لاجئو العراق...مأساة النفي والطرد والجوع حميد العنزي

لاجئو العراق...مأساة النفي والطرد والجوع

عشرة أيام قضتها الهلال الأحمر الذين تطوعوا لتوزيع المساعدات على اللاجئين العراقيين من منطقة الأهوار. وسط خيامهم المتناثرة في معسكرات على حدود إيران. شاهدت العربي واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في عصرنا. لقد أحرق النظام العراقي أرضهم وسمم أبارهم وأرغمهم على مغادرة ديارهم في رحلة شتات لم تنته حتى الآن . إن أفراد الهلال الأحمر الذين تطوعوا لتخفيف حدة هذه المأساة الإنسانية لم يأتوا فقط حاملين المواد الغذائية والأدوية والأشياء الضرورية الأخرى ولكنهم أتوا ليثبتوا بالدليل العملي كذب ادعاءات النظام العراقي عن رغبة الكويت في تجويع الشعب العراقي، إن الأيدي الكويتية تمتد هنا حاملة الخير في الوقت الذي امتدت فيه أيدي النظام الذي كان يحكمهم بالموت والدمار.

ونحن في الجو امتزجت ظلمة السماء مع عتمة الطائرة لتثير داخلي شعورا غريبا حملني عبر خمس سنوات استرجعت فيها شريط ذكريات الاحتلال البغيض ويومياته. كانت هذه هي زيارتي الأولى لطهران ، وعبرت بنا الطائرة الكويتية الخليج العربي لنبقى في العاصمة الإيرانية لمدة يومين التقينا خلالهما بعض المسئولين المعنيين بشؤون اللاجئين العراقيين الذين يقيمون على الأراضي الإيرانية بدأناها بالسيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية العراقية الذي استقبلنا في مكتبه بابتسامة مرحبة ثم أخذ يحدثنا عن الخلفيات التاريخية التي أدت إلى مأساة هؤلاء اللاجئين الذين يدفعون من أمنهم وحياتهم اليومية ثمنا لذنب لم يرتكبوه قال الحكيم: "منذ أن تولى نظام البعث الحكم في العراق بدأ بعمليات تهجير واسعة ، توازت معها عمليات تهجير معاكس حيث هجر الأكراد من مناطق الشمال إلى جنوب العراق أعوام 71، 1972، 1974 م بهدف إخلاء هذه المناطق، كما كانت هناك عمليات تهجير من المناطق الوسطى والجنوبية تحت ذريعة مفادها أن سكان هذه المناطق (الجنوبية) من أصل فارسي أو غير عربي ، فقد كان العراق في السابق محكوما من قبل السلطة العثمانية لفترة ويجاور إيران منذ زمن بعيد لفترة أخرى ، فالسكان كان يحمل بعضهم الجنسية الفارسية باعتبار أنه لم تكن في تلك الفترات سلطة أو دولة عراقية إلى أن تشكل الحكم الوطني بعد الحرب العالمية الأولى وثورة عام 1921 م بدأ حينها تسجيل المواطنين العراقيين بناء على أوراق ثبوتياتهم السابقة ، فمن كانت أوراقه تركية بقي عليها ومن كانت أوراقه إيرانية بقي أيضا عليها والنتيجة بقي هؤلاء عراقيين يحملون جنسيات غير عراقية. وعلى هذا الأساس قام النظام العراقي بعمليات تهجير واسعة ضد من كان أحد أجداده يحمل الجنسية الإيرانية مع أن الكثير منهم في الأصل عرب من القبائل العربية العراقية، وفي الأحداث السياسية الأخيرة ضمن السنوات الثماني للحرب العراقية الإيرانية هجرت أيضا أعداد كبيرة تحت ذرائع سياسية وغير سياسية وتم إخراجهم من العراق بعد سلب أملاكهم ثم تصاعدات الأحداث بشكل حاد عندما تحرير الكويت من براثن احتلال النظام العراقي عندما انفجرت انتفاضات شعبية واسعة في أرجاء العراق وثار الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال، وقام النظام بسحق هذه الانتفاضات بقسوة وقارب عدد الموتى نصف أفراد الشعب العراقي، بعدها تم تهجير حوالي مليون ونصف المليـون من منـاطق العـراق المختلفة الشمالية بالجنوبية، وكان لهذه الهجرة وقعها السيئ داخل العراق وشكلت عبئـا ثقيـلا في الخارج على المناطق التي يلجأ العراقيـون إليها وخصوصا إيران وتركيا المجاورتين، فأغلقت الأخيرة حـدودها أمام هـذه الهجرة في البداية ولكن بسبب الضغط النـاتج عن الأعـداد الكبيرة وسوء الأحوال التي كانوا عليها فتحت لهم ملاجئ الإيواء ودخل إلى تركيا حوالي 400 ألف عراقي مهجر، ولجأ إلى إيران مليون ومائة ألف آخر، وتتركز أكثر مخيماتهم في إقليم خوزستان الذي يضم وحده عشرة مخيمات يعيش فيهـا نحو 700 ألـف شخـص تحت إشراف السلطات الإيرانية ". وأضـاف السيـد الحكيم أن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية العراقية يقوم بمهام كبيرة لتسيير أمور هؤلاء المهـجرين العراقيين أهمها محاولة تذليل العقبات التي تواجه اللاجئين مع الدوائر المختلفة في إيران حيث يقوم المجلس  بدور حلقـة الوصل بين اللاجئين والـدوائر الحكـومية، كـذلك شكل المجلس لجان إغاثة داخل إيران وخـارجها وقام بـالتحرك من خلال هذه اللجان للتعـاون مع المنظمات الإنسانية التي تهتم بشؤون اللاجئين. ومن ناحية أخرى فإن أطفال هؤلاء اللاجئين في حاجة إلى التعليم وتوفير الخدمات الثقافية لهم ويقوم المجلس بقدر الإمكـان بافتتاح مدارس للبنين والبنات وتغطية ما تحتاج إليـه هذه المدارس من مصاريف ويعاني هؤلاء المهجرون أوضاعاً صحية متردية وتنتشر بينهـم العـديد من الأمراض مثل الإسهال الدموي والحميات بأنواعهـا وسوء التغدية، لذلك شكل المجلس أيضا مجموعة لجان صحية تعنى  بهؤلاء المرضى وأقيمت مراكز صحية في بعض المخيمات وتقوم هذه اللجان بتوجيه نداءات للمنظمات الإنسانية؟ وقـد استجاب بعضها كـالمنظمة الإيطالية التي قـامت بتأسيس مستشفى في منطقة ديسفول كما أسست منظمة (عمار) التي قام سمو أمير دولة الكويت الشيخ جـابر الأحمد الصباح بـالتبرع لها من أجل تأسيس مستشفى آخر وبعض الفرق الميـدانية التي أرسلتها منظمـة الصحة العالمية. وحول الدور الكويتي أوضح السيد الحكيم أن جمعية الهلال الأحمر الكويتي قدمت في جولاتها على المخيمات العراقية الكثير من المساعدات التي كانت على درجة عالية من الأهميـة لأنها احتوت على المواد الغذائية والأدوية والمنظفات التي يحتاج إليها اللاجئون، كذلك سبق أن قدمت الحكـومة الكويتية ممثلة بمكتب سمو أمير دولة الكويت ومكتب سمو ولي العهد مساعدات للمواطنين العراقيين المهجرين على مستوى الخدمات الصحية والغذائية وهي تتواصل على الدوام مع المجلس الممثل لهؤلاء اللاجئين للوقوف على احتياجاتهم، وفي مقابلة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية العراقية مع وزير التربية الكويتي الدكتور أحمد الربعي أبدى د. الربعي استعداد الكويت للمساعدة في إنشاء مدارس وتزويدها بالكتب والمناهج الدراسية وعن الأكـاذيب التي يروجها النظام العراقي ضد الكويت وشعبها- اعتبر الحكيم النظام العراقي كمن " يقتل القتيل ويمشي بجنازته " أو كما يقول المثل العربي القديم "رمتني بدائها وانسلت" فهذا النظام الجائر في بغداد هو سبب تجويع الشعب العراقي والسياسات العدوانية التي ينتهجها بعدم التزامه بقرارات الأمم المتحـدة المباشرة والصريحة، وتمنى السيد الحكيم من العرب والمسلمين والمنظمات المختلفة الالتفات لقضيتين رئيسيتين: الأولى أن الشعب العـراقي شعب عربي ومسلم ويحتاج إلى الاهتمام والمساعـدة من الشعوب العربية والإسلامية ولا يصح أن يترك يعاني وحده وطأة هذا النظم الجائر. والثانية هي وجوب التمييز بين الشعب العراقي والنظام وإدراك أن السبب في معاناة العراقيين هو السياسات التي يتبعها النظام ومن واجب الدول العربية ممارسة الضغوط على هذا النظام ليخفف من قبضته على أبناء الشعب المقهور.

كانت المشكلة الأولى التي واجهتنا هي بحث سبب تأخير الشحنة الجديدة من المساعدات الكويتية في ميناء شيراز الإيراني، وبعد اتصالات مع الهلال الأحمر الإيراني تبين لنا أن سبب بقائها لمدة أربعة عشر يوما في الميناء هو إجراء جمركي، وفور وصولنا للمخيمات العراقية كانت الشحنة جاهزة، وبينما كـان مندوب الهلال الأحمر الإيراني يرتب لنـا الرحلات إلى المخيمات في إقليم خوزستان كان لنا لقاء مع السفير الكويتي في طهران عبدالله الدويخ الذي تحدث عن المساعدات ودور السفارة في توزيعها الذي يتمثل في التنسيق مع الجهات المختصة في إيران وإرسال مندوبين من السفارة مع الوفد الكويتي إلى المينـاء لتسلم شحنـات المعونـة وتوزيعها وكذلك إشراك المسئولين في مكتب السيد الحكيم في توزيع المعونات باعتبارهم طرفا مهما ولديهم معرفة بالنازحين ولديهم أيضاً ملفات وأسماء وقوائم، والسفارة لا تستغني عن دورهم في تزويدها بالمعلومات وتأتي هذه المبادرة الحكومية والشعبية الكويتية دليلا على الموقف الحقيقي للكويت والكويتيين وقد كـان لهذه المساعدات أثر طيب في نفوس المهجرين العراقيين والمعارضة العراقية.

وقال السفير الدويخ: إننا نؤمن بالأدلة الواقعية ، فهناك وفود كويتية تقدم المساعدات للشعب العراقي النازح من جحيم نظامه فهذا شاهد وبرهان على أن الكـويتيين مع الشعب العراقي قولا وعمـلا. وختم السفير حديثه بأن النظام الحاكم في بغداد أعطيت له فرص كثيرة لاستغلالها في مساعدة شعبه ولكنه مع الأسف الشديد يصر على موقفه في عزله وتجويعه برفضه الانصياع للقرارات الدولية الخاصة بالسماح له ببيع جزء من نفطه لشراء معونات وأدوية، وهذا دليل واضح على أن النظام في بغداد هو الذي يريد تجويع شعبه ولا أحد سواه.

وفي اليوم التالي انطلقت بنا الطـائرة إلى إقليم خوزستان الإقليم الذي يجمع أكبر عدد من مخيمات اللاجئين التي تنقسم على النحو التالي: مخيم " بعثة" ويقع في مدينة ششتر ومخيم خرم شهر اللذان تشرف عليهما جمعية الهلال الأحمر الإيرانية " وهناك عدد آخر من المخيمات تشرف عليها وزارة الداخلية الإيرانية منها مخيم شهيد بني النجار ويقع في مدينة ششتر ومخيم الشهيد أشرفي أصفهاني ويقع في مدينة ديسفول مع مخيم الشهيد مطهري ومخيم الشهيد بهشتي أما مخيم أنصار فيقع في مدينة إنديمشك ومخيم سريفستان ويقع بمدينة سريفستان ومخيم جوهرام ويقع في مدينة جوهرام، ومخيم إبراهيم أباد الذي يقع في مدينة إبراهيم أباد، تبقى من هذه المخيمات فقط سبعة حيث ألغيت الثلاثة الأخيرة فيما بعد لتقلص أعداد اللاجئين فيها أو بالأحرى لهروبهم منها بسبب الأحوال الجوية القاسية شتاء وصيفا أو ضغط الظروف الاجتماعية في البحث عن بعضهم. ومن الملاحظ أن المخيمين اللذين تشرف عليهما جمعية الهلال الأحمر الإيراني يمتازان عن غيرها بـالنظام والنظافة، وأكبر هذه المخيمات هو مخيم أشرفي أصفهاني حيث يضم ما بين 11 إلى 12 ألف عراقي مهجر فضلا عن باقي المخيمات المنتشرة في باقي مناطق إيران التي يصل عددها إلى 50 مخيما، من مطار الأهواز المنطقة الواقعة جنوب غرب إيران التي تتجاوز فيها درجة الحرارة 48 درجة مئوية، أخـذتنا سيارات الجيب الخاصة بالهلال الأحمر الإيراني إلى استراحة فرع الجمعية وكان بانتظارنا مفاجأتان: الأولى أن الشحنة الجديدة من المساعدات الغذائية والإنسانية القادمة من ميناء الشويخ، الكويتي لم تخرج حتى اللحظة من جمارك ميناء بوشهر الإيراني، أما المفاجأة الثانية فهي وجوب قيامنا فورا بالرحلة الأولى إلى المخيم الأول، كان البرنامج يوضع لنا بشكل مفاجئ من مندوبي الهلال الأحمر الإيراني الذين قاموا بإخراج كميات من الشحنة الأخيرة التي لم يتم توزيعها بعد من المخازن ودعوا الفريق الكـويتي ليقم بتوزيعها بنفسه على مستحقيها من اللاجئين العراقيين.

بين المخيمات

بدأت رحلتنا لمخيم أنصار في مدينة " إنديمشك" الذي يبعد حوالي 148 كيلو عن مدينة الأهواز أي ما يوازي ساعتين في السيارة وعلى طريق وعرة يزيد من وعورتها لهيب الشمس ودفقات الهواء الساخنة التي تصطدم بوجوهنا. علمنا أن عدد الموجودين في مخيم أنصار يقارب 928 عائلة يتراوح عدد أفرادها بين شخصين وسبعة عشر شخصا وتقسم هذه العائلات إلى عشرة قواطع، ولكل قاطع مشرف وكشف بالأسماء، كما أن هناك ما يقارب 40 عائلة غير مسجلة في كشوف، لأنها دخلت دون إذق بينما أسماؤها مسجلة في مخيمات أخرى، وتوجد في هذا المخيم مدرستان ابتدائيتان إحداهما للبنين والأخرى للبنات يدرس فيها مدرسون ومدرسات عراقيون وفقا لمناهج مختلفة من دولة الإمارات ودولة الكويت كما توجد في المخيم وحدة صحية يقوم بالإشراف عليها مسلم حيات (عراقي مهجر) الذي ذكر لنا أنه يوجد ما يقارب 80 حالة مرضية مزمنة علاجها باهظ ومكلف وقد توافدت الأسر الموجودة في هذا المخيم من مختلف منـاطق الأهوار العراقية من السماوة والعمارة والناصرية والزبير وبعضهم جاء من البصرة بعده تجفيف مياه الأهور وتسميمها مياهها وملاحقة أبناء المنطقة والتنكيل بهم وحرق منازلهم ومحاصيلهم.

في المخيم كانت بانتظارنا سيارات شحن كبيرة محملة بهدايا الشعب الكويتي كما كتب على لافتات تغطي الصناديق والمكونة من صندوقين لكل عائلة أحدهما متوسط الحجم والأخر كبير. ولدى اقترابنا من بوابة المخيم أحاطنا الأطفال من كل جانب بفرحة بائسة، كانوا في حاجة إلى كل شيء، أحدهم يريد ملابس وثان يريد حذاء حديدا وآخر يتمنى كرة يلعب بها مع أصدقائه يقول إنه شكل فريقا منذ فترة وسيلته قطعة حجر غالبا ما تدمي الأرجل.

وجاء طفل يسال زميلي المصور: "عمي متى نرجع لبيتنا في العراق" ؟ عجز حسين عن الرد على تساؤل هذا الطفل الذي كان يعبر عن تساؤلات جميع من بالمخيم أطفالا وشيوخا، نساء ورجالا، فمسحت على رأسه وقدمت له قطعه شيكولاتة وقلت له: تعود إن شاء الله لبيتك ونزورك وقتها. قلت ذلك وأنا أدرك أن كلماتي لم تقدم إجابة شافية لتساؤلاته البريئة.

اصطفت سيـارات الشحن في زوايا المخيم وقسم الفريق إلى عدد السيارات وتقدم مندوبو القواطع بكشوف الأسماء ولكن المعـونات وزعت على من بالكشوف ومن ليس بها، وفرحة الأطفال تكاد تقفز من أعينهم، أثناء ذلك أخذتني قدماي وزميلي المصور في جولة بين هذه الجموع وكانت وقفتنا الأولى مع السيدة زهرة إنها ربة أسرة وزوجة لمواطن عراقي كانت مأساته أنه في صفوف المعارضة العراقية وهي وأم لثمانية أبناء وبنـات وجـدة لطفلين يتيمي الأب وعندمـا هبت الانتفاضة الشعبية في جنوب العراق منذ أربعة أعوام كانت وحميدة ليس معها زوجها واستعانت بكل ما لديها من قوة كي تأخذ أولادها وتهرب، وحتى الآن لا تعرف شيئا عن مصادر زوجها، هل هـو حي، أو أن النظام قضى عليـه كما قضى على مئات الـذين تجرئوا على المعارضة.

تقول السيدة وهي تكمل حكاية المأساة : لم يبق لي أصابها الهون والذعر من هجمة الجنود بالمدرعات وقصف الطائرات والمدفعية وفرت هائمة دونما اتجاه، لقد حاول أن يبقى لعله يستطيع الإفراج عن طفلة السجين ولكنه بعد أن يئس من ذلك قرر اللحاق بباقي أسوته وقد بحث بين المخيمات المختلفة عدة أيام حتى عرف أنهم في مخيم أنصار. ويتذكر إسماعيل حياته الرغدة وأملاكه في العراق وكيف كان يزوره أصدقاؤه الكويتيون ويزورهم. لقد انتهت هذه الحياة وأصبحت ذكري وتحول وأسرته إلى حياة التشرد فهو لا يعلم أن من العمـر شيء ولست خائفـة على نفسي لكن جل خوفي ينصب على المتبقي من أبنائي وبناتي وأطفالهم بعد قتل اثنين منهم وسجن والآخر وأرجو أن تكون نهاية هذا النظام على يد الجيل الذي  هربنا به.

والعملة المتداولة في المخيمات هـي التومان الإيراني وتقتصر عملية الشراء على أشياء بسيطة كشراء كبريت وسجائر أو صابون وما إلى ذلك من أكشاك صغيرة متناثرة، ويكسب اللاجئون هذه النقود عن طريق خروج بعضهم للعمل في القرى المجاورة وغالبا ما يتم إنفاقها على الطعام والدواء .

في وقفة أخرى لي مع لاجئ يدعى إسماعيل ذكر أنه أب لثلاث بنات وولد يبلغ من العمر 13 عاما سجين بتهمة سياسية، وعن سبب تشتت الأسرة قال إنه أرسل أطفاله مع أحد أقربائه وبقي للبحث عن زوجته التي كانت زوجته حية أم لا وطفله الذي لا يتعدى 13 عاما مجرم سياسي ومعتقل لأنه يشكل تهديـداً على حياة الشعب العراقي كما زعموا له وعندما تم تقديم صناديق المساعدة قال إنه لا يحتاج إلى الغذاء بقدر احتياجه لإنهاء هذا الكابوس الذي يعيش فيه وأشار لطفلته الواقفة إلى جانبه قائلا إنها لم تأكل الأرز منذ عامين حتى أنها نسيت طعمه.

واصلت الجولة.. كلها حالات بائسة مظلومة تركت أرضها رغما عنها وتعيش أيام الجوع على حلم العودة، أصابني خجل إنساني من قوة الظلم الذي تعرضوا له.. لم أستطع النظر في عيني طفل يتيم يبحث في زحام الوجوه عن والديه ولا إلى وجه أم ثكلى تسأل عن أولاد لها ولا شيخ طـاعن في السن لا يستطيع أن ينتصب على قدميه.

إن تاريخ العراق الإنساني بدأ قبل آلاف السنين من الأهوار وها هو التاريخ الإنساني لعشائر الأهوار العربية يؤذن بوداعها وتحطم ما بقي منها إن لم يدرك، فسكان الأهوار هم من عشائر عربية استوطنت المنطقة منذ القدم وتنتمي إلى أسد وكندة ووائل وزبيد وبني لام ومالك وغيرها من فروع الشجرة العربية كما وصفتهم الوثائق التي نشرتها الخارجية البريطانية عن سنوات الاحتلال البريطاني الأولى بأنهم- أي عرب الأهوار - ذوو بأس شديد وشجاعة متأصلة حتى في أطفالهم كما أطنب الكتاب والرحالة في وصف الطبيعة الخلابة لأهوار العراق وقيمتها الحضارية والإنسانية التي سبقت الكثير من الحضارات وكرم عشائرها العربية وتقاليدها الرفيعة. ولكنها الآن تحولت إلى مأساة إنسانية يحتضر الناس فيهـا من الجوع والتشرد وافتقادهم مأوى الوطن.

إبادة الحياة

في إحدى زياراته الأولى لأهوار العراق أواخر السبعينيات ألقى صدام حسين خطابا في قرية الشويج قال فيه: " لقد قرأت عن الأهوار تحقيقا في مجلة العربي عام ستة وستين جاء فيه أن الأهوار تستوطنها البلهارسيا وتعشش في أجسـاد سكـانها، تلك هي العبارة التي لم تفارق ذاكـرتي حتى اليوم ولهذا جئت إليكم وسوف أزوركم في أوقـات أخرى حتى تـزول تلك الصـورة المأسـاوية من على وجـوهكم وحيـاتكم "وأضاف: "جئت لا حبا في الأهوار وطبيعتهـا ولكن حبا بكـم" .

كـان وقتها رئيس النظـام العراقي يحتاج إلى جمع صفوفه وضمان ولاء العشائر العربية في منطقـة الأهوار لخوض غمار حربـه المدمرة مع جارتـه المسلمة إيران ولأهميـة الموقع الاستراتيجي، حيـث تقع الأهـوار على حدود الجمهورية الإسلاميـة الإيرانية، كان اهتمامه غير الطبيعي بسكان المنطقة.

وزياراته الأخيرة لمنطقة الأهوار جـاءت حينما قرر إبادتها بعـد هزيمته في حرب الخليج الثانية وانتفاضة الجنوب في مـارس 1991 م التي انطلقت شرارتها من أحضـان الأهوار من الظلم والقهر اللذين ذاق سكـان الأهوار مرارتهما لسنوات عديدة، والأهوار جمع "الأهوار" وهو منخفض مـن الأرض يتجمع فيه الفائض من مياه الأنهار ليكون بحيرات مختلفة الأعماق، تتصل بينها بقنوات تسمى عند أهل المنطقة بالكواهين جمع "كاهن" وهي ممرات مائية ينتقل عبرها سكان الأهوار للوصول إلى القرى المختلفة وكانت الأهوار في القـديم تسمى "البطائح". ويقول أحـد السكـان المهجرين إن هذه البطائح منبسطات منخفضة قليلا عن النهر وتبدأ من ملتقى نهري دجلـة والفرات في البصرة حتى تصل إلى أعالي سوق الشيوخ في مجرى الفـرات وأعالي قضـاء المحجر وقلعة صالح في مجرى دجلة، وتذكر الأرقام أن مساحة الأهوار تصل إلى عشرة آلاف كيلو متر مربع وتغطي مساحات واسعة من محافظات الجنوب العراقي الرئيسية وهي الناصرية والعمارة والبصرة وتمتـد شرقا لتلتقي بأهوار مقاطعة خـوزستان الإيرانية عبر هـور الحويزة وتتألف الأهوار في الجزء الجنوبي من نهري دجلة والفرات، قبـل أن يلتقيا، من مستنقعـات متراكمـة تغطيها نباتات القصب والبردى التي يبلغ ارتفاعها في بعض الأحيان 20 قدما وتنمو بينهـا نباتات أصغر مثل السعـد الكـوفي والـورود الشـوكي فيما يغطى الجولان مساحات أخـرى منها، ونظـرا لاختلاف ميـاه دجلـة والفرات من حيث اللون والطعم يمكن تحديد مجرييهما المارين عبر الأهوار المترامية الأطراف، وفى مياه الأهوار ثروة سمكية هائلة تضم أنواعا مختلفة من أطيب الأسماك منها البني والقطان والحمرى والسمتى والشانق والصبور بمسمياتها المحلية.. هـذه الأسماك تعتبر المصدر الرئيسي لمعيشة السكان، إضافة إلى 19 نوعاً من الطيور المائية، الجميلة التي تعتبر مع الثروة الحيوانية الكبيرة من الأبقار والجاموس مصدرا ثانيا للرزق فيما يعيش البعض منهم على صناعة البواردي "نوع من السجاد القصبي" والحصر المصنوعة من القصب والبردي التي يستخدمها كل سكان العراق، إذ تضفى جمالا في بيوتهم وتساعد في تبريد الطقس الحار في فصل الصيف. تتميـز أهوار جنوب العراق بخاصية جميلة جدا، إذ تتشكل أراضيها من مناطق يابسة مرتفعة تصل مساحة الواحدة منها إلى ثلاثة آلاف متر مربع أو أكثر وتسمى باللهجة المحلية (الدبن) ومفردها (دبون) وهي جزر صغيرة طافية على الماء بمقدار البيت مصنوعة من القصب والبردي المربوط بإحكام.

تتعرض هذه المنطقة (الخاصة بطبيعة تكـوينها) إلى عملية إبادة شاملة تبـدأ بالإنسان وتنتهي بالـتربة، فما يحدث بالأهوار هو أكبر من مجزرة وأفظع من مأسـاة، كانت هذه المنطقة هدفا للفارين من الجندية وطـاحونة الحرب العراقيـة- الإيرانية والمعارضين لنظام الحكم في بعداد ومركزا مهما للثوار الشيعة الذين يشكلون غالبية سكان المنطقة الجنوبية من العـراق. وبعد فشل الانتفاضة التي قاموا بها شن نظام صدام حسين حملات عسكرية متتالية لقمع الثورة وكتم الأصوات في محاولة لإطفاء نار الثورة الشعبية والتأكيد أن لا صـوت يعلو على صوت البندقية. وبعد قصف جوي مكثف استمر عدة أشهر فرض المجتمع الدولي في أغسطس 1992 م حظرا جويا على الطائرات العراقية في محاولة لحماية أهل المنطقة من الفناء ومع ذلك استمر قصف المنطقـة من البر في الوقت الذي أشعلت فيه أحواض القصب الجافة والمحاصيل الزراعية وأحرقت المنـازل ولم تقتصر الأمور على الحملات العسكرية فحسب بل حـوصرت هذه المنطقة وتعرضت لعملية تجفيف واسعة وتسميم المياه الباقية حيث تقلصت مساحة المنطقة بشكل كبير. ومن أهم المشاريع التي قام بها النظام الحاكم في العراق مشروع النهر الثالث أو ما يسمى بـ (نهر صدام) ويشمل هذا المشروع تحويل مياه نهر الفرات إلى قناة النهر الثالث أو نهر صدام وإلى سلسلة السدود الأخرى لتنظيم مياه نهر دجلة وإيقاف مجراه عنـد فروعه وبالتالي إبعـاد مياهه عن الأهوار. وقد كان لهذا العمل تأثير سيئ للغاية على البيئة المحلية وخفض مساحة الأهوار إلى حد كبير. كـانت الغاية من تنفيـذ المشروع الذي تم إنجازه عام 1992 هي نقل المياه من المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات وتوجيهها إلى الخليج من أجل استصلاح الأراضي للزراعة وتخفيف ملوحـة المياه المحلية، ولكن يبدو أن تصريف مياه الأهوار ونقل عدد كبير من سكانها بالقوة وتهجيرهم من أراضيهم قد تجاوز مسألة استصلاح الأراضي الزراعية إلى اقتلاع الإنسان ورش مياه الأهـوار المتبقية بالمبيدات السامة والغـازات الكيماوية مما يعني كارثة محققة ليس فقط السكـان الأهوار بل لبيئتها ولفترة طويلة من الزمن.

وكان نتيجة ذلك أن اندثرت فعليا عدة قرى واضطر ما تبقى من سكان المنطقة إلى الهرب إنقاذا لحياتهم وتم تدمير مساحة تصل إلى عشرة آلاف كيلو متر مربع من الأراضي الغنية والحافلة بعدد كبير من الحيوانات البرية والأزهار النادرة، في الوقت الذي اختفى فيه أكثر من عشرة آلاف من عرب الأهوار في ظروف غامضة ولجأ ما يزيد على المديون عراقي إلى المخيمات الإيرانية .

أيادي الخير الكويتية

وقد قام الوفد الذي يمثل جمعية الهلال الأحمر الكويتي بتوزيع مساعدات إنسانية غذائية واستهلاكية على اللاجئين العراقيين وزودوهم بالأدوية والمواد الغذائية في إطار جهود الهلال لتخفيف معاناة أكثر من ألفي عائلة عراقية في أربعة مخيمات لاجئين داخل إيران وبلغ ما وزعه الوفد خلال هذه المهمة 140 طنا من المواد الغذائية الضرورية.

وكان الوفد الذي يمثل الجمعية قد قدم 151 طنا من المساعدات الإنسانية إلى اللاجئين العراقيين في أربعة مخيمات شملت مواد غذائية وخياما.

وقال متطوعون كويتيون أنهم بذلك قد ساهموا في كشف زيف ادعاءات النظام العراقي بأن دولة الكويت تعمل على تجويع الشعب العراقي وأضافوا أنهم جسدوا أن الكويت حكومة وشعبا تعمل على تخفيف معاناة الشعب العراقي التي تسبب فيها نظام بغداد من خلال رفضه التعاون مع الأمم المتحدة.

وذكر رئيس الوفد فيصل الياقوت وهو مدرس مادة الثقافة الإسلامية في الهيئة العامة للتعليم التطبيقي أنه بادر في تلبية نداء الواجب لأن مبادئ الهلال الأحمر تدعو إلى تقديم العون والمساعد ة لمنكوبي الحروب حتى ولو كانوا من دولة معادية .

وأشار الياقوت إلى أن المساعدات الكويتية للاجئين العراقيين أثبتت للعالم أن الشعب الكـويتي لا يكن العداء للشعب العراقي ولم يتسبب في تجويعه كما يدعي نظام صدام حسين، وقدم الياقوت الشكر لجمعية الهلال الأحمر الإيراني ووزارة الداخلية الإيرانية على الخدمات والتسهيلات التي قدمت لوفد الهلال الأحمر الكويتي خلال زيارته لإيران وتمكينه من توصيل المساعدات لمستـحقيها وعلى حسن الضيافة.

وذكر المتطوع عبدالرحمن المنيخ وهو موظف بالهيئة العامه للتعليم التطبيقي أنه شارك في حملة الهلال الأحمر لصالح اللاجئين العراقيين لدوافع إنسانية ومن أجل تخفيف معاناة هؤلاء النازحين وليؤكد للعالم أن دولة الكـويت ليست السبب في بؤس الشعب العـراقي، وأشار المنيخ إلى أنه لمس الأثر الطيب لتقديم المساعدات في نفوس المستفيدين منها أثناء عملية التوزيع حيث أكد اللاجئون أن نظام بغداد هو الذي شردهم وسبب معاناتهم. وأضاف أن أطفال المخيمات كانوا الأكثر تأثرا بتقديم المساعدات الكويتية حيث كانت علامات الارتياح والبهجـة واضحة على وجوههم مشيرا إلى أن اللاجئين كانوا يدعون بالخير للكويت وأهلها.

وذكر صلاح أمان وهو مدرس أول في وزارة التربية أن جمعية الهلال الأحمر الكويتي وانطلاقا من مبادئها الإنسانية تقدم المساعدات للمنكوبين من المصائب والكوارث وأنه استجاب لدعوة المشاركة في مساعدة اللاجئين العراقيين لكي نثبت للشعب العـراقي أن الشعب الكويتي ليس سبب جماعته بل إن حكومة صدام هي السبب. وأضاف أننا سمعنا خلال زيارتنا للمخيمات تأكيدات من اللاجئين بأن صدام وليس الشعب الكويتي هو سبب معاناة الشعب العراقي.

واستطرد أمان يقـول إن اللاجئين دهشوا لقدوم متطـوعين من جمعية الهلال الأحمر الكويتي إلى مخيماتهم بهدف توزيع مساعدات إنسانية عليهم واعتبروها مبادرة غير مسبوقة وأكدوا ضرورة استمرار هذه المساعدات مشيرا إلى أنه شعر بالراحة النفسية أثناء مساعدة النازحين بالرغم من برنامج الزيارة المكثف وبعد المسافات بين مخيمات اللاجئين، وناشد أمان  وسائل الإعلام العربية والعالمية نشر أخبار جهود الجمعية لمد يد العون للاجئين العراقيين الذين نزحوا من بلدهم هربا من اضطهاد النظام العراقي توضيحا للحقائق.

وذكر المتطوع محمد الغانم وهو موظف بالهيئة العامة للتعليم التطبيقي أنه لبى دعوة المسئولين في الجمعية حبا في عمل الخير ولتقديم المساعدة للاجئين انطلاقا من دوافع إنسانية بحتة .

وأضاف أن اللاجئين العراقيين لم يتوقعوا قدوم مواطنين كويتيين حاملين معهم مساعدات إنسانية بعد قيام النظام العراقي بشن عدوانه السافر على دولة الكويت في أغسطس 1990.

ويعتقد المتطوع يوسف السنعوسي الذي يعمل في إحدى جمعيات النفع العام أنـه سيكون من أول المستجيبين لأي دعوة للمشاركة في عمليات الإغاثة والطوارئ في الجمعية.

وأضاف أنه جاء ليصحح الصورة الخاطئة التي يسعى النظـام العراقي لرسمها للعالم من خلال إلقاء اللوم على دولة الكويت وشعبها مـدعيا أنها السبب في معاناة الشعب العراقي وقال السنعوسي إننا من خلال توزيع هذه المساعدات أشعرنا اللاجئين العراقيين أننا نحس بمعاناتهم ونسعى لتخفيفها موضحا أنهم أظهروا الشكر والامتنان لدولة الكويت حكومة وشعبا كما قدم الشكر لجمعية الهلال الأحمر الإيراني على تسهيل مهمتهم الإنسانية في إيران.

كلمة للعالم

لقد انتهت رحلتنا.. ولم تنته المأساة بعد.. بل إن إمكان تكـرارها في أي مكان في العراق ما زال قائما. فالنظام العراقي هو واحد من الأنظمة النادرة التي تجيد التفنن في الانتقام من مواطنيها وهذا الانتقام ينتقل من الشمال إلى الجنوب. وما لم يتدخل العالم ليوقف هذه المأساة فسوف تتكرر. إن رحلتنا قد أثقلت ضمائرنا بالحزن والألم ونحن نحاول من خلال هذه السطور أن ننقلها حتى يراها الجميع لعل الإحساس يتسرب إلى الضمائر بذلك الظلم الفادح الواقع على إخوة لنا. إننا نريد أن نكسر مؤامرة الصمت المطبقة حول هؤلاء الناس لعل المنظمات الدولية تمد أياديها لانتشالهم فهل تتخذ المنظمات الدولية ولجان حقوق الإنسان موقفا إيجابياً يحفظ للأهوار تميزهـا الطبيعي ولإنسانها حياته المسالمة.

 

حميد العنزي 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات