إطلالة على المسرحية النقيض محمد مبارك الصوري

إطلالة على المسرحية النقيض

تجارب من المسرح الكويتي

حظي النشاط المسرحي في الكويت والخليج العربي باهتمام كبير ولكن معظمه انصب على المسرح التجاري. في هذا المقال يستعرض الكاتب مجمل الظاهرة المسرحية ويلقي نظرة أخرى على مسرح كويتي مختلف.

لا مراء أن المسرح اليوم يحظى بالإقبال العظيم من المشاهدين ويثير عددا كبيرا من القضايا المهمة سواء على الصعيد النظري أو في مجال التطبيق، ويكفي أن نتذكر من مسائله المهمة ما يتعلق بتراثنا العربي وهل انطوى على أشكال مسرحية لها طابع مسرحي، أو أن في هذا العزم تعسفا ومبالغة؟ وهل جاء المسرح العربي تقليدا للتجربة الأوربية في هذا المجال؟ أو أنه استنبت من بذور شعبية عريقة الوجود في البيئات العربية، ولم تقم التجربة الأوربية بأكثر من دور المنشط أو المنبه لبعث هذه الطاقة الكامنة؟

فيما يتعلق بالقضايا الفنية الخالصة نذكر على سبيل المثال لا الحصر إن الشكل الأوربي كان ولا يزال هو السائد في صناعة المسرحية، فهي عندنا مكونة من فصول يصنع حبكتها حدث حي ينقسم إلى أحداث صغيرة مترابطة منطقيا أو متتابعة من خلال التسلسل الزمني، وهذه الحداث تصنعها شخصيات فيها تضاد في الصفقات، وهذا التضاد هو الذي يؤدي إلى صراع يبدأ ليستمر ويتصاعد ليضع النهاية التي تستمد من الحادثة الرئيسية وتحمل الكلمة الأخيرة والنتيجة الحتمية للموضوع.

هذا النمط "الأرسطي" الموروث هو النمط الأوربي لمئات السنين، وهو الذي تسلل إلينا وهيمن على صناع المسرحية عندنا، ولقد بذلت محاولات عربية للتمرد على هذا الشكل المأثور تحت شعار ضرورة استقلال الثقافة العربية، وقد أثيرت هذه القضية - قضية الأصالة والتقليد - على المستوى النقدي عند الدارسين وعلى المستوى الإبداعي عند المؤلفين، ولكن لم تقل فيها الكلمة الأخيرة.

تعدد اللهجات.. وحيرة كتاب المسرح

وفي الحقيقة أن الخلافات التي نشبت حول قضية اللغة ليست صادقة وصحيحة لأن في العالم العربي طبقات وجماعات وأنظمة اجتماعية تتحدث وتكتب بمستويات لغوية متفاوتة تتباعد عن اللغة الفصيحة أحيانا، وتتقارب منها أحيانا أخرى.. والنتيجة أنه اعترت اللغة الواحدة اختلافات محدودة جعلت منها لهجات عديدة أوقعت الكاتب في الحيرة إلى حد ما.

ولعل كاتبنا العربي يجد نفسه مبلبل العقل مشتت الخاطر بين حرصه على الانتماء إلى أدب أمته، وهذا يقتضي منه الكتابة بعربية فصيحة أو سليمة من وجهة نظر النحو والدلالة من جهة، وبين سهولة التواصل مع الجماهير العريضة، وهذا يعني إيثار العامية المرتبطة بالإقليم وهي بطبيعتها بعيدة عن النحو ومخالفة كذلك في الدلالة من جهة ثانية. هذه بعض القضايا الجادة التي يمكن أن تثار وتعطي موضوع المسرح أهميته الخاصة. وفن المسرح له حساسيته الخاصة التي قد لا تتوافر للأشكال الفنية الأخرى كالشعر والقصة، فالعمل المسرحي يتلقى ردود الفعل المباشرة من الجمهور، أي أنه يستصدر الحكم الفوري على التجربة، وهذا مما يؤثر في تطوره واستقراره، كما يمتاز المسرح أيضا بأنه فن جماعي يقوم على تضافر عدد من الجهود المركبة ما بين المؤلف والمخرج وصانع الديكور وفريق الممثلين والموسيقيين والراقصين...الخ.

ولهذا فإنه ينفرد بميزة كونه المرآة الصادقة للوضع الحضاري والاجتماعي والسياسي في البيئة، فمشاهدة مسرحية أو عدة مسرحيات يمكن أن تعطينا الكثير عن أخلاق الشعوب الذين تخصهم، وتعرفنا بالبعض من عاداتهم وتقاليدهم، كما تسلط الضوء على أزماتهم وتطلعاتهم، وبذلك تقدم ما تعجز عنه الدراسات المتنوعة، وبالطبع لا تعني بذلك أنه يكفي أن يقرأ الإنسان مسرحية ليستكشف من خلالها أخلاق شعب وطموحاته، بل نريد مما سبق أن المسرح فن أدبي ونحن نحرص على ما يحمل من قيمة وينبغي أن نعطي أهمية خاصة لعامل اللغة ونهتم بالتصوير وبعناصر التشويق الجمالية، كالمفاجأة مثلا، لنصل إلى القيمة الفنية والرسالة العظيمة التي يؤديها المسرح. كما ينبغي الالتفات إلى عمق التحليل.. ففن المرح له قيمه الجمالية التي ينبغي أن تتوافر في الموضوع ليصلح للتناول الدرامي، ويجب اختيار الشخصيات القادرة على طرح الموضوع بشكل جاد وبلغة درامية لها خصائص محددة تبدأ بصياغة الجملة وتسلسل الحوار وتتابع الموقف، ثم الصراع الظاهر الخفي الذي مجاله النفس.

وهذه القيمة الجمالية قيمة مطلقة أقرها النقد النظري والعملي عبر العصور المتطاولة، فهل تحققت هذه القيم في عمل مسرحي مثل (امرأة لا تريد أن تموت)؟.

وإذا كان القرن التاسع عشر قد ابتدع ما يسمي بالمسرح الرومانسي، وجاء المسرح الوجودي في منتصف القرن العشرين، وقبل ذلك كان المسر الملحمي..فإن ذلك وإن شكل تغييرا في البعد الفني إلا أن القيم الجمالية الأساسية تظل راسخة.. وكلما ابتدعت صفة جديدة فإنها تبدو لمن يدقق فيها قائمة على قراءة جديدة لصفة قديمة.

فالمسرحية الرومانسية تتهم بتكريس الانفعالات البشرية وتضخيم العواطف، وتتهم المسرحية الوجودية بالاهتمام بالمواقف وبالإنسان في لحظات الاختيار..ويسبغ المسرح الملحمي أهمية خاصة على عنصر الحكاية والتجريب، ومع هذا تبقى العناصر الأخرى كافة موضع احترام من المذاهب والاتجاهات جميعها.

أما فيما يتعلق بالمسرح في عالمنا العربي فإنه ظاهرة محدثة لا يزيد عمرها على قرن من الزمن إلا قليلا حتى عند القائلين بأن تراثنا الشعبي أو الأدبي ينطوي على عناصر درامية أو مسرحية، وكما قال بعض النقاد فإنه لا شيء ينبع من لا شيء.

والأمم كالأفراد خبرتها بمقدار تجاربها، وأمام الظاهرة المسرحية العربية نجد أن القيم الجمالية الأساسية لفن المسرح تتحقق في بعض الأعمال القليلة نسبيا ولدى كتاب معدودين في أحسن الأحوال.

ونجد كما هائلا من المسرحيات لا يصدر عن هذا الحس الجمالي لفن المسرح، ومع هذا فإن الباحث لا يستطيع أن يتجاهل هذا الكم الهائل. ليس من منطلق أنه يقوم بوظيفة اجتماعية وأخلاقية وجمالية أيضا عند الجماهير العريضة التي تتناسب مداركها مع ما تشاهده، ولكن بالإضافة إلى ذلك لأن هذه الأعمال هي بمنزلة تجارب وخطوط أولية لمسرح المستقبل في العالم العربي، ولا يستطيع الباحث العربي أن يتجاهل هذه الأعمال وأن يرقب الظاهرة في إهمال متعمد انتظارا لنضجها في المستقبل، لأن الحوار النقدي الجاد عامل أساسي من عوامل النضج المستقبلي المنتظر.

ومن القضايا الفكرية الكبرى التي تشغل بال أدباء المسرح ونقاده أن فن المسرح لم ينشأ عند العرب تمثيلا أو أدبا، ودلل أكثر من أديب وناقد على هذه الملاحظة التي نجدها واضحة عند طه حسين - مثلا - كما أوردها في كتابه (من حديث الشعر والنثر)، وغيره من كبار نقاد العرب والدارسين، فعلى الرغم من أن المسرح قد عرف منذ منتصف القرن الماضي بمارون النقاش ويعقوب صنوع وغيرهما، فإن النصوص الأولى التي عرضت على المسرح وقتذاك لا تعد جزءا من تراثنا الأدبي العربي، إذ إن المسرح في العالم العربي لم يستطع أن يرتفع إلى مستوى الأدب إلا ابتداء من الربع الثاني من القرن العشرين.

وماذا عن المسرح في خليجنا العربي؟

وإذ كانت منطقة الخليج قد أسهمت في النشاط المسرحي فإن إسهاما قام بادئ ذي بدء بمحاولات طلبة المدارس وبعض الأندية الثقافية التي عنيت غالبا بأخلاقيات المجتمع وبقيم التاريخ العربي الإسلامي، ومنذ الحرب العالمية ومنطقة الخليج - وهي الجناح الشرقي للأمة الغربية - تحاول أن تشارك في البعث الفكري والإسهام في النهضة المتجهة من الشمال إلى الجنوب ممثلة في إنشاء المدارس وإرسال البعثات وظهور المطابع والدوريات وانتشار وسائل الإعلام المختلفة، وجاء النفط ليشكل انقلابا أسبه ما يكون بالانقلاب الصناعي الذي حدث في أوربا منذ قرنين من الزمان تقريبا.

والأدب من حيث هو ظاهرة اجتماعية يرتبط ارتباطا وثيقا بحركة الحياة الاجتماعية في منطقة الخليج. وفي مسار الحركة الأدبية ظهرت الدرامة في منطقة الخليج وتراوحت عطاءاتها بين محاورات أدبية وقصص لها طابع مسرحي كبعض قصائد محمود شوقي الأيوبي الشعرية، وأعمال درامية بعضها يفتقد المعنى الدقيق للدراما، وإبان حركة التجديد في الشعر تعددت في منطقة الخليج الأنواع والأغراض الشعرية، وتطور الشعر الغنائي متخذا طابعا ملحميا هياما لمعالجة الشعر التمثيلي على نحو يكاد المؤلف فيه أن يلتزم بالحقيقة التاريخية كمسرحية "وامعتصماه" لإبراهيم العريض من البحرين ومسرحية "أفلاطون شاعرا" للكاتب البحريني قاسم الحداد.

وهناك محاولات في المسرح الشعري لبعض الشعراء في بلدان شرقي الجزيرة لكنها مخطوطة وقليلة جدا، مثل "دخول البحرين في الإسلام" لكاتبها عبدالرحمن المعاودة، ونجد في "النور من الداخل" للشاعر محمد الفايز من الكويت شيئا من ملامح المسرحية الشعرية، فلغتها شاعرية الحوار وحوادثها مقسمة إلى عدة مشاهد، وفي قطر نجد عبدالرحمن المناعي وقد ظهرت له مجموعة من المرحيات منها (المغني والأميرة) وهي مقتبسة من قصة قصيرة للشاعر علي العبدالله الخليفة تحمل الاسم نفسه. على أن النص المسرحي ظل في بدايته متعثرا بصورة واضحة، وبدت المسرحيات كما لو كانت مجرد محاولات أو خطوات أولية على الطريق، بالإضافة إلى تدني مستواها الفني وحرصها على اللهجة المحلية.

وإذا كانت الكويت تعتبر إحدى البيئات الأساسية للنتاج في أدب شرقي الجزيرة العربية، فإننا نجد أن من أهم مشكلات النشر المسرحي فيها تلك العقبات التي تعترض أدب المسرحية الكويتية ممثلة في متطلبات العرض المسرحي، وكانت في الغالب تتعارض مع الفن، وقد أدى ذلك به إلى التعبير المباشر عن الحادثة الاجتماعية المؤقتة، أو التوجه إلى الجمهور المحلي المحدود، وعلى أية حال ظل الأدب المسرحي متحفزا للظهور.

وتعد الحركة المسرحية في الكويت من النشاطات الثقافية البارزة التي صاحبت المتغيرات الاجتماعية الحديثة، توافقت إيقاعاتها هبوطا وصعودا انسجاما مع واقع تلك المتغيرات، فلا نجافي الحقيقة إذا جعلنا النشاط المسرحي في الكويت من أبرز أنواع النشاط الفني فيها، وإن كانت المسرحية قد اقترنت بالكلمة المحلية شكلا ومضمونا خلال ما عرض على خشبة المسرح في الكويت عبر ثلاثين عاما - أي من عصر الارتجال إلى عصر التجريب فالتميز والانتشار - فإن النص المسرحي الأزلي يعد من أبرز عطاءات البحث عن الذات، وقد ظهر النص المسرحي الكويتي في أوائل الستينيات بلهجة محلية وتأكدت عناصر الإبداع المسرحي في منتصف الستينيات، وبذلك فإن المسرح في الكويت ولد فيها ظاهرة تعبيرية لحالة اجتماعية حضارية، ومن هنا يمكن أن نتبين في المسرح خطين بارزين أكثر من غيرهما.. أولهما المسرح الترفيهي، وثانيهما المسرح الكلاسيكي الفصيح الواضح اللغة والعبارة، وهنا لا ندعي أنه يشبه تماما المسرح الكلاسيكي ذا الصورة المعروفة في أوربا ابتداء من عصر النهضة.

ولقد ارتبط أدب المسرحية الكويتية في فترة الستينيات والسبعينيات - وهي باكورة عمر المسرح الكويتي الحديث - بمشكلات التغير الاجتماعي وقتها في وسط المجتمع الكويتي، ومن ثم كان لا بد من أن يصاغ باللهجة الكويتية الدراجة حيث اتخذت مستوى تصلح للأداء المسرحي، وربما كان الفهم الخاطئ للتعبير عن الواقع حيث ينقلون وبشكل مباشر ما يحدث، دون أي تدخل..!

وإذا كنا نهتم بالأدب المسرحي الفصيح برغم قلة النصوص المسرحية المكتوبة باللغة الفصيحة، فإننا سنغفل عرض النصوص المصاغة باللهجة العامية لأن لها أدبها وبلاغتها الخاصة بها، وإن لم نمنع أنفسنا من الإشارة إليها حالما يحتاج الموقف إلى ذلك، وقد حظيت الظاهرة المسرحية بكثير من الدراسات النقدية الجادة والمتميزة التي انصبت على النص المحلي العامي، ولم تتسع لدراسة أدب المسرح الكويتي بشقيه "الفصيح والعامي"، وذلك لتقويم القطاع الفني الثقافي الأدبي المهم في حياتنا المعاصرة.

وحرصا على توفير النص المكتوب، ومقارنة مع النص المعروض نحاول في وقفتنا هذه إبراز جانب الأفضلية والممايزة عن طريق عقد مقارنة بين النص كفكرة والنص كفرجة حتى نكون موضوعيين تماما في تناولنا لهذه القضية.

تحديد مفهوم مصطلح الأدب المسرحي

مع مراعاة أن الأدب الذي يقدم باللهجة العامية في كثير من الأحيان له بلاغته، ومع البحث عن مكانة المسرحية من الأدب ينبغي أن نطرح التساؤل التالي: لماذا اعتمدت هذه المحاورة على النص الفصيح دون النص العامي؟

في الواقع تأتي المحاورة وهي قائمة على الحديث أهم اتجاهات المسرحية في الكويت، ابتداء من الحديث عن المسرحية التقليدية من حيث البناء الدرامي المسرحي وأدواته الفنية من لغة وحكاية وتاريخ وصراع وشخصيات وتطور الحدث الدرامي فيها، وذلك للوصول إلى الحديث عن المسرحية "المسرحية النقيض" ومجالات مسرح العبث فيها، مقدمين النموذج الأوضح في هذا الاتجاه الذي تمثله بقوة كتابات سليمان الخرافي، ومنها مسرحية العبثية "امرأة لا تريد أن تموت" بما يمكن أن يخدم هواة المسرح ومحترفيه وطلابه وكذلك الفصول المسرحية أو بما يخدم مجال الأدب وبما يمكن أن تقول عنه أنه يمثل جانبا من حياة الكوتيين وجزءا من تراثهم وعنصرا من عناصر بناء الكويت الحبيبة.

 

محمد مبارك الصوري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مشهد من مسرحية سيف العرب





مشهد من مسرحية سيف العرب