على هامش الانتخابات الأمريكية المنتظرة محمد الرميحي

على هامش الانتخابات الأمريكية المنتظرة

حديث الشهر
قراءة في حدث أبعد من حدوده وزمانه أمريكا مرة أخرى

أمريكا التي لا يمكن لعاقل أن يتجاهلها، فهذا الكيان السياسي والاجتماعي الذي لم يكن موجودا منذ ثلاثة قرون فقط، صار الآن قدر القمة في عالمنا الراهن. وفي داخل هذه القمة تتحرك الآن تيارات جديدة، قد لا تؤدي إلى عاصفة من التغيير، لكنها بالتأكيد تشير إلى رغبة عارمة في التغيير. ولأن أمريكا هي ما هي، فإن كل تغيير بداخلها يتخطى حدودها لينشر تغييرات إن لم تشمل وتحرك مكونات العالم فإنها تشيع في هذا العالم مناخا ينذر بضرورة التغيير.

ففي الخامس من نوفمبر من العام القادم سيذهب الناخب الأمريكي لاختيار رئيس جديد للولايات المتحدة لفترة رئاسية تمتد أربعة أعوام، أي أنها ستكون رئاسة تصل إلى عام 2000 وتطل على القرن الحادي والعشرين. لكن السباق نحو سدة الرئاسة الأمريكية لم ينتظر حتى يأتي يوم الانتخاب، فقد بدأ السباق بالفعل. وعلى خط السباق يلوح نجم جديد، بمؤشرات جديدة، لا بد من دراستها، إذا كنا نريد أن نعرف شيئا عن إرهاصات المستقبل في هذا البلد الكبير، الذي لا شك في امتداد تأثيره علينا كما على العالم. فعلى مضمار السباق الرئاسي الأمريكي بدأ يلمع اسم الجنرال الأمريكي المتقاعد كولن بأول إثر جولة له بدأت لتشمل 26 مدينة أمريكية للترويج لكتابه الذي يحمل اسم "رحلتي الأمريكية". وبرغم أن رئيس هيئة الأركان الأمريكية السابق لم يعلن عن عزمه على الترشيح حتى لحظة كتابتي لهذه السطور، إلا أن اسم هذا الرجل الأسمر المائل إلى البياض والبالغ من العمر 58 عاما، والمتحدر من أصول جامايكية كاريبية، بدأ اسمه يظهر في استطلاعات الرأي الأمريكية مشفوعا بتأييد لا بأس به، بل بترجيح فوزه إذا ما رشح نفسه وأجاد تقنية الترشيح. وعند هذا الحد تبدو ظاهرة "كولن بأول" جديرة بالتفقد، فلا بد أن في ثناياها دلالات كثيرة مهمة، وأهميتها تنبع من ظهورها في كيان اجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي ضخم كالولايات المتحدة، وفي زمن لا يخفى على أحد فيه تأثير هذا الكيان. حقيقة الأمر أن هذا الرجل الأسمر كولن بأول لفت نظري بشدة حين أصبح على رأس القيادة العسكرية الأمريكية بكل ما تزخر به من خبرات في بلد اشتهرت جماعاته العرقية بنزعات عنصرية شديدة الوطأة في الماضي، ولم يحصل الملونون فيه والسود على حقوقهم إلا بعد نضال طويل امتد في تاريخ أمريكا حتى منتصف الستينيات من هذا القرن، بعد ما عرف بمسيرة الحقوق الوطنية التي خاضها مع آخرين مارتن لوثر كينج وذهب ضحيتها أيضاً، فهل كان وضع كولن باول على قمة الهرم العسكري الأمريكي راجعاً إلى أسباب سياسية تراها الإدارة الأمريكية الجمهورية لاستقطاب أصوات وعواطف السود والملونين في بلاد تصبح أكثر فأكثر مختلطة عرقياً وثقافياً، أو أن هذا الرجل بالذات له من الخصائص الشخصية ما يؤهله ليكون في هذا الموقع بصرف النظر عن لونه؟

إن أردنا أن نستشهد بأقواله فهو يقول: "إن النجاح يحتاج إلى أكثر من العمل والصبر وقليل من الحظ". وعندما قرأت كتاب " جندي الحروب" الذي أصدره الجنرال بأول في سبتمبر الماضي وأحدث ضجة كبيرة تيقنت من أن الرجل نتاج مؤهلاته وعمله الدءوب وليس بسبب لونه المختلف. الجنرال كولن باول هو رئيس الأركان السابق والمستشار الأسبق للأمن القومي وربما مرشح رئاسة الجمهورية القادم في الولايات المتحدة. لكن هل من المبكر الحديث عن انتخابات الرئاسة الأمريكية؟، وهل من المناسب أصلا الحديث عنها؟

سوف أجيب عن السؤال الأخير أولا: نعم من المناسب الحديث عن رئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة، لأن هذا البلد اليوم أصبح هو القائد الأساسي لتحريك التفاعلات السياسية في العالم، فهو لم يعد مؤثراً فقط في القارة الأمريكية حيث مجاله الحيوي والطبيعي ولكنه أصبح أيضاً مؤثراً في السياسات الأوربية، فها هو يقود عملية السلام بالقوة أو التصالح المؤسس على حرب الطيران في البلقان، وبعد أن وجدت أوربا نفسها عاجزة عن الدخول في معارك مباشرة لإقناع الأطراف المتحاربة للوصول إلى حل أو حلول تؤكد السلام والاستقرار في أوربا، وها هو يتدخل مباشرة بين الأطراف المتصارعة في أفغانستان، وبين الأطراف الكردية المتصارعة في شمال العراق، وبين الأطراف المتنازعة في أيرلندا الشمالية، وفي فلسطين، وفي الخليج، وجنوب شرق آسيا ، وتقريباً في كل مكان على هذه البسيطة. ذلك هو الواقع السياسي اليوم.

الوجود السياسي الأمريكي ولا أقول النفوذ أخذ على عاتقه في هذه المرحلة من التاريخ أن يكون شرطي مرور العالم، ينظم السير السياسي، ويصدر المخالفات للمخالفين، إما عن طريق الأمم المتحدة أو من خلال حلف الناتو.

لهذه الأسباب من بين أسباب أخرى يتوجب الحديث عن الانتخابات الأمريكية القادمة، ويتوجب النظر في من سيخوضها وماهية سياسته في علم أصبحت السياسات فيه تتغير بسرعة. ولكن هل الزمن التوقيت مناسب؟، والجواب: نعم أيضاً. فأنت عزيزي القارئ تطالع هذا الحديث في نوفمبر 1995 ويكون متبقياً من الوقت شهران وعشرون يوماً فقط على بدء التحضير للانتخابات الرئاسية الأمريكية.

ففي العشرين من فبراير 1996 سيبدأ سباق المرشحين للرئاسة الذي تفتحه تقليديا مدينة همبشاير لاختيار ممثليهما لانتخاب مرشح الحزب الجمهوري. ومنذ الآن وحتى انتخابات الرئاسة سنة 1996 يتزايد في الأوساط الصحافية والسياسية الأمريكية والعالمية الاهتمام بهذا الحدث المهم، فالتوقيت ليس بعيدا. ويبقى سؤال آخر: وماذا يعنينا من كل ذلك؟

نحن كعرب نعني بهذه الانتخابات لأن السنوات الأخيرة من القرن العشرين تشهد نفوذاً واسعاً للولايات المتحدة في شؤون وشجون العالم كله من أقصاه إلى أقصاه، وتشهد أيضاً وجوداً سياسيا في منطقتنا العربية بشكل مباشر أو غير مباشر، علني أو غير ذلك.

وعلى قواعد ما سوف يوضع من سياسات في هذه السنوات ربما يصبح التأثير واسعاً لسنوات قادمة لفي القرن الحادي والعشرين، وهو تأثير لا نستطيع تجاهله، أو أن ندفن رءوسنا في الرمال مدعين بأنه غير موجود.

الأمريكي والعالم

بعض المعلقين الأمريكيين المهمين يرفعون حواجبهم تساؤلاً: ما هو دور الأمريكي في العالم؟ وهل تستطيع أمريكا أن تتحمل وحدها مسئولية أمن العالم، وتتحمل تبعاته السياسية والاقتصادية؟ ولماذا الاهتمام الأمريكي بالخارج في الوقت الذي تعاني فيه الولايات المتحدة داخليا مشكلات اقتصادية واجتماعية ضخمة وتواجه عجزا مالياً كبيراً، أي أنها تواجه داخلياً خيارات لم تواجه مثلها من قبل في المائة سنة الأخيرة من تاريخها؟.

والسؤال الأهم المطروح بين الأكاديميين والسياسيين الأمريكيين هو: ما هي حدود علاقة الولايات المتحدة بخارجها؟

تلك أسئلة تناقش باستفاضة على مستويات عديدة، وعلى عكس الحكمة التي سادت من قبل، والتي تقول إن الأمريكيين تنتهي خلافاتهم عند خط ملامسة اليابسة للبحر، بمعنى أنهم متفقون في السياسة الخارجية، إلا أن الأمر انقلب الآن وصار الخلاف في السياسة الخارجية أحد أوجه النقاش السياسي المستمر.

ففي مجلة "الشؤون الخارجية" الأمريكية الرصينة، عدد يوليو/ أغسطس من هذا العام أثار آرثر شلزنجر الابن أستاذ الإنسانيات في جامعة نيويورك الأسئلة القديمة عن المشاركة الأمريكية في مشاكل العالم أو الانعزال عنها تحت عنوان (العودة إلى الرحم)، ففي الوقت الذي يؤكد فيه الكاتب أن الانعزالية الأمريكية مفهوم غامض فلم تكن الولايات المتحدة يوما منعزلة عن العالم في الثقافة أو الاقتصاد، إلا أن معظم تاريخ الولايات المتحدة كان (انعزالياً) فيما يخص السياسة الخارجية، وكان ذلك جزءا من توجيه الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، فجورج واشنطن نصح مواطنيه (بأن يبتعدوا عن التحالفات الدائمة)، كما أن توماس جيفرسون بدوره حذر سياسيي أمريكا من مغبة (التحالفات المريكة)، فقط هو التهديد المباشر (للأمن القومي الأمريكي) يمكن أن يبرر التورط في حرب خارجية.تلك كانت توصيات السياسيين الأمريكيين السابقين للحرب العالمية الأولى.

إلا أن الحربين العالميتين الأولى والثانية قد غيرتا هذه المواقف المبدئية، وبدأت الولايات المتحدة تتدخل بالمشاركة المباشرة في حروب الأوربيين، وبعد الحرب العالمية الثانية اختلف المسرح السياسي وبدا أن الساسة الأمريكيين قد قبلوا إلى الأبد نقض توجيه الآباء بالانعزال، وجاء احتضان الولايات المتحدة لفكرة وأهمية مؤسسة الأمم المتحدة أولا، ثم اختيار إعلانها في سان فرانسيسكو وتحديد مقرها في نيويورك ثانياً إشارة إلى التحول التدريجي ولكن الواضح في اهتمام الولايات المتحدة النشط بشؤون العالم الخارجي. وكما أكد ونستون تشرشل (إن المؤسسة الدولية الجديدة " الأمم المتحدة" لن تتخوف من فرض خياراتها على مخططي وفاعلي الشر في الوقت المناسب و" بقوة السلاح").

اتجاهات أمريكية جديدة

ولقد مرت أكثر من أربعين عاماً تعطل فيها دور الأمم المتحدة نسبيا بسبب الحرب الباردة، إلا أنها عادت في التسعينيات من جديد لتأكيد دورها المفترض، باستخدام السلاح ضد الأشرار.إلا أن السؤال يبقى معلقا وهو: هل هذا الاستخدام الجماعي، الذي تقوده الولايات المتحدة هو سياسة دائمة أو هي مؤقتة لفترة وجيزة؟.

لقد أصبحت الولايات المتحدة من خلال الأمم المتحدة عنصراً دائماً وحاسماً في العلاقات الدولية الجديدة، إلا أن هذا الحماس بدأ يقل في السنوات الأخيرة، فالديمقراطيون تحت إدارة الرئيس وليم (بل) جيفرسون كلينتون بدأوا بالمناداة علناً بأن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تحل مشاكل العالم بنفسها ولا بد من تعاون الأصدقاء، ولكن باضمحلال الاتحاد السوفييتي وتفككه فإن التعاون الدولي أيضا آخذ بالتفكك، وأخذت الأغلبية الجمهورية التي قدمت إلى المجلس التشريعي "الكونجرس " الأمريكي سنة 1994 تدعو إلى تقليص المساعدات الأمريكية للأمم المتحدة، بل والمساعدات الأخرى الإنسانية والسياسية التي تقدمها الولايات المتحدة لدول عديدة في العالم.

هذا التراجع في الاهتمام والحماس للقضايا الدولية، وعدم الاستعداد للتضحية بالمال والأرواح للدفاع عن قضايا دولية خارج الحدود، أكدته استطلاعات الرأي المختلفة في الأشهر القليلة الأخيرة في الولايات المتحدة ، فهنالك تراجع في الرأي العام الأمريكي حول الاهتمام بحقوق الإنسان في العالم، وتراجع في الاهتمام بالدفاع عن الدول الصغيرة، وظهرت مقولات مفادها أن: (الموت من اجل النظام الدولي عندما لا يكون هناك تهديد حقيقي للبلاد، قضية يصعب الدفاع عنها) هكذا ينهي آرثر شلزنجر مقاله مؤكداً أن الشعور العام في الولايات المتحدة يتجه إلى الانكفاء والعودة إلى الرحم أي الأرض الأمريكية والاعتناء بشؤون الداخل فقط.

على هذه الخلفية تبدو الانتخابات القادمة في الولايات المتحدة مهمة ، لا لأن الجمهوريين أو الديمقراطيين يريد كل منهما أن يتوجه في الشؤون الخارجية توجهاً مخالفاً للآخر، فما يحدث من خلافات جانبية حول السياسة الأمريكية هو تأكيد اقتسام السلطات التقليدي بين الرئيس والكونجرس، وتأكيد الاستقلال الذي يتمتع به طرفا الإدارة، ولكن هناك اتفاقاً على تقليل التورط الخارجي، وشروط التورط أو التدخل هي التي تحظى بنقاش حاد من السياسيين الآن وعلى ضوئها سوف يحدد القادم إلى البيت الأبيض أياً من السياسات سوف ينفذها عندما يتسلم السلطة عام 1996، وما هي خلفيات الرجال الذين سيقودون الإدارة في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وهل سيحبذون سياسة الانكفاء إلى الداخل والعناية بشؤون البيت الأمريكي، أو أن هناك رابطاً سوف يظل بين السياستين الداخلية والخارجية لأقوى دولة عالمية منفردة في نهاية القرن العشرين؟

الجذريون الوسط

"مثيرون للشفقة، مزعجون، يثيرون الضحك" هذه بعض التعليقات التي تنشر لوجهات نظر أخذت من عينات من الطبقة الوسطى الأمريكية حسب إحدى الدراسات يشيرون فيها إلى الطبقة السياسية الحاكمة وإلى عدم رضاهم عن مسيرة السياسة في بلادهم. ويقول دارس آخر: أن هذه الطبقة الأمريكية العريضة أكثر من أن تكون غاضبة، إنها فاقدة الأمل في الإصلاح.

الإحباط العام هو الحقيقة المركزية الظاهرة لدى معظم الطبقة الوسطى الأمريكية، ولكن هذا الإحباط لم يظهر فجأة، فقد كانت بوادره تتراكم بانتظام منذ ربع قرن على الأقل، ويبدو أنها وصلت إلى مرحلة حرجة في التسعينيات والرفض لهذه السياسات عام وخارج إطار التحزب بين الحزبين الكبيرين، لذلك عندما قابل مقدم البرامج التليفزيوني البريطاني المشهور السير ديفيد فروست الجنرال كولن بأول في الأسبوع الأخير من سبتمبر الماضي قال الجنرال ردا على سؤال: هل تزمع أن ترشح نفسك عن الجمهوريين أو عن الديمقراطيين؟، أشار بأول إلى أنه يشعر بأن هناك عدم رضا عاما لدى الناس في أمريكا تجاه الحزبين كليهما. ويبدو أن هذا ليس رأي كولن باول وحده في التعبير عن روح التغيير المطلوب في الولايات المتحدة، ولعل إشارة روس بيرو الأخيرة إلى اعتزامه إنشاء حزب ثالث تصب في هذا الاتجاه.

ولقد ظهرت من قبل صورة هذا الشعور السلبي والشعور بالإحباط تجاه السياسة العامة في أمريكا عندما صوت الناخبون عام 1992 ضد رئيس الجمهورية القائم وأخرجوه من الكونجرس وجاءوا بأغلبية جمهورية سنة 1994، البيت الأبيض، كما أنها ظهرت بعد ذلك بسنتين فقط عندما صوت الناخبون ضد الأغلبية الديمقراطية في ولقد خسر الكونجرس الجديد التعاطف الشعبي بأسرع مما خسره وليم (بل) كلينتون 1993، هكذا يقول مؤلف كتاب (الغضب السياسي الأمريكي) جوردن بلاك: "هناك أعداد كبيرة من المواطنين الأمريكيين مهمشون ومعزولون عن التأثير في الحياة السياسية، وإن السياسة الأمريكية مهيمن عليها من قبل مجموعة مصالح وهي (تباع وتشترى) دون أن يكون للناس العاديين تأثير في ذلك،. لذلك يجد بعض الأمريكيين أنفسهم يبحثون بجد ليعثروا على مرشح بديل ومرشح جديد ومرشح وأعد؟ إنهم وكما قال أحد المعلقين: "لا يبحثون عن أيديولوجيا، بل يبحثون عن بطل". ويبدو أن عددا من وسائل إعلامهم قد وجد هذا البطل في صورة كولن بأول الجنرال والمحارب والسياسي والأسود أيضا أو على الأقل ليس بأبيض، ولأنه بطل خاض حربا وانتصر فيها ولأنه رجل يمثل الوسط، فقد يكون بطل أمريكا الجديد بطلاً مختلفا في الشكل وفي المحتوى.

طريق المحارب

في كتاب الجنرال كولن باول "طريقا المحارب " كما أسماه في طبعته الأوربية ، أو "رحلتي الأمريكية " كما نشر في الولايات المتحدة، هناك شيء من التقدير لكل المجموعات العرقية والدينية والسياسية الأمريكية، وهناك شيء أيضا للمواطن الأمريكي العادي، فهو ابن لأب وأم مهاجرين من جامايكا المستعمرة البريطانية التي دفعت بمواطنين كثيرين للهجرة إما إلى الولايات المتحدة أو بريطانيا، ولقد ظهر أخيراً ابن عم لباول يعمل سائق باص عام في لندن.

كولن باول نفسه عاش صباه في حي هارلم، حي السود المشهور في نيويورك، متوسط هو في كل شيء كما هو متوسط في الدراسة، ويصف رحلته الأمريكية من ذلك المنشأ المتواضع في الحي الفقير إلى أن يصبح على قمة الهرم العسكري الأمريكي، يصف هذه الرحلة بأنها لا يمكن أن تتحقق الا في الولايات المتحدة، المجتمع المفتوح الذي يقبل أن يصعد إلى قمته السياسية أو العسكرية أو الرياضية أو الفنية من لديهم القدرة والرغبة في بذل الجهد المتواصل للوصول.

في الكتاب صراحة متناهية ووضوح كامل، فحديث بأول عن شبابه وعلاقاته تجد فيه رنة الصدق وحتى عبث الشباب ليس العبث الضار والمنفر ، فهو يقول أنه لم يتناول مخدرا سواء من الحشيش أو الأفيون أو أي من المخدرات المختلفة برغم انتشارها النسبي في بيئته ليس تعففا ولكن خوفا من غضب العائلة. ونجده فخورا بوالده الذي كافح كي يصير في النهاية كاتبا في إحدى شركات الملاحة البحرية، ووالدته التي قضت حياتها في العناية بأسرتها المكونة من أخته الكبرى التي تزوجت رجلا أبيض كان زميلها في الجامعة ومنه.

للأسود في أمريكا عند نشأته طريقان: أحدهما الامتياز الرياضي أو الالتحاق بمؤسسات الانضباط (الجيش أو الشرطة)، والطريق الآخر هو الشوارع الخلفية. أما التجارة والأعمال الحرة والصناعة فقد كانت بعيدة عن متناول معظم الأمريكان من أصول غير أوربية، ويقول بأول: "في صباى لا أتذكر أن أسود أصبح رجل أعمال ولكن الأمور اختلفت " وكي يدلل كولن بأول على هذا الاختلاف يسرد قدرة عائلته الكبيرة على شق طريقها في هذا المجتمع الكبير والمعقد، فيشير إلى بعض أقربائه الذين أصبح منهم بعد ذلك مهندسون وقضاة ومعلمون ومحامون وسفراء، بل إن أول امرأة تعين في الولايات المتحدة مساعدة لوزير الخارجية كانت من أقربائه.

أفضل ما في كتاب كولن بأول ويبدو أنها المرحلة التاريخية الأكثر فخرا له هو القسم الرابع الذي يصف فيه عمله مستشار للأمن القومي ثم رئيسا للأركان بما فيه الاستعداد لحرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي ثم خوضها، ففي هذا الفصل يأتي بأول بالتفصيل على ظروف وملابسات الاستعداد الأمريكي لتحرير الكويت، والمداخلات السياسية الدولية داخلية الأمريكية، وصعوبات تجهيز الجيوش وخلافات اجتهادات المسئولين. في هذا السرد التاريخي والشخصي الشائق نتعرف آلية اتخاذ القرار في الولايات المتحدة ، وهي آلية معقدة بها مدخلات عديدة منها الرأي العام المحلي ورغبات وآراء السياسيين في المجالس المنتخبة وكذلك آراء الفنيين والعسكريين، كما نتعرف شخصية كولن باول الحاسمة والثرية أيضا، فهو ينهي هذا القسم بما سماه مبادئ كولن بأول الثلاثة عشر وهي كما ترجمتها بتصرف:

1 - الوضع ليس بالسوء الذي تتصوره، سيكون الحال أفضل في الصباح.

2 - اغضب ثم تجاوز غضبك.

3 - أبعد ذاتك عن موقعك حتى إذا فقدت موقعك لا تفقد ذاتك معه.

4 - لا يوجد شيء لا يمكن فعله.

5 - كن دقيقا فيما تختاره، ربما تحصل عليه.

6 - لا تترك حقائق عدوك تقف في طريق اتخاذك للقرار الصحيح.

7 - لا تختر للآخرين ولا تجعل الآخرين يختارون لك.

8 - دقق في الأشياء الصغيرة.

9 - شارك الآخرين في الإيجابيات التي حققتها.

10 - ابق هادئا وكن لطيفاً .

11 - ليكن لك تصور وخيال.

12 - لا تركن لتثبيط مخاوفك أو سلبياتك.

13 - قم بإشاعة التفاؤل، إنه قوة تتضاعف.

ذاك ملخص أو ربما إشارة لمدرسة كولن بأول في الحياة. والكتاب كما كتب عنه العديد من المعلقين هو (مانفيستو) أو جدول أعمال لطامح في الرئاسة. وفي استطلاعات الرأي التي بدأت تظهر في وسائل الإعلام الأمريكية هناك ترجيح واسع يتعدى نصف المستجوبين يفضلون ترشيح الجنرال كولن باول للرئاسة القادمة، إلى درجة أن أحد المعلقين كتب يقول: " لقد أصيبت أمريكا بعمى الألوان!! " في إشارة واضحة إلى أنها لم تعد تفرق بين أبيض وأسود لرئاسة الجمهورية القادمة. لقد كانت الصفوف الطويلة التي انتظرت أما المكتبات لشراء كتاب بأول في المدن الأمريكية السبع والعشرين التي زارها وحظي كل من اشترى نسخة بتوقيعه الشخصي دليلا آخر على أن (حمى باول) حسب وصف الصحف قد بدأت، وتساءلت مجلة " نيوزويك": "هل هذه التظاهرة هي لترويج كتاب أم حملة رئاسية؟ ".

نعم..ولكن!

يبدو أن عدم الرضا العام لدى الرأي العام الأمريكي هو السبب في ظهور هذه النزعة، كما يبدو أن أماني إصلاح المسار السياسي قد يحققها هذا المتحدث الدمث وصاحب العلاقات الواسعة، وحتى يفعل ذلك فإن أمامه مجموعة من الخيارات، فإن هو تقدم للترشيح مستقلا أثر كثيراً في حظ الجمهوريين في الرئاسة وربما زاد من فرص المرشح الديمقراطي وليم (بل) كلينتون، كما فعل "روس بيرو" في انتخابات 1992 عندما نافس الحزبين في ترشيحهما وأثر بذلك في كثير من الأصوات التي كان يمكن أن يحصل عليها جورج بوش. والخيار الثاني أن يترشح عن الحزب الجمهوري وهو يميل إليه ولكن القاعدة السوداء في الولايات المتحدة معظمها يصوت تقليدياً للديمقراطيين حيث برامجهم أكثر ليبرالية، وبمناسبة الحديث عن اللون، يشير كولن بأول إلى لمحة تسفر عن تعامله الخالي من أية تعقيدات في هذا الشأن، كما يشير إلى تحفظاته على جنون الحروب من واقع خبرته العسكرية، ففي حديثه عن خبرته في حرب فيتنام التي وصلها سنة 1963 مستشارا للجيش في الجنوب نرى عدم الرضا السياسي عن الحرب، فهو يكتب أن الحرب تخاض لتحقيق أهداف واضحة، وليس المهم أن تدخل الحرب، بل المهم أن تعرف أيضا كيف تخرج منها. هذه الخبرة التي شهد فيها كولن بأول خلافات السياسيين وعدم تحديد الأهداف والتعرض اليومي للموت أكسبته مناعة لردود الأفعال السريعة، ويكمل: "ولأول مرة لعب لوني دورا إيجابيا" وفي طرافة يقول:" إنه قد لبس نفس ملابس الجنود الفيتناميين الجنوبيين وحمل نفس معداتهم، فلم يكن جنود "الفيتكونج" يستطيعون أن يفرقوا بينه وبين الجنود العاديين". فهل يحصل كولن إذا ما ترشح عن الحزب الجمهوري على الحسنيين! أصوات الملونين من الحزب الديمقراطي السود والإسبان والقاعدة العريضة من المحافظين الجمهوريين الذين يرغبون في وجه جديد وسياسات جديدة؟.

قد يكون ذلك أحد حسابات الجنرال السياسية.

في الداخل سياسات كولن بأول المعلنة حتى الآن تأخذ طابع التوسط، فهو مع الحرية الفردية في الإجهاض بعد موافقة العائلة وليس مع تقنينه. وهو مع حرية الصلاة في المدارس كما تقرر المدرسة وليس مع تقنينها أيضاً كي تشمل كل المدارس. وهو مع حق المواطن في أن يحصل على سلاح، ولكن مع فترة انتظار وتسجيل للسلاح في سجلات تحفظ لدى القائمين على الأمن. هذه بعض الوسطية في طرحه للمشكلات الداخلية، وهي وسطية تغري قطاعا واسعا من الأمريكيين بالتصويت له، فلا ضرر ولا ضرار.

ولكن ماذا عن السياسة الخارجية؟ هنا نجد إشارات واضحة في الكتاب الذي نشره الجنرال، فهو يشير في جولاته العديدة في العالم وذهابه إلى مسقط رأسه جامايكا وزيارته لدول عديدة وتفهمه لمشكلاتها وطموحاتها " لدينا نحن الأمريكان السود من جامايكا ومن إفريقيا شيء مشترك" يقول في كتابه: "فأجدادنا جاءوا من إفريقيا ولكن الفرق أن السود جاءوا إلى أمريكا مكبلين بالسلاسل، ولكن أهلي جاءوا من جامايكا بإرادتهم فوطني الأمريكي هو إرادة لا فرض ولا عبودية" كما يقول: "لم نكن نعرف في حياتنا التفرقة العنصرية فقد كان هناك يهود وبورتريكيون وطليان، أعراق متعددة تعودنا قبول بعضنا البعض الآخر". وفي مكان آخر يقول: " إنه كان يعمل في "السنياجوج " " بيت العبادة الإسرائيلي " مساء الجمعة فكان يطفئ الأنوار ويضيئها إعلانا بصيام السبت اليهودي، وكان يأخذ عن عمله ذاك وهو صبي ربع دولار في الأسبوع ".

بل عندما ذهب إلى إسرائيل وهو جنرال بعد ذلك أشيع أنه تحدث إلى قادتها بلغة "اليادش" على أساس أن له إلماما بها منذ تعلمها في ذلك الحي الفقير في نيويورك.

وعلى نطاق أوسع يشرح كولن باول في فصل خاص خبرته في الشؤون الدولية عندما اختير كأول رجل عسكري أمريكي في الخدمة يعمل مستشاراً للرئيس رونالد ريجان لشؤون الأمن القومي وما آثاره ذلك الاختيار من اعتراضات، فقد كسر التقليد الأمريكي الذي يؤكد سيطرة المدنيين على المؤسسة العسكرية وليس العكس ومع ذلك وبرغم الاعتراضات فقد نجح في موقعه ذاك.

في هذا الموقع شهد كولن بأول تطور العلاقات الأمريكية السوفييتية وقتها وخبر شؤون أمريكا اللاتينية ومفاوضات بيع السلاح للحكومات الصديقة، بل وحتى موضوعات الأمن القومي في خطب الرئيس كان على بأول أن يوافقه على مسوداتها قبل أن تعتمد نهائيا. وفي نهاية ولاية رونالد ريجان وصلت إلى نائب الرئيس وقتها جورج بوش رسالة من عضو في مجلس الشيوخ عن الاسكا "تد ستيفن " يقول فيها مخاطبا جورش بوش: "أنا شديد الإعجاب بالجنرال كولن بأول واقتراحي أن تضع اسمه في القائمة المختصرة لاختيارك نائب الرئيس عندما ترشح للرئاسة".

هذه الإشارة الواضحة والدقيقة التي ضمنها الجنرال في كتابه لا تحتاج إلى تفسير لطموحات الرجل إلى المنصب الأول، كما أن الجماعات التي بدأت تتكون للدعوة لترشيحه قد انتشرت في العديد من المدن الأمريكية.

فهل تدخل الولايات المتحدة عصرا جديدا وتاريخا جديدا عندما تمكن الجنرال كولن بأول من المكتب البيضاوي في البيت الأبيض؟.لننتظر ونر.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




رونالد ريجان اكتشف قدرات كولن باول مبكرا. الصورة اثناء تسليمه جائزة الحرية في 1993م





كولن باول