صاحبة البيت فريدة النقاش

صاحبة البيت

قراءة نقدية.. في
رواية من تأليف: د. لطيفة الزيات

إن تاريخ "سامية" بطلـة هذه الراويـة هو تاريخ قهر النسـاء، لذلك تتحـول إلى ما هو أكثر من شخصية روائية لتصبح محملة بالمعني والرمز والدلالة الأعم. وهي محملة بالتناقض أيضا فهي المرأة المنطلقة إلى مثل أعلى لا يوجد أبدا في هذه الدنيا.

على طريق الإختفاء عن البوليس هي وزوجها "محمد" القائد السياسي الكبير و"رفيق" زميلهما، الذي دبر خطة تهريب محمد من السجن "وقر إدراك بنهاية الأشياء في وعي سامية وقالت في غضب: إلى أين نسير؟

ثم تسأل نفسها والظلمة تعم الطريق : وبعد. هل بدأت الرحلة الآن أم لحظة ولدت؟".

ليلخص هذا السؤال كل الأسئلة الأخرى في "صاحب البيت" الرواية الجديدة للدكتورة لطيفة الزيات حيث يتحول القهر السياسي إلى قهر شبه ميتافزيقي وتغيب ملامحه الواقعية وتسحب الخلفية السياسية بصراعاتها وقواها وافكارها لتتصدر المشهد الملامح الروحية والوجدانية للإرث التربوي والديني، قهر المرأة واستعبادها وتهميشها حتى وهي تختار بإرادتها الحرة أن تتمرد وتسلك طريقا جديدا خروجا على التقليدي والمألوف، وخروجا ماديا من البيت القديم أي بيت العائلة والذكريات والأمان الذي ما بعده أمان والانصياع الكامل للمواصفات الاجتماعية.. هذا الانصياع الذي تتمرد عليه البطلة "سامية" تمردا عاصفا حتى أنها حين تصل إلى البيت الذي ستختبئ فيه هي وزوجها وزميلهما تنظر إلى برج الحمام الذي يرمز إلى السلام والأمن والطمأنينة والوداعة الشاملة فتتساءل "أهو برج حمام أم برج مراقبة؟"

"ويتأكد هذا المعنى للمراقبة حين يتركهما صاحب البيت الذي لا يعرف بوجود "محمد"، قدم رفيق نفسه له باسم فايق ومعه عروسته زاهية يتركهما صاحب البيت المهيمن الذي لا اسم له قائلا:

- البر أمان، وأنا لا أغفل ولا أنام" كان تمرد سامية وزواجها من محمد برغم تحذير أسرتها نشدانا لمثل جديدة، إذ تتطلع سامية إلى الكمال المطلق الذي يتبين لها كل يوم أنه مستحيل التحقيق.. ربما تكتمل الصورة في الموت وحده أ وإذا ما حدث واكتملت في الحياة، فإنها تأتي عبر تلك اللحظات العليا من التوحد مع الحبيب، والفناء فيه الذي هو أيضا نوع من الموت، إنها "لحظة السعادة الخالصة والمعرفة اللانهائية" ولكن سامية تكتشف في ظل الحصار الخانق وأبراج المراقبة المحيطة بمكمنها هي وزوجها، وعيون "رفيق" وأنفاسه، وصاحب البيت الغريب وغير الإنساني، الفظ والمبتذل والمحمل بأكثر من معنى.. تكتشف أنه قدر للإنسان أن يكون وحيدا أبدا ودائما.

وسوف يكون إقرار "سامية" بأن الأشياء نسبية هو مفتاح الجانب الإيجابي والفاعل في شخصيتها، فإذا كان تمردها على أسرتها قد بدأ على أرضية التطلع إلى المثالي والمطلق "السعادة اللانهائية" فإن الواقع المر والتجربة الحقيقية يعلمانها العكس. تعرف ذلك في تجربة الهروب التي انفتحت في ظلها أبواب الجحيم من كل الجهات، سواء بالتحولات التي حدثت في شخصية محمد من حيث انغماسه الكلي في حالة الاختباء وما صاحبها من خواء وفزع أو بعجزه - أو عجزهما معا عن استكمال لحظة الحب أو استعادة عالمهما المتكامل القديم حيث بقي كل منهما غارقا في وحدته برغم القرب الحميم، أو بإحكام كل من رفيق وصاحب البيت لدائرة الحصار حولهما وصولا إلى انهيار سامية وتعرضها لحالة من الهيستريا قرر كل من محمد ورفيق على أثرها أن يسمحا لها بالرحيل بعد استحالة التعايش وتحولها العصبي الذي جعل منها عنصر خطر يهدد الجميع.

وفي طريق العودة.. وفي القطار تجد سامية صورتين "لمحمد" و"رفيق" في الجريدة "وماذا أنا فاعلة والقرار قرار موت أو حياة، ومحمد يقف عاريا ورفيق، لا يملك لهما العون سواي..!

وهي تستطيع أن تنبه محمد ورفيق إلى الخطر الذي يتهددهما، وتعود لتستقل القطار التالي إلى البيت القديم"

الشفرات المتعددة للنص

"وتأكد لسامية أنها لو ذهبت لن تعود" وعلى القارئ أن يستكمل هذه الجملة، ويلعب دوره كمتلق إيجابي مستخدما الشفرات المتعددة في النص ليخمن، بل - ليقرر : لو ذهبت "سامية" إلى أي البيتين لن تعود، البيت القديم أم بيت الحب المجهض المحاصر؟ لكننا نعرف يقينا أنها نزلت فعلا من القطار قبل أن يتحرك وعادات إلى محمد ورفيق وصاحب البيت، بل أنها تخوض معركة حامية الوطيس مع صاحب البيت الذي تجلى وجهه الواقعي الصارم حين وجدته لدى عودتها ممسكا بالجريدة التي نشرت صورتي رفيق ومحمد، ويقول لها وهي تهدده بالقتل :

- أنا لم أبلغ البوليس... لم ألحق...

وفي خضم المعركة "انقض صاحب البيت يقضم بأسنانه كفيها المطبقتين على رقبته، ولم تتوقف الأخرى لتتوجع" سوف نلاحظ هنا أنها تصف نفسها من الخارج وتتحدث عنها باعتبارها الأخرى التي انفصلت عن ذاتها.. فأيهما يا ترى هي ذاتها الحقيقة.

"وتساءلت سامية إن كان الغموض الذي يحيط بصاحب البيت وهما من صنع خيالها" ومرة أخرى سوف يكون القارئ الذكي مطالبا بأن يتخيل ماذا بوسع سامية العائدة إلى البيت الجديد، المنتصرة على صاحبه، المقاتلة في سبيل رفيق حياتها وزوجها التي تطارده الشرطة أن تفعل، هل يا ترى سوف تعود مطلقاتها القديمة، بتصوراتها عن الحب كفناء في الآخر أو هل ستعود إلى ذات اللحظة الروحية والنفسية التي تشكلت ببطء وإن بحسم وهي تقرر مغادرة البيت الجديد المخبأ بعد أن انهارت أعصابها؟

إنها مستبعدة طوال الوقت حتى في عملية التخطيط والتدبير لهروب الزوج الذي اختارته وسلكت معه الدروب الصعبة تجد نفسها على الهامش لا أحد يستشيرها، بل ويشك "رفيق" طوال الوقت في قدرتها على الاحتمال حتى إنها أصبحت تشكل تهديدا لحياة المناضل الهارب.

شخصية مترددة

أصبح التردد وعدم القدرة على الحسم أحد مكونات شخصيتها ولكنها واعية - ربما أكثر من اللازم - بكل هذه الحقائق وتسأل نفسها بعد أن أتقنت تمثيل دور الفتاة اللعوب أثناء هروب محمد وحتى لا تكتشف الشرطة وجوده في سيارة رفيق:

هل تحولت إلى المسخ الذي أرادوا لها أن تكونه.. هي الباحثة عن الفرادة وعن المطلق، العارفة بفوضى حياتها وبما يعيبها كامراة في نظر الآخرين؟

"في المطبخ تركت حللا قذرة، وأطباقا في حوض المطبخ وقشر البصل على المائدة، في الحمام تركت ملابسها الداخلية في الدولاب، لو عرفت لسترت ولكن الوقت فات، ولم يعد هنالك مجال للستر".

"إن أشياء المرأة الحميمة التي جعلتها الثقافة التقليدية جزءا من كيانها تعرفها بها قد انكشفت أمام الشرطة التي لا بد أنها كسرت الأبواب وبعثرت الكتب والأوراق والملابس، وعبثت بمفردات بيتها الجديد بيت الحب والسعادة اللانهائية والفناء في الحبيب.. ذلك الحبيب الذي تستدعيه - وهي مقررة - في انتظار أن يفتح لها الباب حين وصلوا إلى بيت الاختباء"

"سيفتح محمد الباب مهما كلفه الأمر" وهي تستدعي من لحظة الفزع والألم ملمح البيت الجديد السعيد.

"ضحك محمد وهو يملأ يديها بزهر المشمش.. كفاية لا أنا عايزة شجرة بحالها؟"

فهي على حد تعبير رفيق "ترفض الواقع وتسعى إلى دنيا على هواها غير الدنيا"، والباب الموصد دونها في برد الشتاء القارس يستبعدها لان الدنيا التي على هواها لا تتحقق إلا بالحب، والحب الآن مستعص بل مستحيل في ظل القهر الشامل، والقهر هو الآن بيت كان ينبغي ان يجعلها مع الحبيب الذي غيبه عنها السجن لمدة عام، وهي تلخص رحتها في الحياة في هذه اللحظة التي تبحث فيها عن ثغرة لتدخل البيت المفارق الحب - القهر.

إنها تلخص الرحلة التي قطعتها المراهقة والشابة خروجا من الطفولة إلى الواقع إلى المعرفة عبر الألم وخيط الدم والقيح وهي تنتقل من حصار إلى حصار "عبرت سامية الممر المفروش بالحصا إلى بيتها الجديد".

ويتجلى الوعي في مواجهة الحلم المستحيل بالتحقق الفريد" ارتفعت سامية إلى درجة أعلى من الوعي بددت الحلم.

وتكشف الواقع العيني قبيحا حانقا، بل إن الرجل الذي أحبته وكادت أن تطارده حتى يهتم بها من بداية العلاقة أخذ ينأى عنها.

"متصالحا مع نفسه، ومكتفيا متكاملا في استغناء عن الآخرين" إن بوسعه إن يتحقق دونها.

هي وهو ليسا نحن.. هو لا يسعى للفناء في المحبوبة التي لا يتحقق وجودها دونه، وهكذا يرتطم حلمها بالأرض وينكسر وتنفجر في حالة هيسترية.

وعلى المرأة سامية من الآن فصاعدا أن تتحقق منفردة.. تتألم منفردة.. تحب ثم تنفصل عن المحبوب دون أن تفقد ذاتها، تتحرر من وهم الفناء في المحبوب وتخرج من البئر العميقة، تلك البئر التي تتكرر في عالم لطيفة الزيات الأدبي، وتترك هذا الفناء في المحبوب جانبا لتستبدل به إحساسا حادا بالواجب توارثته سامية أما عن جدة، استوعبت حياة كل منهما لاغيا ما عداه!

التمرد المكبوت

فهل كان هو الإحساس بالواجب الذي دفعها للنزول من القطار والعودة إلى صاحب البيت؟ أو هي الطاقات الداخلية الهائلة الساعية إلى التمرد في هذه "المجنونة" كما تصف نفسها في ذروة المواجهة مع الخوف والإرث المتراكم طبقات من الانصياع وإلغاء الشخصية؟ إنه التمرد المكبوت ينفجر.

"عيناها في عينيه، ومن عينيه يطل رعب حيواني مجنون من مخاوف بلا ملامح ولا قوام، تقدمت منه المجنونة ومن عينيه تطل الأشباح والعفاريت وأمنا الغولة والملاكان على اليمين واليسار يحسبان السيئات وتلويح أمها باللافائدة والخطأ والعقاب والنار ونظرة أبيها ميتا والتجاهل والاستجداء والعدم والاتهام والإحكام الجائزة وإشاعات وهمسات لا تبين وطرقات على الباب ونور بطارية موجهة على عينيها وخطوات تدب وكأن صاحبها يملك الأرض وما عليها. تقدمت المجنونة من صاحب البيت وكأن شيطانا ركبها وحين حاذته أدركت أن عليها أن تقتله أو تموت"

أما محمد فهو المناضل المتصالح مع نفسه، القوى المتفائل العاشق والزوج المحب والصديق الحنون الذي يجمع حوله الأصدقاء، الواثق بعدالة قضيته، والمكافح الدءوب من اجلها الذي لا يثقله ارث الماضي" فهل هذا صحيح واقعيا أم أنها مقتضيات التجريد التي جعلت إرث القهر والخوف والحصار والاستبعاد خاصا بالمرأة فقط وليس إرثا عاما تتضاعف قوته ضد المرأة"

وكما نعرف عبر السرد فان محمدا هو قائد مبهم في الحركة التي لا بد أن يكتشف القارئ أنها حركة يسارية وأن كانت الكاتبة لا تسميها.

وهو الرجل الذي اختارته البطلة كما اختارت طريقه لتفنى فيه وهي على ثقة أنه "سيفتح الباب مهما كلفه الأمر" لأنه رجل، العزم والتصميم صفتان أكيدتان فيه هو الذي تصفه حبيبته - كما لو كانت تنتقده أو تتهمه بالسطحية، وكأن تفاؤله مرض.

"محمد لا يبرأ من التفاؤل، الإنسان وفقا لرأيه لا يموت إلا حين يتوقف قلبه عن النبض. محمد سيرتخي ويقول حكمته المعهودة : كل واحد عنده ثروة إذا بحث في أعماقه في اللحظة المناسبة يجدها كما لم يحلم بوجودها قط...

الجحيم هو الآخرون

إن محمدا هو ببساطة مناضل يصطدم وجوده بالنظرة الوجودية التحتية التي تسري في العمل كله وترى أن الجحيم هو الآخرون، وهي نظرة منافية على الصعيد الفلسفي والإنساني لكل ما يعتنقه محمد من أفكار وهو المؤمن إيمانا عميقا بقدرات الإنسان وإنسانيته، الذي يكافح بشرف من أجل تغيير الواقع ليكون جديرا بإنسانية الإنسان، ولتنفتح فيه القدرات الكبيرة التي ينطوي عليها كل فرد دون أن يعرفها بسبب القهر والضغوط والمواصفات الاجتماعية - الاقتصادية التي تحد من قدرات الإنسان.. إنه الإنسان المسرور حتى في الألم لأنه يعرف طريقه.. واستغرق محمد في النوم فور أن وضع رأسه على الوسادة..

أما رفيق زميل محمد، الذي ينطوي اختيار اسمه على سخرية ما من الفكرة النضالية التي من المفترض أنه وكل رفاقه يجسدونها، أو لعلها سخرية من تناقض شخصيته - كما ترها سامية فيه - مع هذه الفكرة.

إن به نزعة صبيانية استعلائية، فمغامرته الجريئة لتهريب محمد من السجن تبدو لعبة مثيرة وهو يغيظ بها سامية :

"رفيق يلهو بها كما يحلو له دائما أن يفعل، وهو يلعب لعبة من ألعابه الصبيانية ليثبت تفوقه عليها أمام محمد.. وكأن نزاعا خفيا حول امتلاك محمد ينشأ بينها وبينه. وكان هو رفيق الذي صفعها على وجهها لكي تفيق من حالة الهيستريا التي دخلت فيها حين حاصرها البيت وصاحبه وسكانه، وهي ذاتها اللحظة التي توجت انفصالها عن محمد وكانت مبرر قرارها بالسفر بعد أن :- "قررت أني لست في حجم اللعبة" وما أن انتهت سامية من جملتها "حتى أدركت أن رفيق سيدفع بأن اللعب في دنيانا هذه ضرورة لا اختيار، وأن عليها أن تتقبل الأشياء على ما هي عليه، وإلا ظلت تخبط رأسها في الحائط حتى الموت.."

إن سخرية سامية من رفيق وتوهمها أنها تعرف دخيلته حق المعرفة، لم يمنع الرواية من أن تقرر لرفيق مسار آخر، وهي إشارة إلى تعدد المستويات والأصوات في النص.

أما صاحب البيت فهو شخصية شبه أسطورية محملة بالدلالات المتعددة، وهو الوحيد في العمل الذي يفتقر إلى ملامح واقعية "شيء ما غريب في صاحب البيت هذا العجوز؟! الشاب؟ صوته الضخم لا يتماشى بحال مع جسده القصير النحيل، بمن يذكرها وبماذا؟ وهل سبق أن واجهته بدل المرة مرات؟."

تترك الكاتبة للرواية المزج بينه أي صاحب البيت وبين الشرطي والواعظ والأب ليصبح كما سيسفر وجوده في النهاية هو تراث الخوف مجسدا في شخص هلامي في ملامحه سمات غريبة وغير بشرية، تماما كما في ملامح البيت المهجور ومرآته المشروخة وأثاثه الآيل للسقوط تماما مثلما هو حال البيت القديم..

البيت الجديد إذن لا يمكن أن ينهض على الخوف وإنما على التحرر الحقيقي.

ويؤدي الخوف المادي من الشرطة والخوف المعنوي من القمع التاريخي للمرأة إلى حيلة فنية تسري في العمل كجزء عضوي من نسيجه ألا وهي اللعب.

فما الحياة إلا مسرح كبير ما من شخصية هي نفسها الحقيقة على مستويات عدة. تلعب الرواية بفعل اللعب.. تستدعيه من ماضيها في البيت القديم إلى حاضرها وهي تمثل دور الغانية أمام الشرطة أو دور العروس أما "صاحب البيت".

إن على ما يعبر الباب أن يلعب لعبة صاحب البيت، وخطر في بالها أنها لعبت دائما لعبة "صاحب البيت" ولعب يلعب فهو لاعب، أفضل تعريف للسلوك المطلوب.

"العبي يا سامية العبي، طيلة العمر مقسورة تلعبين، ففيم التعفف الآن، العبي عبر جسدك مهدودا وصوتك يكاد ينحبس،.. العبي.. لملمي مفردات اللعبة من حصيلتك الموروثة والمكتسبة والعبي.."

وبرغم غيابها في السرد المباشر إلا أن شخصية الأم تبقى مهيمنة على العالم القديم والجديد، الأم التي مارست نيابة عن الأسرة والمجتمع كله عملية ترويض الابنة وتقليم أظافرها لتندرج بسلاسة في الأعراف والتقاليد، وبرغم أن الأم لا تبين أبدا، وأننا في الزمن الروائي لا نلتقي بها إلا عبر ذاكرة الرواية فإنها شخصية محورية بالغياب.

أفكار مجردة

يجري تخليص الرواية من كل خلفية واقعية مجسدة فتنهض أعمدتها على الأفكار المجردة، وبرغم أن الحركة الدائرية فيها وبطلها الزمن تنطلق دائما من الملموس إلى المجرد، فان المجرد مهيمن وكأننا بصدد شكل صاف ينقل الصراع السياسي الخفي إلى مستوي ميتافيزيقي بنزعه عن وجوده الواقعي وتخليصه من الصراعات الحياتية اليومية التي كان يمكن أن تشريه وتبرز مقولة وفلسفة الرواية - الكاتبة - البطلة بصورة أشمل وأكثر واقعية في بحثها الدءوب عن المعرفة والحرية والحب.

بل إن السرد ينطلق أحيانا من المجرد إلى الأكثر تجريدا.

وأن تمكن هذا الشعور بأن صاحب البيت كان دائما معها بصورة أو بأخرى يملي عليها دائما وأبدا لعبته، وتساءلت بماذا يذكرها هذا الرجل وبمن؟ بالحاكم الوحيد والأوحد؟ بأبيها؟ بالمعلم يطلب منها أن تفرد يديها؟

وإذا قارنا هذا النزوع للتجريد الذي يفقر حتى النزعة النسوية في العمل.. بل يفقر حتى العمل كله وكأن النبض في داخله هو نبض آلة كاتبة أو كمبيوتر وليس القلب الإنساني، إذا قارناه بأحد المشاهد النادرة التي أدخلتها الكاتبة كعودة معادلة للحالة المعنوية "سامية" وهي تجلس في انتظار تحرك القطار العائد بها إلى البيت القديم.. إلى حضن الأم أو رحمها، سوف نجد أن بابا واقعيا انفتح وجرى إغلاقه في نفس اللحظة.

"في المقعد المقابل بجوار النافذة رأت سامية سيدة ريفية تحمل طفلة نصف ميتة، لم تشعر بمقدمها، لا بد أنها تسللت إلى الديوان على أطراف أصابعها وتوقفت اللبانة في فم السيدة المترملة وقالت :

- حرام يا أختي، رايحة فين بالعيلة دي؟ وتمتمت سامية قائلة : رايحة تدفنها.."

في هذه الصورة المنتقاة من مفردات الواقع الكثيرة نبض حياة فعلية، وفجيعة تسري في الهواء الذي يتنفسه الناس لا من الأعماق الدفينة للروح فيظل الحزن ملموسا قبل أن يقفز بسرعة إلى المجرد والفلسفي ويدور في حلقة الزمن الدائري المفرغة التي يجعل دورانها من هذا الزمن نفسه البطل الحقيقي للرواية على عكس ما يمكن أن نتوقعه من عنوانها عن "صاحب البيت".. أي المكان.. فالزمان هنا يتداخل، الماضي حاضر بقوة في المضارع الذي يمد أذرعته الخرافية إلى المستقبل.

ويشكل الزمن الدائري مأزقا في العمل الأدبي كما في الحياة، حتى ولو كانت هذه الدائرية تحمل في ثناياها احتمالات انفتاح على التمرد من جديد أي خروجا من ركود الزمن، فالبطلة تتحرك - آليا - من البيت القديم الماضي بكل ثقله إلى البيت الجديد الحاضر بثقل أشد ويبقى بيت السعادة الحقة نقطة عابرة في طريق الحركة بين هذين البيتين القامعين المخيفين، وفي وجودهما المهيمن إعلان ضمني بان تلك السعادة العابرة مستحيلة كما هو مستحيل ذلك التناغم الإنساني الذي أبت المؤلفة إلا أن تجعل منه صنوا لا للتكامل وإنما للفناء في الآخر، تقدم لنا الدكتورة لطيفة الزيات في مقال عن تجربتها في الكتابة منشور في نهاية النص الذي أصدرته دار الهلال مفاتيح أساسية لا فحسب لقراءة أعمق لروايتها الجديدة وإنما أيضا للتعرف على مجمل عالمها.

فتقول عن "الباب المفتوح" روايتها الأولى" أن الفرد لا يجد نفسه حقا، ولا يجد حريته بالتالي، إلا إذا فقدها في كل أكبر وأهم منه" وفي مجموعة "الشيخوخة وقصص أخرى". صراع المكتسب في حرية ضد الموروث عن طريق التربية وتصبح جبهة القيم والسلوكيات هي الجبهة التي يرصدها العالم القصصي، وتصور معركة الإنسان من أجل الحرية في هذه المجموعة بوصفها معركة تستطيل ما استطال عمر الإنسان.

وتعرض "صاحب البيت" لألوان عدة من ألوان القهر المحسوسة وغير المحسوسة، التي تنزل بالإنسان وخاصة إن كان أنثى نتيجة لنشأته ونوع التربية التي يتلقاها في هذه النشأة والترويض الذي ينزل به حتى يتواءم مع مجتمع قاصر يرفض الاختلاف ويتطلب التواؤم ويصر على تحويل الناس إلى قطيع من الماشية تقاد فتنقاد..

وتسجل الكاتبة "إن حسي بالشكل الفني للكتابة حس يبلغ درجة الهوس..".

وتضيف: "ولم تكن التقنيات في أي فترة من فترات إبداعي، مرتبطة بتجريب من أصل التجريب، وإنما كانت التقنيات مهمة وحاسمة من حيث نجاحها أو إخفاقها في إيصال رؤيتي للآخرين، وفي الوصل ما بيني وبين الآخرين.."

وبتطبيق رؤيتها النقدية تلك على "صاحب البيت "سوف نكتشف أن هوس الشكل الفني قد استهلكها وكانت النتيجة هيكلا عظميا بارع الإتقان مجردا لا يكسوه لحم، مما اضطرها إلى التكرار والنزعة الخطابية الفخمة والمباشرة مع تعبيرات غير دقيقة أحيانا من قبيل وصف سامية لنفسها بأنها كان مرة كالحنظل، أو "هذه هي حقيقتي التي مسحتم عليها".

 

فريدة النقاش

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات