وقود سائل من الفحم عبداللطيف أبوالسعود

قال "مندليف" يوما: "إن إحراق البترول للحصول على طاقة يعتبر جريمة لا تقل عن جريمة إحراق أوراق النقد للتدفؤ بها ". وكان يشير في ذلك إلى إهدار مادة ثمينة - بما تكتنزه من إمكانات كيميائية هائلة - لأجل غاية ضئيلة. والآن تتسع مشكلة إحراق البترول للحصول على وقود. فالخوف من النضوب، والحسابات السياسية، وتلوث البيئة.. مسائل لم تكن تشغل بال مندليف، لكنها الآن تؤرق العالم والعلماء. ومن ثم تنشط محاولات الحصول على مصادر جديدة للطاقة، فتنتعش آمال، وتولد محاذير.

منذ حوالي 15 عاما، كان خبراء الطاقة، في الولايات المتحدة، يتوقعون أن تصبح بلادهم مكتفية ذاتيا في الطاقة، بحلول عام 1990.
وفي ذلك الوقت، كانت بلادهم تستورد حوالي 30% من احتياجاتها من البترول الخام.
واليوم، وبعد مرور 15 عاما، نجدهم يستوردون 54% من تلك الاحتياجات. وعلى ذلك فإنهم لم ينجحوا في تحقيق هدفهم.

ولذلك. فإنهم يجدون أنه من الضروري التركيز على البحث عن حل لمشكلة الطاقة، خاصة بعد نشوب الحرب في الخليج.

الهندسة الكيميائية الحيوية

الأستاذ "جيمس جادي" هو أستاذ الهندسة الكيميائية في جامعة أركنساس، في مدينة " ليتل روك". وهو يرى أن حل هذه المعضلة يكمن فيما لديهم من تكنولوجيا تكفي لهذا الغرض، كما أن لديهم الرغبة والعزيمة لتحقيق ذلك.

ويوجد في هذه الجامعة معمل لبحوث الهندسة الكيميائية الحيوية، تجري فيه البحوث للوصول إلى طرق للحصول على وقود سائل، كبديل جزئي أو كلي لمنتجات البترول.

إن إحدى المواد الخام الرئيسية التي يستخدمونها في أبحاثهم هي الفحم.

والمعروف أن الولايات المتحدة هي ثالث دولة في العالم من حيث احتياطيات الفحم الموجودة لديها، إذ لديها إمدادات تكفي لحوالي 300 عام.

ويعرف العلماء كيف يحولون الفحم إلى وقود، بطريقة كيميائية، ولكن لا يمكن تحقيق ذلك بطريقة اقتصادية.

ولذلك، فإنهم يعتقدون - أن البديل البيولوجي هو الذي سوف يمكنهم من تحويل الفحم، إلى وقود سائل، بطريقة اقتصادية.

هذه الطريقة تتضمن استخدام كائنات وحيدة الخلية (بكتيريا أو فطريات) يمكنها أن تقوم بعملها بطريقة جيدة، وذلك لتحويل جزئيات معقدة تحتوي على الكربون، إلى كحول.

ولسنوات طويلة عرف علماء الكيمياء العضوية طريقة تحويل الفحم إلى كحول ميثيلي، أو حتى إلى أنواع من الوقود السائل مثل الجازولين، وذلك باستخدام طرق معقدة، تتضمن درجات حرارة عالية للغاية، ومواد مساعدة كيميائية غالية الثمن. وكانت النواتج لا تقابل تكاليف العمليات الكيميائية الباهظة، اللهم إلا في زمن الحرب.

ويرى الأستاذ " جادي " أن الميكروبات يمكنها أن تنتج أنواعا من الوقود السائل، بأسعار أقرب إلى أسعار زمن السلم.

إن إحدى مزايا عمليات التحويل البيولوجي، هي أنها أكبر كفاءة، ذلك أنه يمكن الحصول على ناتج مقداره 95 % أو حتى 98% من كائنات دقيقة تعمل عند درجات حرارة عادية، وضغوط عادية، وفي ذلك مزايا هائلة.

إن إحدى هذه الطرق تستخدم فيها الكائنات الدقيقة، لتحويل الفحم الصلب إلى محلول سائل، يحول بعد ذلك إلى كحول إثيلي، وهو الكحول المعروف الذي يباع في الصيدليات، ويستخدم في تطهير الجروح.

إن هذه الطريقة المباشرة لتحويل الفحم إلى كحول، تم اختبارها في معامل البحوث وحدها وقد تبين أن سرعة التفاعل بطيئة إلى حد ما، ذلك التفاعل الذي يؤدي إلى تحويل الفحم الخام إلى كحول.

يرى الأستاذ " جادي " أنه من الممكن، نظريا على الأقل، حقن مزارع من الأحياء الدقيقة، بطريقة مباشرة، في طبقات الفحم، ثم ضخ السائل المتكون إلى السطح، فيما بعد.

وهذا من شأنه تخفيض النفقات، وتقليل التلف الذي يصيب البيئة، نتيجة لاستخراج الفحم من باطن الأرض. ولما كان تحويل الفحم إلى كحول سوف يتم تحت الأرض، فإن الزمن اللازم لهذا التفاعل لن يكون حرجا.

أبحاث " تحويل الفحم "

ولكن الجزء الأكبر مما يسمى بأبحاث " تحويل الفحم " يتركز على طريقة أخرى، هي امتداد لتكنولوجيا قائمة فعلا.

تعتمد هذه الطريقة على المرور بعملية غاز الفحم التقليدية، لإنتاج مزيج غازي من أول أكسيد الكربون والهيدروجين وثاني أكسيد الكربون.

وهذه التكنولوجيا قياسية، وتجارية، وتستخدم في مختلف بلاد العالم.

ثم تحول مكونات هذا الغاز التركيبي إلى كحول إثيلي، أو إلى أنواع أخرى من الوقود، باستخدام مزرعة بكتيريا، قاموا بعزلها في معاملهم.

وللحصول على هذا المزيج الغازي، يحرق الفحم في وسط تقل فيه نسبة الأوكسيجين، حيث يتفاعل مع الهواء أو بخار الماء، ليعطي غازا ذا قيمة حرارية منخفضة، يحتوي على أول أكسيد الكربون، والهيدروجين، وغازات أخرى.

ومن الناحية التاريخية، نجد أن هذا النوع من الغاز المحضر صناعيا، كان الوقود الرئيسي المستخدم في الإضاءة والطهي، في معظم المدن الأمريكية، في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.

والتكنولوجيا التقليدية التي استخدمت لعدة عقود، تنتج الكحول الميثيلي ( كحول الخشب ) من هذا الغاز، عن طريق تفاعله في وجود عوامل مساعدة، عند درجات حرارة عالية.

وبدلا من العوامل المساعدة، نجد أن طريقة الدكتور " جادى " تستخدم نوعا من البكتيريا، لتحويل غاز الفحم إلى كحول إثيلي، عند درجات حرارة منخفضة.

وتجري هذه العملية في مفاعل حيوي، وهو إناء كبير، توضع فيه البكتيريا، ويمرر فيه غاز الفحم، ليتحول إلى كحول.

وقد عزلت هذه البكتيريا، التي توجد في الطبيعة، عن طريق تعريض التربة الغنية بالبكتيريا، في مخلفات الصرف الصحي، للغاز. وبعد عزلها، أمكن تربيتها.

ولكن، ما هو الوقت اللازم لاستخدام هذه الطريقة لإنتاج الكحول الإثيلي على نطاق تجاري؟ لعدة سنوات، ظل الباحثون يجرون الأبحاث لتطوير هذه الطريقة على مستوى كبير. وأصبحوا قاب قوسين أو أدنى من عرض هذه الطريقة على جماهير العلماء.

أما تطوير هذه الطريقة على المستوى التجاري، فإنه قد يحتاج في أربعة أو خمسة أعوام.

وهناك عدة عقبات في الطريق. وتتركز الجهود الآن على تصميم المفاعل المناسب لهذه العملية..

ومن غير الفحم

إن إحدى مزايا الطرق البديلة لإنتاج الكحول، هي أن للكحول استخدامات تجارية عديدة. وما الوقود السائل إلا البداية.

فنحن نسمع أحيانا عن استخدام الكحول كبديل لجزء من الجازولين في وقود السيارات.

كما أنه من الممكن تحويل الكحول إلى إثيلين، وهو أكثر المواد الكيميائية استخداما في الصناعة، لأنه اللبنة الأساسية في صناعة اللدائن.

يضاف إلى ذلك أن هناك محاولات لتحليل السليلوز، الذي يوجد في الكتلة. الحيوية، لتحويله إلى سكر، يستخدم في صناعة الكحول بطريقة التخمر الكحولي.

والأستاذ " جولدستين " أستاذ في قسم علم الخشب والورق، في جامعة نورث كارولينا يقوم حاليا بدراسة الاحتمالات التجارية للكتلة الحيوية.

وبالإضافة إلى الخشب والورق، فإن الكتلة الحيوية ترمز إلى أي منتجات مشتقة من النباتات، وتحتوي على السليلوز.

والسليلوز مادة كربوهيدراتية معقدة، تعطي النبات شكله وتركيبه. وهو يكون جانبا كبيرا من الأشجار، ومعظم مكونات الخضراوات.

ويبحث الدكتور " جولدستين " ومساعدوه عن طرق للحصول على وقود سائل من السليلوز.

ومثله في ذلك مثل الدكتور " جادي " الأستاذ في جامعة أركنساس، فإنه يركز على الكحول الإثيلي.

ولكن الحصول على الكحول الإثيلي من السليلوز يحتاج إلى تكسير الجزيئات المعقدة للغاية، إلى سكريات بسيطة.

واليوم يجري تحويل النشا إلى جلوكوز، بعمليات كيميائية خاصة.

وبسبب تركيبه الخاص، نجد أن النشا يمكن تكسيره بسهولة.

أما السليلوز، فإنه يصعب تكسيره، وذلك بسبب تركيبه البلوري. كما أنه لا يوجد لدينا إنزيم يمكنه تكسير السليلوز، بينما توجد إنزيمات يمكنها تكسير النشا إلى مكوناته.

ويرى الدكتور "جولدستين" أن تكسير السليلوز، وهو عملية تعرف بالتميؤ، منتشر في الطبيعة.

لننظر إلى أرض الغابة. ففي دورة الكربون التي تحدث على الأرض، نجد أن المواد السليلوزية التي تكون الأشجار والنباتات، يعاد تدويرها بفعل الإنزيمات، والأحياء الدقيقة.

ولكن هذه العملية بطيئة نسبيا، إذ يحتاج الأمر إلى أزمنة طويلة لإتمام هذه العملية.

تحويل السليلوز إلى جلوكوز

ولذلك، نجد العلماء، في معاملهم، يكسرون السليلوز بواسطة التميؤ بالأحماض، بدلا من التميؤ بالإنزيمات.

إلا أن هناك بعض معامل الأبحاث، التي تحاول تطوير عملية تميؤ السليلوز بالإنزيمات.

والدكتور " جولدستين " ومساعدوه يستخدمون الأحماض المركزة، عند درجات حرارة منخفضة لتحويل السليلوز إلى جلوكوز، يلي ذلك تخمير السكر، باستخدام الكائنات الدقيقة، لتحويله إلى كحول إيثلي.

وبالرغم من أن الخشب مصدر للسليلوز، يمكن الاعتماد عليه، فإنه قد يكون من الأفضل استخلاص المادة الخام، اللازمة لإنتاج الكحول، من شيء لا يحتاج إليه أحد، ألا وهو القمامة.

وحسب المصدر الذي تأتي منه النفايات الصلبة، فإنها قد تحتوي على خمسين في المائة من المواد السليلوزية، التي يمكن تحويلها إلى مواد مفيدة، مثل الكحول، وغيره.

وقد صرح الدكتور " جولدستين " بأنه، وفريقه البحثي، على وشك اختبار التكنولوجيا التي توصلوا إليها، لتحويل السليلوز إلى كحول، على مستوى كبير، بما يكفي لجذب الاهتمام التجاري.

وقد عبرت بعض الشركات عن اهتمامها بهذا المشروع المفيد.

ويلاحظ أن ضغط تناقص المساحات التي تتسع للقمامة، قد أدى إلى قيام العديد من البلديات بإنفاق مائة دولار أو أكثر، لكل طن من القمامة، للتخلص منها. وهذا يعطي قيمة سالبة لمكونات نفايات البلديات.

ولذلك، فإن عملية يمكنها أن تقوم بتحويل القمامة إلى مواد مفيدة، هي عملية يمكن أن يكون لها ميزة اقتصادية إضافية.

والسليلوز ليس هو المكون الوحيد للكتلة الحيوية. إذ إن الأشجار، وغيرها من النباتات الخشبية، غنية بمادة كيميائية أخرى اسمها اللجنين.

ويلاحظ أن الكحول الميثيلي يطلق عليه أحيانا اسم كحول الخشب، لأنه يستخلص من الجزء اللجنيني من الشجرة.

ويمكن استخدام الكحول الميثيلي كوقود سائل، ولكن ميله لامتصاص بخار الماء، بالإضافة إلى بعض المشكلات الأخرى، المتعلقة بالتخزين، تجعله وقودا غير مثالي للمحركات.

الإغراق الكيميائي

والباحثون في شركة " تكساكو " للزيت يقومون بدراسات على اللجنين، ليس كمصدر للكحول الميثيلي، ولكن كمادة خام لصناعة المواد النشطة سطحيا.

والمواد النشطة سطحيا، شأنها في ذلك شأن المنظفات، تجعل السوائل تنزلق بسهولة أكبر. وعندما تمتزج بالبترول الخام، عميقا تحت الأرض، نجدها تساعد البترول على السريان خلال الصخور المسامية، في حوض البترول، إلى الآبار، حيث يمكن استخراج البترول من باطن الأرض.

وهناك باحثون يقومون بدراسة هذه الطريقة للإغراق الكيميائي، كطريقة لعصر البترول الخام من حقول كان يعتقد أنها نضبت.

إن تكنولوجيا الإغراق الكيميائي يمكنها استعادة البترول الخام، ولكن هذه الطريقة لا يمكن استخدامها لعدة أسباب: فالمواد الكيميائية اللازمة مرتفعة الثمن للغاية، كما أنها متاحة بكميات محدودة.

وثمة من يرى أنه من الضروري تذكر الدروس التي تعلمناها في السبعينيات، وأوائل الثمانينيات، ذلك أنه كان هناك عدد من مشروعات الإمدادات البديلة من الطاقة، التي كانت تفكر فيها عدة صناعات وعدد من العلماء. إلا أن كثير من هذه الأفكار لم تنجح أبدا.

والكثير منها حصل على دعم فيدرالي كبير، مثل مشروعات الوقود التركيبي، التي تبين أنها أغلى كثير مما كانوا يأملون في البداية.

ثاني أوكسيد الكربون

ونواجه اليوم نوعا جديدا من المحددات البيئية، لم يكن موجودا منذ عقد مضى ذلك أن العلماء يقلقهم اليوم انطلاق ثاني أوكسيد الكربون، الذي هو ناتج جانبي لا يمكن تجنبه، عند إحراق أنواع الوقود.. الحفري.

وإذا انتقلنا إلى استخدام الوقود التركيبي المصنوع من الفحم، كبديل للبول، فإننا سوف نصل إلى زيادات كبيرة من ثاني أوكسيد الكربون في الجو المحيط بالكرة الأرضية.

ويرى السيد " فليفن " أن سياسة الطاقة المؤثرة المستقبلية، يجب أن تؤكد على الجانب الرئيسي من المعادلة، ألا وهو المحافظة على الطاقة، بالإضافة إلى إمدادات أنواع الوقود البديلة.

ويعتقد الخبراء أنه سوف يمكن تحقيق نجاح كبير، متى أمكن التوصل إلى تكنولوجيا تقلل من استهلاك الطاقة، وتزيد من استخدام الكحول، وغيره من أنواع وقود الكتلة الحيوية.