العلاج بالهندسة الوراثية مصطفى إبراهيم فهمي

رافد جديد من روافد العلم الحديث، يدخل بنا إلى القرن الحادي والعشرين قبل أن يبدأ، فعبر الهندسة الوراثية تولد آمال في جراحات جديدة بلا مشارط، ومصانع أدوية حية، وعلاج لأمراض أعيت إنسان القرن العشرين. علم يلامس المخيلة وهو يسعى إلى الواقع.

في أوائل الخمسينيات من هذا القرن، تم الكشف عن تركيب المادة الأساسية في الوراثة، وهي الحامض الموجود في نواة الخلية والمعروف بحامض د. ن. أ. وهذا الحامض هو المكون الرئيسي للجينات أو المورثات، أي حاملات الصفات الوراثية. وتنتظم هذه الجينات موزعة على خيوط تحملها تسمى الكروموزومات أو الصبغيات. ولكل صفة وراثية جين يحمل هذه الصفة موجود على موقع معين في الكروموزوم، فطول القامة له جين خاص، واللون المميز للعين له جين آخر، وكذا لون الشعر، وهكذا دواليك. وكل خلية في جسم الكائن الحي تحمل في نواتها الطاقم الوراثي لهذا الكائن، أي خيوط الكروموزومات بما عليها من الجينات.

وكل نوع من الكائنات الحية له طاقم جيناته الخاص به الذي ينتظم في شفرة خاصة بهذا الكائن. والنوع من الكائنات الحية هو مجموعة الكائنات التي تتناسل فيما بينها فتنتج سلالة تشبه الأصل، ولها القدرة على التناسل ثانية هكذا. ويتم ذلك عن طريق طاقم المورثات أو الجينات الخاصة بالنوع، ولا يمكن لأفراد نوعين أو جنسين مختلفين أن تتناسل معا فينتج من ذلك نسل له القدرة على التناسل ثانية. والمثل الشهير لذلك هو التهجين بين الحمار والفرس الذي ينتج بغلا لا يمكنه التناسل.

المقصات البيولوجية

إلا أنه بعد اكتشاف تركيب الجينات وحامض د. ن. أتبع ذلك طفرة هائلة في أبحاث الوراثيات، وكانت إحدى نتائج هذه الطفرة هي اكتشاف ما يعرف بإنزيمات التحديد. وهذه الإنزيمات هي بمثابة مقصات بيولوجية، ذلك أنه عند إضافة الواحد منها إلى حامض د. ن. أ الموجود في الجينات، فإنه يتمكن من التعرف على شفرة جينية محددة لكل إنزيم (وسمي بإنزيم التحديد) ويعمل الإنزيم كالمقص لقطع الكروموزوم عند هذا الموقع المحدد من الشفرة الجينية. وهكذا تمكن العلماء من استخدام هذه المقصات في قص جينات محددة بعينها من خيط الكروموزوم ليتم بعد ذلك إدخالها على الكروموزومات الموجودة في خلية أخرى من نوع آخر. وإذ يدخل الجين إلى الخلية المضيفة الجديدة فإنه يضيف إليها إمكان توريث الصفة الوراثية التي يحملها، والتي لم تكن موجودة أصلا في هذه الخلية المضيفة.

إن عملية أخذ جين من الكروموزومات البشرية مثلا وإدخاله إلى كروموزومات البكتريا يشبه ما يحدث في أعمال قطع ولصق الورق الملون. وعملية القطع واللصق هذه هي أساس ما يسمى بالهندسة الوراثية التي تهدف إلى إحداث تغييرات أو إضافات في التركيب الجيني لإحدى الخلايا. والهندسة الوراثية هي إحدى الصيحات الأخيرة في البيوتكنولوجيا أو التكنولوجيا الحيوية أي فن استخدام المادة الحية في إنتاج سلع تسوق اقتصاديا. وقد عرف الإنسان البيوتكنولوجيا منذ آلاف السنين عندما استخدم الخمائر في صناعة الجعة (البيرة) وفي تخمير العجين. وأحدث تطورات هذا الفن في الهندسة الوراثية، حيث يجرى استغلال خلايا النبات والحيوان والكائنات الدقيقة كالبكتريا في مجالات شتى، من بينها الزراعة والطب، وهي تستخدم في الطب بغرض العلاج.

أدوية من البكتريا

حتى زمن قريب كان إنتاج دواء جديد هو مما يتم عن طريق ما يسمى بالتجربة والخطأ. وإذ يتأكد الباحثون من أن لأحد أجزاء نبات أو حيوان تأثيرا مفيدا في علاج أحد الأمراض، فإنهم يحاولون استخلاص المادة العلاجية الفعالة في هذا النبات أو الحيوان، أو هم يحاولون تخليقها في معاملهم الكيميائية، ثم يجربون التأثير العلاجي لهذه المادة بعد تركيزها في جرعات صغيرة.

وأخيرا أمكن للعلماء في السبعينيات من هذا القرن استخدام تكنيك الهندسة الوراثية لإنتاج مواد لها تأثير علاجي، وذلك بنقل د. ن. أ. من نواة خلية أحد الأنواع لنواة خلية في نوع آخر، وهو ما يمكن أن يسمى حامض د. ن. أ. المهجن، وبهذه الطريقة ينتقل جين من خلية إلى خلية من نوع آخر، وكما سبق القول يبدأ الباحث باستخدام مقصه البيولوجي (إنزيم التحديد) ليفصل من الخلية البشرية الجين المسئول مثلا عن إنتاج الأنسولين البشري، وهو الهرمون الذي يسبب نقصه البول السكري، اللازم لسلامة تمثيل الجسم للمواد السكرية وحسن الاستفادة بها، ثم يتم نقل جين الأنسولين البشري هذا إلى الخلايا البكتيرية ليدخل في كروموزوماتها. وتزرع هذه البكتريا في الوسط الملائم لنموها. والبكتريا عادة تتكاثر في الظروف الملائمة تكاثرا بالغ السرعة وبأعداد هائلة وتتحول المزرعة هكذا إلى مصنع صغير كفء لإنتاج هرمون الأنسولين البشري مثلا، هو أو أي مادة أخرى مطلوب إنتاجها اقتصاديا، ويمكن فصل الجين الخاص بها لإدخاله في خلايا البكتريا. وقد استخدمت هذه الطريقة البارعة بالفعل لإنتاج الأنسولين السكري، مجنبا المريض ما يحدث له أحيانا عند علاجه بأنسولين حيواني آخر، إذ تتولد في الجسم البشري مناعة من هذا الأنسولين الحيواني فصبح بلا تأثير علاجي.

كذلك استخدمت هذه الطريقة من الهندسة الوراثية في إنتاج كميات اقتصادية من مادة الانترفيرون، وهي بروتين يساعد على كبح نمو الفيروسات، ويستخدم في علاج بعض الحالات المستعصية من الالتهاب الكبدي الوبائي، كما يستخدم أيضا في علاج بعض أنواع السرطان. وقبل استخدام الهندسة الوراثية في إنتاج الانترفيرون كان يتم استخلاصه بكميات ضئيلة وبطريقة باهظة الثمن من الدم البشري، أما بعد استخدام الهندسة الوراثية والبكتريا، فإن الثمن أصبح أقل من ذي قبل.

ومن الأدوية الأخرى التي يتم إنتاجها هكذا بثمن مقبول اقتصاديا هرمون النمو البشري الذي يؤدي إلى نمو طول العظام، كذلك أيضا إنزيم يسمى منشط بلازمينوجين الأنسجة، وهو إنزيم يذيب الجلطات الدموية، ويمكن أن يكون له دوره المهم في إنقاذ حياة مرضى القلب بإذابة الجلطات التي تسد الشرايين التاجية التي تغذي القلب. وإذا كان ما تم إنتاجه من الأدوية بهذه الطريقة لا يزيد حتى الآن على أحد عشر دواء، إلا أن هناك عشرات غيرها مازالت تحت التجريب والإنتاج.

في علاج السرطان

من الأدوية التي يؤمل إنتاجها قريبا بالهندسة الوراثية بروتينات معينة تعرف بالعوامل الحاثة على تكاثر الخلايا، ويهتم بها المختصون بعلاج السرطان بالذات. والجسم يستخدم عوامل الحث هذه لتنظيم إنتاج الأنواع المختلفة من خلايا الدم. وهذه العوامل لا توجد في الجسم البشري إلا بكميات ضئيلة، على أنه باستخدام تكنيك الهندسة الوراثية أمكن في معامل البكتريا إنتاج هذه البروتينات على نطاق واسع بواسطة تكاثر البكتريا، وتجري الآن تجارب نهائية لاستخدام عاملين من هذه العوامل كعلاج يساعد مرضى السرطان على تحمل جرعات أكبر وأطول من العلاج الكيميائي للسرطان، مما قد يؤدي لإنقاذ حياة المرضى. ويرى العلماء أيضا أن عوامل الحث هذه فيها إمكانات لاستخدامات أخرى قد تجعلها بمثابة مضادات حيوية جديدة للتسعينيات.

والأورام السرطانية يتم علاجها حاليا، بخلاف الجراحة عن طريق استخدام مواد كيميائية أو استخدام الإشعاع، الأمر الذي يؤدي إلى وقف نمو الخلايا السرطانية. ومشكلة هذا النوع من العلاج أن له آثارا جانبية عديدة، فهو وإن كان يقضي على الخلايا السرطانية غير المطلوبة إلا أنه يؤدي أيضا إلى الإضرار بأنسجة الجسم السليمة. ومن ذلك مثلا أن العلاج الكيميائي يؤدي إلى قتل خلايا الدم البيضاء المسئولة عن المناعة وحماية الجسم من العدوى، كما أنه يدمر أيضا خلايا نخاع العظام، وهذا النخاع هو الذي يقوم أصلا بإنتاج الخلايا البيضاء وإحلال ما يموت منها. وإذا دمر نخاع العظام هكذا في أثناء علاج السرطان، فإن تعويض ذلك يتم بزرع نخاع سليم للمريض حتى يستعيد ما خرب من خلايا نظامه المناعي. على أن العلاج بزرع النخاع لا يعطي تأثيرا فعالا إلا بعد مضي ستين يوما من عملية الزرع. وفي أثناء هذه الفترة، إذا حدث أن أصيب المريض بأدنى عدوى من ميكروبات مرضية، فإن هذا قد يكون فيه هلاكه. وهنا يأتي دور بروتينات العوامل الحاثة على تكاثر الخلايا، فهي ستستخدم لزيادة سرعة نمو خلايا النخاع المزروعة، ولزيادة سرعة تحولها إلى الخلايا البيضاء أو خلايا المناعة. وهكذا تختصر المدة اللازمة لفعالية العلاج بالنخاع المزروع فتصبح ثلاثين يوما بدلا من ستين. وهكذا فإن المريض الذي يعالج بزرع نخاع العظام مع تعاطيه في الوقت نفسه العوامل الحاثة على التكاثر يصبح بذلك أكثر مقاومة للعدوى وأقل مكوثا في المستشفى ممن لا يتعاطون العوامل الحاثة.

وعلاج الإيدز

ومما يؤمل في المستقبل أن تستخدم العوامل الحاثة على التكاثر في علاج شتى الحالات التي تقل فيها مناعة الجسم كما في حالات مرضى الإيدز أو النقص المكتسب للمناعة، وكما في حالات الحروق الشديدة. واستخدام العوامل الحاثة هنا سيؤدي إلى زيادة مقاومة هذه الحالات للعدوى، كما أنه قد يساعد أيضا في علاج من يصابون بعدوى من بكتريا قد اكتسبت خاصية مقاومة المضادات الحيوية.

وخلايا نخاع العظام ليست الخلايا الوحيدة التي لها عوامل حث لنموها، فهناك عوامل حث لنمو شتى خلايا الأنسجة في الجسم. ونتيجة الحث على النمو ليست دائما مفيدة لهذه الأنسجة، بل ربما أدى الأمر إلى أضرار مرضية، فنمو خلايا الأنسجة نموا مفرطا قد يؤدي مثلا إلى الإصابة بالسرطان أو التهاب المفاصل أو غير ذلك. وعلاج النمو المفرط هذا يكون باستخدام عوامل كبح نمو الخلايا.

ويزداد الآن انتشار مرض تصلب الشرايين التاجية التي تغذي القلب. وبخلاف الاعتقاد الشائع، فإن ضيق هذه الشرايين لا ينتج عن سدها مباشرة بالدهن والكولسترول مثلما تنسد أنابيب المياه بالرواسب. بل ما يحدث هو أن المواد الدهنية تتخلل أولا نسيج جدران الشرايين، ثم تبدأ المشاكل عندما تقوم خلايا الأغشية المبطنة لهذه الشرايين بحشد بعض خلايا الدم البيضاء لإزالة المواد التي تسربت إلى نسيج جدران الشريان. وتتخلل هذه الخلايا بدورها نسيج جدران الشريان، وتلتهم المواد الضارة، على أنها لا تكتفي بذلك، بل تقوم أيضا بإفراز عوامل حاثة للنمو هي وبعض خلايا أخرى، وتكون النتيجة هي تكوين نسيج ليفي في الشريان تشبه أليافه الألياف التي تتكون في ندوب الجروح. وتؤدي هذه الألياف إلى تصلب الشريان، أي إلى زيادة سمك جدار الشريان وخشونته مع ضيق تجويفه، الأمر الذي يقلل من سريان تيار الدم الذي يغذي القلب، بل قد ينتهي بانسداد الشريان تماما عندما تتكون فيه جلطة. ويدور البحث في أكثر من مركز علمي لإيجاد طريقة لكبح زيادة نشاط عوامل حث النمو هذه، وإذا نجحت هذه الأبحاث، فإنها قد تؤدي إلى تغير كبير في طريقة علاج أمراض القلب. وتجري في أحد المراكز العلمية محاولة لاستخدام كابح لجزيئات د. ن. أ. وتدل التجارب في أنابيب الاختبار على أن هذا الكابح يوقف عمل الجينات التي تمكن الخلية من إنتاج عوامل حث معينة. ولو أمكن إدخال الكابح إلى الخلايا التي يسبب نشاطها تكون الألياف وتصلب الشرايين، فإن هذا يعني إمكان القضاء على المشكلة في مهدها. وهناك باحثون يحاولون وقف عمل أحد عوامل حث النمو هذه باستخدام مستقبلات صناعية يتحد معها عامل الحث فلا يصل إلى الخلايا الشرايينية، والتي لولا ذلك لتكاثرت عند وصول عامل الحث إليها.

علاج الأمراض الوراثية

وهناك طريقة أخرى لاستخدام الجينات في العلاج الطبي، وذلك بتصويب جينات سليمة معينة إلى أنسجة معيبة ينقصها وجود الجينات السليمة مما يؤدي إلى المرض، فالهدف هنا ليس إدخال جين من أحد الأنواع لخلايا في نوع آخر، بل هو إدخال جينات سليمة إلى خلايا فرد مريض من النوع نفسه، وتنقصه الجينات السليمة، أو أن الجينات موجودة في المريض ولكنها معيبة، ويتم تصحيح المرض بإدخال الجين السليم بدل الناقص أو المعيب. وقد بدأت أول تجربة علاج من هذا النوع في 1990 حيث عولجت لأول مرة طفلة في الرابعة من عمرها بواسطة نسخ معدلة وراثيا من خلاياها هي نفسها، إذ تم تعديلها بطريقة (القص واللصق). وتفتح هذه المحاولة الباب لمحاولات أكثر في المستقبل يتم فيها العلاج باستخدام خيوط جاهزة من حامض د. ن.أ الموجود أصلا في نواة خلية سليمة ويتم نقلها للأنسجة المعيبة وراثيا، فيتم علاج الأمراض الوراثية، وربما تستخدم هذه الطريقة أيضا لعلاج بعض الأمراض المزمنة، بل إن هذا التكنيك يمكن استخدامه لا للعلاج فحسب، بل أيضا لتحسين حالة الأصحاء بأن ندخل عليهم جينات حاملة لصفات وراثية أفضل، كأن يزداد ذكاؤهم مثلا. على أن الوصول إلى أهداف كهذه ليعد حاليا أمرا بعيد المنال نسبيا، خاصة أن الجينات تتفاعل تفاعلات معقدة وهي تبني الجسم وتحافظ عليه، وهي تفاعلات تتم فيما بين الجينات بعضها مع البعض، كما أنها تتم فيما بين الجينات والعوامل البيئية. والعلماء حتى الآن مازالوا أبعد عن أن يتفهموا العملية كلها، دع عنك أن يتحكموا فيها.

وأخيرا فإنه يمكن القول إن علم الوراثيات يتطور الآن بسرعة هائلة ستؤدي بلا شك إلى ثورة طبية. ويمكننا حاليا أن نتنبأ دون خطر الوقوع في خطأ كبير بأن العلاج بالجينات سيدخل في هذا العقد الأخير من القرن إلى التيار الرئيسي لوسائل العلاج الطبي، وأنه مع انتشار وسائل ومراكز المسح الوراثي ستزداد معرفتنا بمدى ارتباط الأمراض عموما بعيوب الكروموزومات أو الجينات، وسوف يصل الباحثون إلى معرفة طريقة لتصويب الجينات العلاجية إلى خلايا أنسجة محددة هي في حاجة للعلاج. كما أنه سيحدث توسع في استخدام البيوتكنولوجيا والهندسة الوراثية لإنتاج وسائل علاج جديدة للكثير من الأمراض البشرية.