القـرآن والاجتهاد والعقلانية المؤمنة محمد عمارة

القـرآن والاجتهاد والعقلانية المؤمنة

لا وحي بعد القرآن ولا نبوة بعد محمد - - هذه هي شريعة الرسالة الإسلامية، ختام كل الرسالات. فقد احتفظت هذه الشريعة بالثبات في كل الأحكام ولكنها أتاحت الفرصة لكل ما هو متغير في شؤون الدنيا بحيث فتحت باب الاجتهاد أمام العقل المؤمن.

لقد وقفت الشريعة الإسلامية عند "التفصيل" في الأحكام لما هو "ثابت" و"الإجمال" في الأحكام لما هو متغير فاكتفت إزاء المتغيرات من شؤون الدنيا بما يمثل فلسفة للتشريع والتقنين.. وذلك حتى لا ينسخ التطور الأحكام الإلهية إن فصلت وقننت لهذه المتغيرات وأيضا حتى لا تحدث قطيعة معرفية في فلسفة التشريع بين الفقه المتطور وبين ثوابت الشريعة وروحها المتميزة.

فاحتفظت الشريعة الإلهية بالثبات الذي حقق لها التواصل في حضارة الأمة وفقه فقهائها عبر الزمان والمكان.. وواكب الفقه كل المستجدات مع التزامه بفلسفة التشريع الإسلامية وهو يقنن لكل جديد، فكان كالفروع النامية التي تظلل المساحات الجديدة في الواقع المتطور مع استمدادها روح التشريع الإسلامي من المنابع والجذور..

ولهذه الحقيقة من حقائق الوسطية الجامعة بين الثوابت والمتغيرات.. بين الشريعة- التي هي وضع إلهي ثابت- وبين الفقه- الذي هو اجتهاد الفقهاء في إطار الشريعة الثابتة- لهذه الحقيقة كان "الاجتهاد" فريضة كفائية من فرائض الإسلام يجب على الأمة أن تخصص له من علمائها من ينهض بفريضته، وإلا وقع عليها الإثم بكمالها.. وغير آيات التدبر والتعقل والتفكر والنظر، ففي القرآن الكريم أيضا ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم وفيه وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون .

وحتى في عصر البعثة النبوية عندما كان البلاغ القرآني والبيان النبوي يجيبان عن علامات استفهام المجتمع المسلم ، كان الرسول يرسي قواعد الاجتهاد الإسلامي ، وليس بمجرد السماح به ، بل بالحث عليه والترغيب فيه فهو القائل: من اجتهد برأيه فأصاب فله أجران ، ومن أخطأ فله أجر واحد.

ومن نعم الإسلام على العقل المسلم لأنه لم يحظر عليه الاجتهاد في ميدان يستطيع الاجتهاد فيه، فباستثناء الغيب ومالا يستطيع العقل أن يفقه كنهه أو يستقل بإدراكه.. فتح الإسلام أمام العقل المسلم أفاق الاجتهاد.

ففي النصوص قطعية الدلالة والثبوت هناك اجتهاد في فهمها وفى تعقيد وتقنين أحكامها، وفى تنزيل هذه الأحكام وفى النصوص ظنية الثبوت هناك اجتهاد في ثبوتها.. أما ما لا نص فيه، فأبواب الاجتهاد فيه مفتوحة لقياس أحكامه على غيره مما فيه أحكام نصية وبينهما علاقات... ولأن الاجتهاد الإسلامي فريضة إسلامية إلى علم من علوم الإسلام فإن قواعدها وضوابطها وشروطها قد صانتها، ويجب أن تصونها دائما وأبدا ، عن الأدعياء وعن الأعداء.. فهذا العلم ككل العلوم الإسلامية مؤسس على الكتاب والسنة ، والغاية منه تحقيق إسلامية الفكر الإسلامي في كل ميادين الاجتهاد..

ولعل في حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل حول الاجتهاد في أحكام القضاء -عندما ولاه (اليمن) - ما يمثل بواكير التقعيد والضبط للاجتهاد الإسلامي ، المؤسس على القرآن الكريم ، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام..

فلقد سأل الرسول معاذا عن سبل استباطه للأحكام التي سيقضى بها بين الناس قائلا (بم تقضي؟) فقال: بكتاب الله. فسأله: (فإن لم تجده في كتاب الله؟ فقال: أقضي بما قضي به رسول الله. فسأله: (فإن لم تجده فيما قضى به رسول الله ؟) فقال: أجتهد رأيي ولا آلو. وعند ذلك قال الرسول ، صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله).

وانطلاقا من هذا العلم ، الذي عرفوه - في اصطلاح الأصوليين - بأنه "استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي".. وميزوا فيه بين الاجتهاد في العلوم الشرعية ، والذي يلزم له: معرفة الأصول - كتاب وسنة - ومعرفة الاستنباط منها - بالقياس-.. وبين الاجتهاد في العلوم العقلية ، والذي يلزم له: معرفة الدلائل العقلية.. ومعرفة وجه الاستنباط منها.. كما وضعوا له شروطا يوفر اجتماعها لأهله القدرة على الوفاء بما يقتضيه وذلك من مثل:
1- التمكن من اللغة، حتى يمكن إدراك أسرار التركيب القرآني ومقاصد السنة النبوية.

2- الفهم والتدبر لآيات الأحكام في القرآن ولناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه.. ومطلقه ومقيده - وكذلك فقه السنة وعلومها رواية ودراية .. سندا ومتنا.

3- والمعرفة بأصول الفقه واجتهادات أئمته ومسائل الإجماع والقياس فيه ..

4- والحذق لروح التشريع وفلسفته ولمقاصد الشريعة على النحو الذي يكون ملكه الاجتهاد لدى المجتهد.

وإذا كانت هذه الشروط التي اشترطها العلماء في المجتهد الذي يستحق ولوج باب الاجتهاد قد استقرت في قواعد هذا العلم بتراثنا الإسلامي فإن دواعي وضرورات الاجتهاد الإسلامي خالدة ومتجددة تأبى إغلاق بابه ما دامت للإنسان حياة وتكاليف في عمران هذه الحياة. فمن دواعي الاجتهاد وضروراته :
1- خلود الشريعة الإسلامية لختمها الشرائع الإلهية للرسل ، الأمر الذي يحتم الاجتهاد للمستجدات كي تظل الشريعة وافية بإسلامية الحياة ومحققة اقتران الحكم الإلهي بالواقع المعيش.

2- وعالمية الرسالة المحمدية الأمر الذي يحتم الاجتهاد للواقع المختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والأمم والأعراف.

3- وطروء البدع على أحكام الشريعة - بالزيادة والنقصان بمرور الأزمنة - الأمر الذي يحتم الاجتهاد لإزالة البدع ، وكشف الوجه والجوهر الحقيقي لشريعة الإسلام.

4- وتناهي نصوص الأحكام - في الكتاب والسنة - ولا نهائية المشكلات والوقائع المستجدة في الحياة الأمر الذي يحتم الاجتهاد لاستنباط فروع جديدة تستجيب للمستجدات الجديدة كي تضبط حركتها بأحكام الإسلام.

وإذا كان علماء الإسلام قد ميزوا في مراتب المجتهدين بين ثلاثة مراتب: الأولى: مرتبة الاجتهاد المطلق، الذي "يستنبط" صاحبه الأحكام من المنبع - الكتاب والسنة - مباشرة. والثانية: مرتبة الاجتهاد في المذهب ، الذي "يستنبط " صاحبه الأحكام من "قواعد" إمام المذهب. والثالثة: مرتبة اجتهاد الفتوى، التي تقف عند حدود "الترجيح" بين "أقوال" إمام المذهب.. فإن الاجتهاد على إطلاقه، قد ظل سنة مستمرة على مر تاريخنا الحضاري ، ولم يخل منه عصر - مثله في ذلك مثل التجديد ، الذي تحدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها.

لكن هذا التاريخ الحضاري الإسلامي قد شهد عصور ازدهار للاجتهاد، مثل الاجتهاد فيها "القاعدة". وشهد عصور تراجع، كان الاجتهاد فيها "الاستثناء".. كما صعد الاجتهاد في عصور الازدهار إلى مرتبته الأولى - الاجتهاد المطلق - وهبط في عصور التراجع إلى المرتبة الثانية أو الثالثة - اجتهاد المذهب.. أو اجتهاد الفتوى..

ولما كانت اليقظة الإسلامية المعاصرة إنما تمثل مشروعا للإحياء الحضاري والتجديد الفكري، تواجه به جمود وتقليد التخلف الموروث عن عصور التراجع الحضاري، وانفلات التغريب وتفريط دعاة التقليد للنموذج الغربي.. فإن الاجتهاد الإسلامي المضبوط بضوابط هذا العلم الإسلامي هو سبيل اليقظة الإسلامية المعاصرة، والذي تستعيد به فاعلية المنابع الجوهرية والتقنية للإسلام، بعد إزاحة البدع من على وجهها.. وهو أداة تنمية "العقلانية - الإسلامية - المؤمنة" القادرة على فقه الأحكام وفقه الواقع، وعلى عقد القرآن بينهما..

عقلانية الإسلام

وإذا كانت "العقلانية الغربية" - في حقبتها اليونانية - قد انفصلت عن "الوحي.. والنقل"، لغيبة الوحي والنقل عن مجتمعنا اليوناني.. وإذا كانت "العقلانية الأوربية" - في طورها الحديث المعاصر- قد تمردت على الكنيسة ولاهوتها.. فإن هذا الفصام النكد قد برئت منه حضارة الإسلام، فكانت عقلانية الإسلام ثمرة من ثمرات النظر والتدبر والتفكر التي أوجبها القرآن، كما كانت محكومة- ككل ملكات الإنسان النسبية- بالعلم الإلهي المطلق والمحيط، ومتخصصة في الميادين التي يستطيع العقل الإنساني أن يستقل بإدراك حقائقها ومعارفها وقوانينها..

وإذا كان الإمام أبوحامد الغزالي قد شبه العقل بالبصر، والشرع بالنور، وقال : "إن أهل السنة قد تحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول، وعرفوا أن من ظن وجوب الجمود على التقليد، واتباع الظواهر، ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر، وأن من تغلغل في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع، ما أتوا به إلا من خبث الضمائر، فميل أولئك إلى التفريط، وميل هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط..

فمثال العقل: البصر السليم عن الآفات والإذاء ومثال القرآن: الشمس المنتشرة الضياء، فأخلق بأن يكون طالب الاهتداء المستغني إذا استغنى بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء.

فالمعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن، مثاله: المتعرض لنور الشمس مغمضا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان فالعقل مع الشرع (نور على نور)، فإن الإمام الشهيد حسن البنا قد قال ( إن الإسلام لم يحجر على الأفكار ولم يحبس العقول) ...

بل جاء يحرر العقل، ويحث على النظر في الكون، ويرفع قدر العلماء ويرحب بالصالح النافع من كل شيء (والحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق بها) ولقد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي مالا يدخل في دائرة الآخر، ولكنهما لن يختلفا في القطعي فلن تصطدم حقيقة علمية بقاعدة شرعية ثابتة، ويؤول الظني منها ليتفق مع القطعي، فأن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالاتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار...

وإذا كان العقل البشري قد تذبذب بين: طور الخرافة والبساطة والتسليم المطلق للغيب ... طور الجمود والمادية والتنكر لهذا الغيب المجهول... كلا هذين اللونين من ألوان التفكير خطأ صريح وغلو فاحش، وجهالة من الإنسان- بما يحيط بالإنسان- فلقد جاء الإسلام الحنيف يفصل بين الإيمان بالغيب والانتفاع بالعقل.

إن المجتمع الإنساني لن يصلحه إلا اعتقاد روحي يبعث في النفوس مراقبة الله.. في الوقت الذي يجب على الناس فيه أن يطلقوا لعقولهم العنان لتعليم وتعرف وتخترع وتكشف وتسخر هذه المادة الصماء وتنتفع بهما في الوجود من خيرات وميزات .... فإلى هذا اللون من التفكير، الذي يجمع بين العقليتين، الغيبية والعملية، ندعو الناس) هكذا استقر الرأي في تراثنا الحضاري على أن الاجتهاد هو أداة البعث الإسلامي وسبيل الإحياء والتجديد.. وعلى أن العقلانية الإسلامية- الجامعة بين العقل والنقل- هي أداة هذا الاجتهاد وعلى هذا الدرب سارت يقظتنا الإسلامية الحديثة والمعاصرة رافضة غلو الإفراط والتفريط ...

وكما لا يقيم الإسلام تناقضا بين عالم الغيب وعالم الشهادة- في مصادر المعرفة- بل يجمع بينهما، جاعلا كتاب الله المقروء- الوحي- وكتابه المنظور- الكون- مصدرين للمعرفة الإنسانية.

وكما لا يقيم تناقضا بين العقل والنقل في سبل المعرفة- بل يجمع بينهما، مع إضافة الحواس والوجدان إليهما، كهدايا أربع يهتدي بها الإنسان فإن المنهاج الإسلامي لا يقيم تناقضا بين المنابع - كتاب وسنة - وبين ثوابت التراث وبين المتغيرات والمذهبيات التي ارتبطت بتجارب تجاوزها تطور التاريخ...

وحول هذه الحقيقة كانت دعوة الإمام الإمام محمد عبده إلى (تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى 00 وكانت كلمات الإمام البنا التي قال فيها ( إن أساس التعاليم الإسلامية ومعينها هو كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة رسوله...

وإن كثير من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها، ولهذا يجب أن تستقى النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي، معين السهولة الأولى، وأن يفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا به الله، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه والإسلام دين البشرية جمعاء.

فهو اجتهاد يرى فيه العقل المسلم واقعة المعاصر في ضوء منابع الإسلام دونما تقليد لتجارب تاريخية، أو جمود عند فكر وسيط تجاوزه التاريخ... وبغير هذا المنهاج لا نفهم حكمة خلود فريضة الاجتهاد.. ولا حكمة الاستمرارية لسنة التجديد، سنة لا تبديل لها ولا تحويل ولا مكانة العقل المسلم في الاجتهاد والتجديد.

 

محمد عمارة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات