في العدد - 8 سبتمبر 1995 - وعنوان التحقيق على الأعمدة الثمانية للصفحة يقع في سطرين الأول هو "الغزو الثقافي.. السوق الحرة تفتح الأبواب لنوع جديد من الاستهلاكية" والسطر الثاني يقول.. "أمريكا اللاتينية ترحب الآن بالمستعمرين القدامى" أعد التحقيق جابرييل إيسكور مع آن سوار دون.

وإذا كان لكل عصر أسلحة وأدوات صراع فإن الأسواق الحرة هي أدوات حرب التجارة. وهي حرب تختلف عن الحرب الباردة في أنه يستحيل الوقوف خلالها على الحياد فهي حرب إما أن تكون طرفا فيها أو ضحية لها دون وجود أي فرصة لخيار ثالث.

والخطير أن الشرق الأوسط شغل بمشروع يبدو في ظاهره أنه مسايرة للواقع السائد مع أنه جزء من الحرب على المنطقة والهيمنة عليها وهو ما يطلق عليه سوق الشرق الأوسط. ويقول مهندس المرحلة الجديدة في الصراع العربي - الإسرائيلي شيمون بيريز في كتابه عن هذه السوق إن هدفنا النهائي هو خلق أسرة إقليمية من الأمم ذات سوق مشتركة وهيئات مركزية مختارة على غرار الجماعة الأوربية وأن الحاجة إلى هذا الإطار الإقليمي يفرضها الواقع. وحدد بيريز ثلاث مراحل للتنفيذ تبدأ الأولى منها بمشاريع ثنائية أو متعددة الأطراف مثل معهد أبحاث مشترك لإدارة الصحراء أو مصالح تعاونية لتحلية المياه، بينما المرحلة الثانية هي كونسورتيومات دولية لتنفيذ المشاريع التي تتطلب رءوس أموال ضخمة بإشراف البلدان ذات العلاقة بالمنطقة مع أطراف أخرى ذات مصلحة مثل مشروع قناة البحر الأحمر، والمرحلة الثالثة لوضع سياسة الجماعة الإقليمية. وهذا كما أوردته صحيفة "الهيرالد تربيون" وليس من باب التكرار ولكنه للتذكرة فإن كل سوق كما سبق أن قلت لها قطب منتج قوي يسيطر عليها لصالح اقتصاده هو بالدرجة الأولى.

الغريب بل والأمر الخطير هو بأن تقف المنطقة في مواجهة المرحلة الجديدة موقف المتفرج أو على الأقل موقفا سلبيا تاركة التخطيط لغيرها مع أنها تملك كل أدوات الصراع وإمكاناته.

وأرجو أن يسمح لي القارئ بأن أعيد معه قراءة سطور من الوقائع تبدأ في مايو 1956 حين اجتمعت اللجنة السياسية بجامعة الدول العربية واتخذت قرارا ينص على "لما كانت الوحدة الاقتصادية من أهم الأهداف التي تسعى إليها الجامعة فإن اللجنة السياسية توصي بتأليف لجنة من خبراء العرب تتولى إعداد مشروع كامل لهذه الوحدة الاقتصادية".

وفي أغسطس من نفس العام بدأت لجنة الخبراء عملها في بيروت ووضعت مشروعا للوحدة الاقتصادية العربية وقد بدأت التوقيعات على اتفاقية المشروع في 6 يونيو 1962 وبناء على ذلك تم تشكيل مجلس الوحدة الاقتصادية الذي أفلس في العام الماضي لعدم سداد الدول اشتراكاتها ، والمهم أن مجلس الوحدة الاقتصادية أصدر قرارا في أغسطس 1964 أي في ذروة الحرب الباردة وقبل اندلاع الحرب التجارية وأسواقها الحرة وبحوالي العشرين عاما أو أقل بقليل.

والسوق الحرة العربية التي قررت عام 1964 كانت تهدف إلى:
- حرية انتقال الأشخاص ورءوس الأموال.
- حرية تبادل السلع والمنتجات الوطنية والأجنبية.
- حرية الإقامة والعمل.
- حرية النقل واستخدام وسائل النقل والموانئ والمطارات المدنية.

وكالعادة أصدرنا القرارات وغابت الإدارة السياسية باعتبارها العامل الفاعل للتنفيذ.

وإذا كان هناك اعتراض من هذا النظام أو ذاك على بند أو بنود فإن رسم سياسة مرحلية للتنفيذ أمر وارد وواجب.

أين السوق العربية ؟

ولكن المؤكد أن العالم العربي لا يملك من أجل البقاء في مرحلة الحرب التجارية سوى أن يبدأ في تنفيذ مشروع السوق العربية المشتركة أولا وبعدها فتح الأبواب للانضمام لأي دول أو كيانات. وإذا كانت إسرائيل تدرك أن مثل هذا المشروع يقف سدا في طريق طموحها للنهضة وحل مشاكل اقتصادها فهي لذلك تريد أن تقلب الهرم لتبدأ بالقمة قبل وضع القاعدة..!

وإذا كان البعض يخشى على الكيانات القطرية من مثل هذه السوق العربية الحرة للتجارة عن أساس أنها خطوة بل قاعدة لأي عمل وحدوي فإن الحقائق تقول أن تحقيق أهداف الوحدة الاقتصادية سوف يستغرق أكثر من حقبة زمنية وأنه ليس بالضرورة أن ترتفع أصوات تنادي بالوحدة السياسية قبل قطع الربع الأول من القرن القادم أي بما يتجاوز أعمار الجيل الحالي من العالم العربي.

والمسألة لم تعد خوفا من شبح وحدة عربية تريدها الشعوب وترفضها الأنظمة ولكنها أصبحت مسألة وجود أو عدم وجود العالم العربي في مرحلة الصراع الجديد وهي حرب التجارة.

فهي حرب لا تعرف الضعفاء ولأن الضعيف فيها يتحول إلى مستهلك والمستهلك خضع لإدارة المنتج فليس هناك مفر من شغل مكان المنتج.

وهي حرب لا تعرف الكيانات القطرية ولكنها حرب أقاليم، ونجد أنه حتى الدول العملاقة اقتصاديا ومثال لها الولايات المتحدة، اليابان، وألمانيا، احتمت كل منها وراء سوف إقليمية لمواجهة المرحلة الجديدة. وإذا كان العمالقة الاقتصاديون في حاجة إلى درع إقليمي فما بالك بالدول النامية والصغيرة.! وهي حرب لا تعرف الصداقات والتحالفات العاطفية أو السياسية ولكنها تحالفات إقليمية على أسس اقتصادية.

هذه هي سمات المرحلة ولا نملك إلا أن نقرر أن نكون ضحايا فيها أو شركاء في الوجود!!.

 

سامي منصور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات