الحشرات الاصطناعية: فلسفة جديدة في علم البرمجة الآلية عدنان عضيمة

الحشرات الاصطناعية: فلسفة جديدة في علم البرمجة الآلية

لعل من أطرف الابتكارات الهندسية التي تفتقت عنها أذهان العاملين في تطوير برمجة (الروبوتات) والآلات الصغيرة ذات القدرة على القفز والمشي هي الحشرات الاصطناعية.

تمكن باحثون من معهد ماساشوسيتس التكنولوجي (MIT) من تفريخ جماعة منها أطلق على أولها اسم (جنكيز) Genghisالشبيهة باليعسوب، ثم (أتيلا) Attila الشبيهة بالعقرب. وهي تحاكي في بعض سلوكاتها صفا من الحشرات الطبيعية يدعى (مفصليات الأرجل) Arthopods. وفضل عالم الإلكترونيات والروبوتات الأمريكي (ديودني) أن يسميها Insectoids ورأينا أن نسميها بالحشرات الاصطناعية) لتمييزها عن الحشرات الطبيعية Tnsects ولا يشك علماء الإلكترونيات في أن ابتكار الحشرات الاصطناعية فتح بابا جديدا لتطور واسع المدى في علم برمجة الآلات الذكية.

ومنذ عهد قريب، عقد المهندسون العاملون في حقول الإلكترونيات العزم على تصميم دماغ آلي صالح للزرع في العديد من أنواع الآلات والأجهزة المبرمجة. وكانوا في بعض الأحيان يشعرون بأنهم على وشك تحقيق هذا المسعى، وأحيانا أخرى يشعرون بالإحباط الكبير بعد أن اتضح لهم أن الأمر على درجة عالية من التعقيد.

ولقد كان عليهم قبل كل شيء أن يحددوا نوعية الأحاسيس التي يمكن للجهاز أو (الروبوت) أن يشعر بها، ثم البحث في تحقيق الطرق والآليات التي تجعله قادرا على تحليل الأحاسيس التي يلقتطها. وكان عليهم في الأخير البحث في ابتكار أنظمة تسمح بالاستجابة لهذه الأحاسيس بالاستجابة لهذه الأحاسيس بطريقة موجهة ومضبوطة والتصرف بموجبها. وكانت كل من هذه الخطوات محفوفة بالمصاعب والتعقيدات التي أوشكت أن تثبط عزائم المصممين وتصرفهم عن التفكير فيها تماما. ولقد قرر المهندس الإلكتروني الأمريكي رودني بروكس، الذي يعمل مديرا لمختبر الحشرات الاصطناعية في معهد ماساشوسيتس التكنولوجي في بوسطن، أن يوجه هذا التحدي عندما لجأ إلى ابتداع فلسفة هندسية جديدة في علم البرمجة أطلق عليها: (فلسفة الهندسة القاعدية).

فلسفة الهندسة القاعدية

تمكن بروكس من حل جزء مهم من معضلة التوصل إلى ابتكار جهاز يمكنه أن يحس، وأن يقرن إحساساته بسلوكات معينة يراد منها أداؤها. واستند في ذلك إلى فلسفة خاصة استقاها من خبرته الشخصية في برمجة الآلات. وتستند هذه الفلسفة على حقيقة عملية تفيد أن بناء جهاز قادر على القيام بوظيفة معقدة لا بد أن يتم وفق مجموعة من الخطوات ذات درجة التعقيد المتصاعدة. وأولى هذه الخطوات تتمثل في تزويد الجهاز بمجموعة أنظمة يسمح كل منها بأداء جزء بسيط من هذه الوظيفة ، ليتم بعد ذلك تزويده بنظام يسمح بتحقيق التناسق المبرمج بين هذه الأنظمة القاعدية البسيطة، وبذلك يتحقق للجهاز البرنامج السلوكي المعقد الذي يطلب منه أداؤه.

ومن أجل تجسيد فلسفته هذه عمليا، عمد بروكس إلى تصميم شبكة من المعالجات والمكونات الصلبة القادرة على تجسيد السلوكيات البسيطة. وعزف عن إضافة الآليات الأكثر تعقيدا التي تحقق السلوكات المعقدة، كالقوة على السير والحركة إلا بعد نجاحه في تشغيل السلوكيات القاعدية البسيطة. وتغلب بروكس بذلك على الكثير من العقبات التي واجهته عندما شرع في تصميم حشرة اصطناعية ذات خصائص سلوكية معينة. فلقد عمد أولا إلى تجمع حشرة تتحرك عشوائيا، ثم أضاف إليها المجسات detectors والمعالجات الإلكترونية التي يمكنها تحس الأشياء وتحديد الوضعيات لتعطي الأوامر للحشرة بتغيير اتجاهها وفقا لما يطلب منها. وعلى العموم يمكن القول إن فلسفة الهندسة القاعدية حققت حلم التوصل إلى بناء أنظمة للسلوكات الاصطناعية المعقدة انطلاقا من مجموعة أنظمة للسلوكات البسيطة.

تجسيد فلسفة بروكس

وجه بروكس طلاب الدراسات العليا الذين كان يشرف عليهم في معهد ماساشوسيتس التكنولوجي خلال عام 1991 إلى تجسيد فلسفته عمليا عندما قام ببناء وتصميم بعض الحشرات الاصطناعية التي لا يتعدى حجم الواحدة منها حجم الجرادة أو الجندب. واتضح إثر ذلك أنه ما من واحدة من هذه الحشرات أمكنها تجسيد فلسفة الهندسة القاعدية كجنكيز الذي يتألف من مجموعة محركات صغيرة، وستة عكازات (سيقان)، ومسننات ناقلة للحركة gears ، وبعض الرقاقات المصغرة micrdchips، وقرني استشعار whiskers، وست أعين حساسة للأشعة تحت الحمراء مزروعة كعصابة فوق الرأس. وتشغل كل ساق بواسطة زوج من المحركات يدعى أحدهما (محرك ألفا) وتنحصر وظيفته بتحريك الساق للأمام والخلف، و(محرك بيتا) الذي يحرك الساق نحو الأعلى والأسفل وبعيدا وقريبا عن الجسم. وثبتت بين سيقان جنكيز رقاقات متناهية الصغر تعمل كمركز عصبي للحشرة. وتحتوي الرقاقات على ما يسمى في علم هندسة الروبوتات ب (آلات الحالة النهائية) Finite State Mochines التي تختزن كل واحدة منها معلومات رقمية تسمح لها بالتحكم بمختلف المظاهر السلوكية لجنكيز، كتحريك الأقدام مثلا. وتتغير المعلومات التي تختزنها آلة الحالة النهائية من وقت لآخر وذلك وفقا للتعليمات التي تتلقاها من الأنظمة المعلوماتية الأخرى المزروعة في جسم جنكيز.

على أن الضابط الرئيسي لمشية جنكيز يدعى (نظام توازن ألفا) Aeph Balance الذي تتدفق فيه التعليمات والتقارير على شكل أرقام عشرية تتوافق مع وضعيات السيقان الست. فالرقم الموجب يعني أن الساق متجهة إلى الأمم، والسالب يعني أنها متجهة إلى الوراء، والصفر يعني أنها في وضع عمودي على محور الجسم. ونظام توازن ألفا يجمع كل الأرقام الموافقة لوضعيات السيقان الست إلى بعضها جمعا جبريا ليكون المجمع على شكل رقم متوسط. فإذا كان هذا الرقم موجبا فإن هذا يعني أن الحركة الإجمالية للسيقان تتم إلى الأمام ، وإذا كان سالبا فإن حركة السيقان تكون إلى الوراء ، وإذا كان صفرا فإن جنكيز يكون متوازنا في مكانه. ويمكن تفهم الطريقة التي يمشي بها جنكيز بكل بساطة بناء على جملة الأنظمة التي أتينا على وصفها. حيث يصدر نظام توازن ألفا أمرا لإحدى السيقان بالارتفاع عن مستوى الإسناد بينما تبقى السيقان الخمس الأخرى ملامسة له. وتحقق الحشرة خطوة إلى الأمام عندما يصل إلى كل من السيقان الخمس المستندة على المستوى الأمر بالتحرك إلى الوراء مما يؤدي إلى انزياح جسم الحشرة إلى الأمام استنادا لمبدأ الفعل ورد الفعل، وفي الخطوة التالية تضع الحشرة ساقها المرفوعة على المستوي لتكون بذلك قد أكملت خطوة صغيرة إلى الأمام ولكنها تعد في الواقع قفزة جبارة لعلم الروبوتات برمته. ولا بد من الإشارة إلى أن حركة أرجل الحشرات الطبيعية، كالصرصور مثلا، أكثر تعقيدا من ذلك بكثير. وما زال خبراء تصميم الحشرات الاصطناعية يحاولون جاهدين التوصل إلى برمجة حشراتهم بحيث تحقق نفس التعاقب الطبيعي لأرجل الحشرات الطبيعية أثناء المسير.

نظام الرؤية في الحشرات الاصطناعية

إن مجسات الأشعة تحت الحمراء في الحشرات الاصطناعية infrared sensors التي تعد بمنزلة الأعين، جسدت المستوى الثاني من مستويات النجاح في تحقيق فلسفة الهندسة القاعدية عمليا. فهذه المجسات تعمل بالتزامن مع نظام الحركة بما يوفر لجنكيز درجة أعلى من القدرة على التصرف والسلوك.

وفي هذا النظام من المجسات يبقى جنكيز على دعته وسكونه حتى يتحسس الإشعاع الأحمر الآتي من مصدر ما كرسغ قدم إنسان مر بقربه مثلا (لأن جسم الإنسان يشع حرارته على شكل إشعاعات تحت حمراء)، فيبدأ عندئذ بالحبو إلى الأمام باتجاه مصدر الإشعاع كالحشرة تماما. وبناء على هذه التقنية يمكن تحريك الحشرات الاصطناعية في جميع الاتجاهات المطلوبة.

ويتوقع بروكس وطلابه أن يتمكنوا قريبا من إضافة أنظمة قاعدية أخرى تسمح لجنكيز ولغيره من الحشرات الاصطناعية بالاستجابة للأصوات وإقامة أسس لتحقيق سلوكات مبرمجة تستند إلى نوعية هذه المؤثرات وقوتها وأماكن وجود مصادرها.

وإذا كان بروكس قد نسي أن يعلن عن الفوائد التي ابتغاها من وراء تصميم وبناء الحشرات، فإن مما لا شك فيه هو أن طرحه وتجسيده لفلسفة الهندسة القاعدية يعتبر في نظر المهندسين المتخصصين في الروبوتات وبرمجة الآلات الذكية تطورا كبيرا قد لا يستطيع أحد التكهن بنتائجه وفوائده المستقبلية.

 

عدنان عضيمة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الحشرات الاصطناعية فلسفة جديدة في علم البرمجة الآلية