الأمم المتحدة وتحديات ما بعد الحرب الباردة بطرس بطرس غالي

الأمم المتحدة وتحديات ما بعد الحرب الباردة

أنجولا، كمبوديا، السلفادور، جمهورية مقدونيا اليوغسلافية السابقة، ناميبيا، أستهل مقالي بهذه الأسماء لأنني أود أن أشير إلى بعض أوجه النجاح التي حققتها الأمم المتحدة. ذلك أنه ما أسهل أن تتوارى الإنجازات الطويلة الأمد حينما تنصب كل الأنباء على أزمة اليوم الراهن.

إن من الأمور التي أظهرتها بجلاء تحديات ما بعد فترة الحرب الباردة هو أن الحاجة إلى التعاون الدولي، الذي يسمح للدول بخدمة مصالحها الخاصة وكذلك مصالحها المشتركة، أصبحت الآن أكبر مما كانت عليه في أي وقت مضى.

لقد كان إقرار السلام، وتحقيق التقدم على طريق التنمية، وتعزيز حقوق الإنسان، والنهوض بالقانون الدولي هي الأهداف التي توخاها المؤسسون الأوائل للأمم المتحدة منذ 50 عاما مضت. وهي نفسها أهداف اليوم. والأمم المتحدة تساعد الدول الأعضاء فيها على تحقيق هذه الأهداف بطرق لا يمكن لأي مؤسسة أخرى أن تتيحها. واسمحوا لي أن أشير في أربع منها:

أولا: في الأمم المتحدة، يتاح للدول الأعضاء محفل فريد للحوار ولبناء توافق عام في الآراء

لقد وجدت قضية الديمقراطية في الأمم المتحدة بيتا لها، ونشأ توافق عام جديد في الآراء بشأنها على الصعيد الدولي ، وعبئ لها الدعم على نطاق واسع. واستخدم دعاة الديمقراطية المنبر السياسي البارز الذي تتيحه الأمم المتحدة للحصول على الالتزامات ولكسب التأييد على أوسع نطاق.

وكان الأثر ملموسا على أرض الواقع وليس على الصعيد النظري فحسب.

ففي يناير 1992، بعد أن أصبحت أمينا عاما بوقت قصير، أنشئت شعبة المساعدة الانتخابية بالأمم المتحدة. وحتى اليوم، قدمت الأمم المتحدة المساعدة في الانتخابات لما يربو على 55 بلداً في مختلف أنحاء العالم. وبدءا بالتثقيف المتعلق بالديمقراطية، شمل دور الأمم المتحدة أيضا دعم العمليات الإدارية المتعلقة بالانتخابات، وعمليات المراقبة الخاصة بها، والتحقق منها. وفي بعض الدول، تحملت المنظمة المسئولية كاملة عن تنظيم وإجراء الانتخابات.

بيد أن إجراء الانتخابات كثيرا ما يكون مجرد بداية بالنسبة للتحول إلى الديمقراطية. وفي الماضي. كانت الدول التي تبدي تأييدا لإجراء الانتخابات تأبى الذهاب إلى أبعد من ذلك. لكن الأمم المتحدة شكلت محفلا للتوصل إلى توافق الآراء بشأن ضرورة خلق ثقافة للديمقراطية. واليوم، تدعم الأمم المتحدة عملية إحلال الديمقراطية من خلال صياغة الدساتير، وتعزيز قوانين حقوق الإنسان، وتدعيم الهياكل القضائية، ومساعدة حركات المعارضة المسلحة على التحول إلى أحزاب سياسية.

وفى ديسمبر من العام الماضي، طلبت إلي الجمعية العامة أن أقدم تقريرا عن دعم الأمم المتحدة للديمقراطيات الجديدة أو المستعادة. وإنني أعتزم أن أقدم إلى الجمعية العامة في دورتها الخمسين التي ستعقد في خريف هذا العام " خطة للديمقراطية ". إن إحلال الديمقراطية هو مهمة جديدة للأمم المتحدة.بيد أن الأمم المتحدة تقف بالفعل في مكان الصدارة في مساعدة الدول في جميع أنحاء العالم على شق طريقها نحو الديمقراطية.

ثانيا: تتيح الأمم المتحدة للدول الأعضاء وسيلة فريدة لتسهيل الاتفاق على الصعيد الدولي

من خلال الأمم المتحدة، توصلت الدول إلى اتفاق بشأن قضايا كانت استعصت على الحل لأمد طويل. والمفاوضات المطولة التي أدت إلى عقد اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار هي مثال على ذلك. إن قانون البحار يتعلق بكثير من القضايا الخلافية والمشحونة سياسيا. وقد أتاحت الاتفاقية إطارا دوليا جديدا لإدارة الموارد البحرية. وهي تحدد حقوق وواجبات الدول الساعية إلى استغلال ثروات البحار. وقد أتاحت الاتفاق على قضايا معقدة تتعلق بالملاحة البحرية، ووضعت قواعد موحدة لأعالي البحار.

إن تاريخ البحث عن قانون مشترك للمحيطات هو تاريخ قديم العهد قدم ارتياد الإنسان للبحار والسفر فيها. وكان هذا الاتفاق واحدا من أعظم إنجازات هذا القرن.

وأضرب مثالا آخر بالمفاوضات التي أجريت في الأمم المتحدة بشأن تمديد معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. وقد كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة هي المحفل الذي اكتسبت فيه فكرة وضع معاهدة لعدم انتشار الأسلحة النووية قوة دافعة وحظيت بالقبول لأول مرة.

إن المعاهدة هي إحدى الدعامات الرئيسية للأمن الدولي؟ ولا بد من التشديد على أهميتها بكل قوة. فقد كان للمعاهدة دور حيوي في السعي إلى منع انتشار الأسلحة النووية وخفض الترسانات. وعلى مر السنين ، نشأت اختلافات شديدة حول المعاهدة. ويشكل الاتفاق الذي تم التوصل إليه في الأمم المتحدة بتمديد المعاهدة إلى أجل غير مسمى نجاحا مهما بالنسبة للأمم المتحدة ولمصالح جميع الدول.

وليست معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار سوى اثنتين من بين الاتفاقيات العديدة التي تم التفاوض بشأنها وإبرامها في إطار الأمم المتحدة. وتساعد هذه الاتفاقيات على إيجاد عالم أفضل وأكثر أمنا. وهي إسهامنا الذي نقدمه من أجل مستقبلنا المشترك .

ثالثا: تتيح الأمم المتحدة للدول الأعضاء وسيلة لمعالجة المشاكل العالمية بعيدا عن سيطرة أي دولة تتصرف بمفردها

إن عالمية الأسواق، وانهيار الحواجز السياسية، واستغلال التكنولوجيا قد هيأت كلها فرصا جديدة، لكنها فرضت أيضا تحديات جديدة. وتقر الحكومات الآن بصورة متزايدة بما يتولد من إحباط نتيجة لانتهاج سياسة وطنية في مواجهة قوى عالمية. وهناك أخطار جديدة مثل الإرهاب، والتلوث، وتغير المناخ، والاتجار بالمخدرات وغسل الأموال، وتفشي الأمراض، والانتقال الجماعي للسكان عبر الحدود تستعصي جميعها على الحلول المحلية.

ومن خلال الأمم المتحدة، يمكن للدول الأعضاء معالجة المشاكل العالمية والنهوض بمصالحها الجماعية. ومن الأمثلة على ذلك، اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية المعنية بتغير المناخ، التي تم الاتفاق بشأنها في مؤتمر قمة الأرض في ريو دي جانيرو. لقد كانت هذه الاتفاقية التاريخية بداية عملية عالمية للتعاون من أجل إبقاء الغازات الدفينة في حدود مأمونة. وفي إطار الأمم المتحدة، عقدت اتفاقيات بيئية عديدة ذات أهمية فائقة بالنسبة للدول الأعضاء عن بينها اتفاقيات بشأن التنوع البيولوجي، والنفايات الخطرة، والاتجار بالأصناف المهددة بالانقراض، واتفاقية مكافحة المواد المستنفدة لطبقة الأوزون.

وفي أوائل هذا العام تعرض مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية لقضايا الفقر والبطالة والتفكك الاجتماعي. إن هذه المشاكل قديمة، وتتحمل كل دولة عادة المسئولية عن حلها لصالح شعبها. وأصبح الآن معترفا بها أيضا بوصفها مشاكل عالمية يتعين التصدي لها على الصعيد العالمي. وفي كوبنهاجن، بدأ السير على درب العمل الموحد والفعال عبر الحدود فالآثار المترتبة على التدهور البيئي، أو الإرهاب، أو الجريمة المنظمة، أو التفكك الاجتماعي يمكن أن تتخطى الحدود الوطنية. ولكن حينما يحدث ذلك، سيتعذر الاعتماد على غرار ما قد يتسنى القيام به داخل بلد معين على إطار قانوني مشترك، أو ضوابط تنظيمية موحدة، أو حوافز اقتصادية مشتركة. أو على سلطات الحكومة الوطنية. وسيكون التعاون الدولي هو الرد الفعال الوحيد. إن تسهيل التعاون الدولي هو السبب وراء الحاجة إلى الأمم المتحدة. بل هو السبب وراء وجود الأمم المتحدة ذاته.

رابعا: تشكل الأمم المتحدة آلية تستخدمها الدول الأعضاء لتقاسم الأعباء والمسئوليات

أن الأمم المتحدة لم تنشأ كبديل يقوم بالعمل الذي تضطلع به فرادى الدول الأعضاء. لكنها يمكن أن تتيح، في بعض الحالات، بدائل مفيدة لهذا العمل. ويمكنها، في حالات أخرى، أن تكون مكملا مفيدا للعمل على الصعيد الانفرادي.

وحين تنشأ حالات الطوارئ، ربما تفضل الدول الأعضاء أن تستجيب لها بمفردها. وقد تفضل أن تتصرف بوصفها طرفا في ائتلاف ما وقد تفضل أيضا أن تعمل من خلال الأمم المتحدة.

وسواء مع الأمم المتحدة أو دونها، فإن الدول التي لديها القدرة على أن تتصرف بمفردها بوسعها أن تفعل ذلك حينما تشاء. وقد كفلت سلطة حق النقض القيام بذلك في الأمم المتحدة وكانت الحرب الباردة برهانا على أن الأمم المتحدة لا يمكن لها أن تعمل إلا حينما يسمح لها بأن تعمل.

ولكن حينما تكون هناك مصالح مشتركة، ويمكن تقاسم تكاليف العمل وأعبائه، فماذا يمنع من القيام بذلك؟ ومن خلال الأمم المتحدة، تتقاسم جميع الدول الواجبات والفوائد، ويمكن أن توفر الأمم المتحدة وسيلة فعالة من حيث التكلفة لاحتواء صراع إقليمي ، وللنهوض بالديمقراطية وحقوق الإنسان، والتحكم في تدفقات اللاجئين، وتحقيق الاستقرار في مناطق الاضطرابات.

وإذا لم تستخدم الأمم المتحدة، فسيتقلص عدد الخيارات المتاحة للدول الأعضاء حين تنشأ حالات الطوارئ. وكثيرا ما سيتعين على تلك الدول أن تتصرف على أساس انفرادي. وربما عجزت تماما عن العمل.

إذا لم تستخدم الأمم المتحدة، فإن الدول التي لديها القدرة على العمل على نطاق عالمي ستواجه ضغوطا أكبر بكثير تدفعها إلى التصرف بمفردها لتدارك كوارث إنسانية أو صراعات تنطوي على خطر زعزعة الاستقرار، أو التصدي للعدوان بأشكال متعددة. وستقع المسئولية عندئذ، بصورة غير متناسبة، على كاهل هذه الدول. وسوف يكون الأمر كذلك تماما بالنسبة للتكاليف.

وفي أعقاب الحرب الباردة. تجرى حاليا في العالم بأسره مناقشة حول معنى الالتزامات الدولية ومدى المسئوليات الدولية.

وفي نهاية المطاف، فإنني أعتقد أن القضية هي قضية تتعلق بالمجتمع المحلي، أي بإنشاء مجتمع محلي، وصون هذا المجتمع المحلي، والمشاركة فيه.

ففي أماكن عديدة يشكو المواطنون اليوم من فقدان المجتمع المحلي في حياتهم اليومية. وترتكب الجرائم اليوم على مرأى ومسمع من الجميع. ويشيح البعض أبصارهم بعيدا، ويتظاهر آخرون أنهم لم يلاحظ شيئا. في حين يكتفي كثيرون بدور المشاهد ولا يحركون ساكنا.

ومع ازدياد العلل الاجتماعية، لاذ العد يدون بسواتر تزداد باطراد. وانفصمت لدى الكثيرين الروابط العاطفية مع مواطني بلدهم. وفي الشؤون الدولية، أصبح العديدون يزدرون مفهوم المجتمع الدولي. وكثر دعاة الامتناع عن التدخل وكثيرون هم من يهنئون أنفسهم باتخاذ هذا الموقف.

ومن ثم، يصرف النظر عن المجزرة في ليبيريا على اعتبار أنها مشكلة من مشاكل الغير. وينظر إلى العمل على استعادة الحكومة الديمقراطية في هايتي بوصفه كفاحا يتعلق بآخرين. وهناك خطر بأن تصبح عقلية عدم الاكتراث نموذجا جديدا للعلاقات الدولية.

إننا مطالبون، كأفراد، بأن نقرر: ما هي مسئولياتنا ؟ وما هو دورنا وعلى أي أساس نود أن نتفاعل مع بعضنا البعض وعلى الدول أن تقرر ما هو ردها على هذه الأسئلة ذاتها.

وفقا للاختيارات التي تتقرر في هذا الشأن ، ستتجسد المجتمعات المحلية التي نعيش فيها. وستحدد تلك القرارات طبيعة البيئة الدولية التي يتعين علينا أن نتعايش في كنفها.

إن الأمم المتحدة ليست ولن تصبح أبدا حكومة عالية. وهي ليست مؤسسة لإعادة توزيع الثروة تأخذ من الأمم الغنية لتعطي الأمم الفقيرة. وليست الأمم المتحدة جهازا بيروقراطيا قويا له جدول أعماله الخاص. فهي ليست وكالة للتعاقد من الباطن لأغراض الأمن الدولي. وليست لها أي قدرة عسكرية على الإطلاق عدا السلطة والقوات التي توفرها لها الدول الأعضاء.

ولكن الأمم المتحدة هي الآلية الوحيدة المتاحة لنا لكي نحقق التعاون الجماعي بين الأمم كافة. إنها الأداة العالمية الوحيدة لتعزيز السلام والأمن. وهي المؤسسة الوحيدة لتدعيم التنمية على النطاق العالمي. وهي الآلية العالمية الوحيدة لحماية حقوق الإنسان. وهي الإطار المشترك الوحيد لتعزيز القانون الدولي.

وهنا أود أن أختتم مقالي حيثما بدأت بالإشارة إلى بعثة حقوق الإنسان في جواتيمالا ، والانتخابات في جنوب إفريقيا، والسلام والديمقراطية في موزمبيق. إننا، ونحن نعمل على تدارك أوجه قصورنا، لنا أيضا أن نتذكر هذه النجاحات.

 

بطرس بطرس غالي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




شعار الأمم المتحدة





هل تنجح الأمم المتحدة في خلق توافق عالمي إزاء القضايا الدولية؟





حمامة السلام تلف العالم.. أنه هدف الأمم المتحدة من أجل عالم أفضل