سعد الله ونوس جان ألكسان

سعد الله ونوس

مجالدة المرض بالفن

"عندما يتعرض جسدك للحريق.. هل من حائط تستند إليه سوى حائط المسرح؟" بهذه الكلمات خاطب المخرج جواد الأسدي صديقه الكاتب المسرحي سعد الله ونوس في رسالة مفتوحة عندما دخل محنة مرضه الخبيث الذي ما زال يجابهه بمجالدة تثير الإدهاش.

الكاتب العربي الكبير يواجه مرضه أيضا وبإصرار على المزيد من العطاء المسرحي، فتظن وأنت تزوره - ولا نقول تعوده - إنك ستقف على رجل عزلة وانطواء، فإذا هو وجه عنيد ومكابر لرجل المسرح الفذ الذي (يختزل صخب الشوارع والمدن والتواريخ والأحداث).

ويتحدث إليك سعد الله ونوس عن مرضه وكأنه يرصد حالة أحد أبطال مسرحياته، بل ويجد نفسه مضطرا لأن يصدر بيانا مكتوبا حول هذا الأمر بعد أن أبدت أكثر من جهة وأكثر من شخصية الاستعداد المفتوح لنفقات العلاج في أي مكان من العالم. يقول سعد الله ونوس:

"حين بدأ مرضي عام 1993 م تكلفت دولتي بكل متطلبات علاجي في سوريا وفرنسا، وتقتضي الأمانة أن أذكر أن السيد الرئيس حافظ الأسد اهتم شخصيا بمرضي، وأمر بتغطية كل ما يقتضيه علاجي، وبتوجيه منه أحاطتني السيدة وزيرة الثقافة بدورها طوال فترة مرضي بالاهتمام والرعاية، وحين عاود المرض حدته عام (1994) تم إيفادي إلى فرنسا، وأجريت لي الفحوص والتحاليل الطبية اللازمة.

وأنني أعرب عن امتناني للسيد الرئيس الذي طوقت مبادرته عنقي، وأغتنم هذه المناسبة لأعرب لسيادته عن عميق امتناني وعرفاني لما أبداه نحوي من رعاية واهتمام وكرم.

أذكر هذه الوقائع كي أطمئن الجميع وأؤكد لهم من جيدي أنني لا أحتاج ماديا إلى أي شيء، وأقول للمثقفين والمبدعين في مصر والإمارات والكويت والأردن ولبنان والمغرب وسوريا: شكرا من الأعماق".

وإذا كانت المسيرة الأدبية لهذا الكاتب المتميز أوسع من محاولة استيعابها في دراسة مكثفة، فإننا سنحاول في هذه الوقفة أن نستجلي أهم أوجه الإبداع في هذه المسيرة التي أصبحت مسيرة كاملة للقلق والجرأة، فقد صرخ في وجه (الخامس من حزيران) وبحث عن (رأس المملوك جابر) وسهر مع (أبي خليل القباني) وفتش عن (الملك في العبد)، ورسم أسئلة الاحتلال الإسرائيلي في (الاغتصاب)، وهاجر إلى التاريخ في (المنمنمات)، وها هو في عمله المسرحي الجديد (صدر في بداية عام 1995 عن دار الأدب - بيروت) بعنوان (طقوس الإشارات والتحولات)، يصل إلى الإنسان في أخليته وأهوائه، يكشف زيف العلاقات الاجتماعية المغلقة بين عوالم دمشق في القرن التاسع عشر، وبهذا يصل في جرأته حد كسر المحرمات والحواجز، ولا يتوقف عند نقد المؤسسات وكشف فسادها، بل يبحر إلى الأعماق، حيث تتوهج الرغبة كالماسة، وترتعش الأرواح وهي تعانق الوجع الممزوج بالإحباط، ونكتشف الوجوه المتعددة للشخوص والأشياء.

وإذا كانت لسعد الله ونوس كتب تسبق مسرحيته الشهيرة (حفلة سمر من أجل 5 حزيران) إلا أن هذه المسرحية كانت علامة انطلاق نوعية في مسيرته الكتابية، ذلك لأنها كانت انعكاسا لحجم الهزيمة ومرارتها، وحاولت أن تضع الإنسان العربي في المواجهة القاسية مع الذات.

ومع أن ونوس كتب هذه المسرحية متأثرا بنظريات الكاتب المسرحي الشهير برتولد بريخت ، إلا أنه استطاع أن يحقق في أسلوبه نوعا متفردا من (مسرح التسييس) بدمج المتفرج مع الخشبة وإعطائه دورا فعالا في الحدث المسرحي، فشعر الجمهور فعلا أنه ضمن الحدث، وأنه المعني بما سيجري، وأن الممثل الذي يجلس في الصالة ليحاور الذين على الخشبة هو فعلا متفرج مثله.

على أن السمة الأساسية لمسرح سعد الله ونوس هي توجهه نحو التراث.. ذهب إلى التاريخ ليتناوله تناولا حديثا، وحمله مضامين فكرية وإسقاطات على إنسان اليوم كما في (الفيل يا ملك الزمان)، الحدوتة المعروفة التي صاغها صياغة درامية متجددة، جسدت خلالها الخضوع الخانع لمناس أمام السلطة الجائرة، و(مغامرة رأس المملوك جابر) التي يدين فيها الشخصية الانتهازية من خلال رواية أحداث تاريخية حول صراع خليفة بغداد ووزيره، وهجوم ملك العجم، وتدمير بغداد، وحلول البؤس بشعبها.

ولم تكن مسرحية (سهرة مع أبي خليل القباني) نوعا من المسرح التسجيلي لحياة وأعمال ذلك الفنان الرائد، بل كانت تعرية فاضحة لحقبة من تاريخ الاحتلال العثماني لبلاد الشام، وما كان يحتدم فيها من صراعات وتناقضات سياسية واجتماعية، بالإضافة إلى إرهاصات النهضة القومية العربية في مجابهة التتريك، وذلك من خلال سعي القباني لأن يستخدم إدارة المسرح، ومن خلال ظاهرة الفرجة، في عملية التنوير، والوقوف في وجوه المتزمتين الذين تشهدهم الموروثات السلبية إلى المزيد من التخلف، وتضعهم السلطة العثمانية الجائرة في واقع القهر والاستلاب.

ومن خلال هذا التوجه كتب سعد الله ونوس مسرحيته (الملك هو الملك) حيث يجيء البعد التخييلي في النص بعدا داخليا مكملا للأسلوب البريختي الذي بدأه مع (حفلة سمر).. أي (اللعب المسرحي) على المسافة بين الجمهور والمنصة.

اللعبة هي لعبة الديمقراطية والقمع، لعبة المسموحات والممنوعات، تصعد فئة إلى السلطة تحت شعارات معينة لا تستطيع أن تنسجم معها، إذ تحت هذه الشعارات تستطيع فئات من الشعب أن تتحسس قضاياها وتنظم نفسها في غفلة من هذه الفئة الضجرة بحكم ضيق أفقها، وعدم قدرتها على الحكم، تنتهز هذه الفرصة الطبقة المنهارة التي ما زالت محتفظة بأحقادها وتقفز إلى السلطة في عملية تراجع عن المسموحات الماضية، ويتصاعد القمع والعنف وملاحقة الفئات (الواعية) وهكذا يتغير الأشخاص إلى أسوأ أو إلى أحسن في إطار السلطة بينما ينقسم الشعب على نفسه في كل مرة، موعودا أو مضللا، أو مقموعا.

أقل الخيارات ضررا

والمعروف أن سعد الله ونوس كان قد بدأ كتاباته المسرحية منذ بداية الستينات، وتوقف عن النشر في عقد الثمانينيات، وقيل أنه دخل في (الصمت).. وقد عقب على تلك الفترة بعد أن عاد إلى الكتابة في بداية التسعينات قائلا:

"لقد اربكتنا المراوغات والمهادنات، وأدت إلى سيادة الفكر التلفيقي في حياتنا، أما عن الصمت، فإن ذلك هو أقل الخيارات ضررا أو كلفة، وإذا أردت أن أتحدث عن حالتي الشخصية، فإن صمتي ليس مراوغة، وليس خوفا من مواجهة المحرم، إنه باختصار نوع من العجز الشخصي عن مواجهة التردي الصاعق الذي نعيشه.. لقد تحطمت أوهامي وأحلامي كلها في غضون سنوات قليلة.. إنني الآن أجلس وسط خرائبي الشخصية محاولا أن ألملم شتات نفسي، وأن استوعب حجم الخراب وأسبابه الجوهرية"..

ويبدو أن سعد الله ونوس قد لملم ما استطاع من شتات نفسه، وعاد في نهاية عقد الثمانينات وأول عقد التسعينات إلى الكتابة المسرحية، وكانت المفاجأة مسرحية تتحدث عن قضية فلسطين في الوقت الذي تراجع فيه كثيرون عن المتابعة في خوض غمار هذه القضية التي تشعبت متاهاتها، وتعددت رموزها، وتضاربت فيها الوسائل والأهداف والمفاهيم والحلول لدرجة التناقض الصارخ.

يقدم سعد الله ونوس بملاحظة مهمة للمسرحية حيث يقول:

"في بناء الحكاية، استفدت من عمل الكاتب الأسباني أنطونيو بويرو باييخو - القصة المزدوجة للدكتور بالي - وفي البداية كان مشروعي هو أن أعد هذا النص ذاته للعرض المسرحي، ولكن سرعان ما عدلت عن الفكرة مؤثرا كتابة نص جديد حول قضيتنا المحورية، قضية الصراع العربي - الإسرائيلي.

ولعل من المناسب أن نذكر هنا، أن إلهام المسرح الحقيقي لم يكن في يوم من الأيام الحكاية بحد ذاتها، وإنما المعالجة الجديدة التي تتيح للمتفرج تأمل شرطه التاريخي والوجودي، وحينكان الإثينيون القدماء يتوافدون من الفجر حاملين سلال طعامهم وشرابهم إلى المدرجات الحجرية حي تقام المسابقات المسرحية، لم يكونوا يأتون ليسمعوا حكايات جديدة، بل ليتأملوا شرطهم الحياتي والاجتماعي في ضوء المعالجات التي يقدمها المسرحيون العظام للحكايات المعروفة..

لقد تعمدت إيراد هذه الملاحظة لأن عددا من نقادنا لم يفهموا جوهر المسرح، وهم يعتقدون خطأ أن العنصر الأساسي في النص وفي العمل المسرحي هو الحكاية، ولهذا فهم يمسخون المسرح وإلهامه الأصلي غلى تلخيصات سقيمة للحكايات، ويمسخون عملهم إلى مطاردة عقيم لتقصي أصل الحكاية..".

سفر الأحزان

وطلع علينا ونوس في مسرحية (الاغتصاب)، بسفر الأحزان اليومية الذي ترويه الفارعة وتحكي من خلاله قصة دلال بنت أعيان الضفة التي تزوجت إسماعيل غصبا عن أهلها وهو عضو في حركة تحررية ومعتقل من قبل سلطات الاحتلال.

أما الحدث فهو جر دلال إلى حيث زوجها المعتقل، وقيام (حفلة اغتصاب) لشرفها.. ويشير ونوس في المسرحية إلى أن هناك كثيرا من اليهود يرفضون الاغتصاب والعنف الذي تمارسه الدولة الصهيونية..

أثار النص يوم صدوره ويوم أقدم على إخراجه جواد الأسدي جدلا عنيفا خاصة وهو يطرح مضمونا إشكاليا بين الفلسطيني والإسرائيلي.

رأى البعض أنه يطرح موضوعا ساخنا بعيدا عن رتابة الطرح التقليدي للصراع القائم في الأرض المحتلة، ورأى البعض الآخر أن النص لا يقدم جديدا في الرؤية العقلانية لآلية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.

الرأي المضاد

وفي مناقشة رأي الذين أشاروا إلى عدم تحديد المكان والحدث في المسرحية (الأرض التي يتم الحديث عنها مع منوحين - أحد أبطال المسرحية - هل هي أرض احتلت عام 1967 م ، أو الأراضي التي لم تحتل).. نطرح الرأي الآخر، المقابل والمضاد، حتى يكون القارئ الذي فاتته قراءة المسرحية (والمثال رأي الناقد أنور رجا في السفير (29 / 6 / 1990) حيث يقول:

"ليس في هذا مطالبة للكاتب أن يقدم في نصه المسرحي محاضرة سياسية يجيب فيها عن تساؤلات هذه الجهة أو تلك، لكن ما تحفل به المسرحية من تكريس لخط سياسي يتعلق بسقف الحل والتسوية، يجعلنا نقف أمام طرحه لما له من إسهام في صناعة الرأي الفلسطيني والعربي، ولخطورته كفعل درامي مؤثر حين تكون الصياغة الفكرية والفنية فوق خشبة المسرح.. هذا الفعل الذي لا يقدم موقفا نقديا من اجتزاء القضية والتاريخ في مرحلة ظلمت آفاقها، بسبب الخروج عن جوهر وحتمية التاريخ التي تحكم طبيعة الصراع.. وعلاوة على ذلك، يجيب الكاتب عن أسئلة، قد تتبادر إلى ذهن المتلقي بما يتعلق بإمكان وجود شخصية ممنوحين أساسا، وهو الذي يبدو مترددا غير واثق من نفسه ومن نزاهته كما يصوره الكاتب، فيقول لسعد الله:

هل تعتقد أن بوسعي أن أكون نزيها إلى هذا الحد ؟
- سعد الله : من اختار الولاء للعدالة لا للقانون لا بد أن يكون نزيها.
- منوحين : حتى لو أدى ذلك إلى أن أتخلى عن أهلي وشعبي؟

فيأخذ الكاتب بيد منوحين ويعمد إلى إعادته إلى حلمه ووعده، وحكاية شعب الله المختار التوراتية، ويمنح شخصية منوحين (وعيا تاريخيا) لشرط وجودها الذي أسست الحركة الصهيونية برنامجها عليه، يذكره بمراثي أريميا وحنانه وخوفه على شعبه.

- سعد الله : أنك لا تتخلى عنهم، بل تحاول حمايتهم.. إنك تبصر أن الدرب التي يسلكونها خطيرة، وأن الصهيونية التي يستفيدون بها ورطة، هل تخلي أريميا عن أهله وشعبه ؟ كان لسانه يرعد باللعنات، أما قبله فكان ينفطر حنان".

لقد انتقلت طاولة المفاوضات السياسية الراهنة هنا إلى خشبة المسرح، وللمرة الأولى في تصاعد الفعل الدرامي عبر هذا النص، فهذا الحوار المختمل بين منوحين وسعد الله ونوس، يخرج القضية من أبعادها التاريخية والوطنية والتراثية إلى صورة هشة للصراع، تبدو من خلال الأحداث أنها تعطي الشأن الإسرائيلي الخطوة الأولى في مسيرة الفعل، ولعل هذا ما يبدو واضحا من خلال استجلاء الصورة الفلسطينية التي يقدمها النص ضعيفة الحضور والتأثير والأصول، أمام تلك الصورة الحضارية الإسرائيلية ذات الدور الدرامي العالي المتميز في بناء المسرحية وصياغة الحدث على ضوء ما سبق، وليقين الكاتب بأن نصه (الاغتصاب) الذي يوائم الخطاب السياسي لمسار ونهج التسوية (السائد رسميا) الذي يتناقض مع اتجاهات فكرية وسياسية لا تتقاطع وشهادة التلاؤم مع الراهن، سوف يلقي معارضة ونقدا بمضامينه السياسية، ولهذا فقد أعد في حواره مع منوحين هجومه الدفاعي ضد كل من يحاول نقد هذا النص، فهو يصف (منتقديه والذين لا يوافقونه الرأي بالغوغائية السياسية والكراهية وخوف المهزوم، وبالبله السياسي لمن لا يفرقون بين رواد الشجاعة والتضحية السياسية وبين الجواسيس).. أما الحواجز التاريخية المريبة التي يتمنع الاعتراف بوجود منوحين في نظر الكاتب فهي ما يقف خلفه الرأي الآخر من (حواجز نفسية) وعدم النزوع إلى الواقعية والعقلانية، بل ربما وهم الحق الذي لا مبرر له.. يقول سعد الله لمنوحين : "وهذه الورطة التاريخية لا يمكن تجاوزها إلا بأثمان باهظة".

يبدو واضحا من هذا التعقيب الذي يمثل (الرأي الآخر) المضاد لطرح ونوس أنه نتيجة متوقعة لما يتم على أرض الواقع من مواقف متباينة تجاه ما حدث ويحدث أخيرا على ساحة الصراع العربي - الإسرائيلي الذي تحول إلى حوار، وتجسد من خلال اتفاقيات تمهد للسلام المنشود القادم، ومن هنا نرى أصحاب الآراء المتحمسة للطرح الذي جاء في المسرحية يتبارون بدورهم إلى إعلان أرائهم كما فعل الناقد المصري فاروق عبدالقادر الذي كتب في مجلة (أدب ونقد) المصرية يهاجم كل من ينتقد هذا العمل ويوجه إلى الذين أسماهم ونوس (الصهاينة العرب) أنهم أيضا : "متواطئون ومخدعون وغافلون، ومنهم متربصون وصائد وكمائن للكلمات، وهم كما تقول الفارعة في المسرحية : الموظفون أصحاب الفصاحة وتجار الكفاح".

منمنمات تاريخية

بعد (الاغتصاب) يعاود ونوس الحنين إلى استنطاق التاريخ فيطلع علينا بمسرحية (منمنمات تاريخية) - أصدر دار الهلال - مصر - مارس 1994. حيث يقدم لها الناشر بأنها "جزء من المشروع الكبير في مسرح سعد الله ونوس، هذا المشروع الذي يؤكد أن التاريخ ليس وقائع منفصلة لكنه صراع قوي وإرادات وتضاد مصائر.. وفي هذه المسرحية لا يصبح التاريخ قناعا أو إسقاطا لوقائع وأحداث وعلاقات الحاضر، بقدر ما هو رؤية مكتملة يستكشف قوانينها الأساسية.

وفي زمن التراجعات والكوارث في العالم الإسلامي، وعلى أبواب دمشق، تقدم تيمور لنك لاقتحام المدينة، وجاءت الهزيمة المكتملة، عبر تفاصيل عديدة داخل نسيج علاقات المدينة، وصفقة الوطن، ومصالح التجار، ومحنة العلماء والمؤرخين ورجال الدين، وعبث الخلاص الفردي.. أي أن (المنمنمات) حوار جدي بين الماضي والحاضر، فمن أجل أن نفهم هذا الحاضر الذي نحن بين يديه، علينا معاودة قراءة التاريخ لنرى فيه ما لم نكن نراه من قبل".

طقوس الإشارات والتحولات

أما آخر مسرحيات سعد الله ونوس (طقوس الإشارات والتحولات) التي كتبها وهو في ذروة المرض فهي مستوحاة كما يقول الكاتب من مذكرات فخري البارودي حيث يصف خلافا نشأ بين مفتي الشام ونقيب الإشراف، والحكاية بسيطة : المفتي يوقع بنقيب الأشراف، ويرسل له قائد الدرك عزت بك الذي يعتقله متلبسا مع غانية تدعى وردة، ويجرسه في شوارع دمشق، ويودعه السجن.. لكن المفتي يسارع إلى إنقاذ غريمه عبر لعبة مزدوجة تضمن له السلطة والهدوء الاجتماعي.. يذهب إلى (مؤمنة) زوجة نقيب الأشراف ويقنعها بحيلته، يضعها في السجن مكان الغانية.. وهكذا يتبهدل قائد الدرك وتتثبت براءة نقيب الأشراف، ويقبض المفتي ثمن معروفه عبر إجبار النقيب على التخلي عن منصبه وهكذا ينتصر المفتي، ويستسلم نقيب الأشراف ويتحول قائد الدرك إلى ضحية.

غير أن عاملا جديدا يدخل في الحكاية، ولم يكن في حسبان أحد من أبطالها، أنها (مؤمنة)، زوجة نقيب الأشراف، التي تشترط الطلاق وتحصل عليه، وتقرر اكتشاف ذلك العالم السحري الذي تعيشه وردة.. فتتحول إلى غانية.. تحاول تحويل جسدها إلى هاوية تفترسها وتفترس معها كل ذلك النظام الاجتماعي والسياسي القائم على الكذب والرياء.. تتحول إلى ألماسة، ونقيب الأشراف السابق إلى فقير متصوف تأخذه الجذبة إلى عوالمها السحرية، والمفتي يقف وحيدا مع سلطته المتجددة ليواجه المعضلة التي خلقتها مؤمنة - الماسة.

ومنذ صدور الرواية وأكثر من مخرج يفكر بتحقيق سبق تقديمها على المسرح في سوريا ومصر ولبنان، ذلك لأنها - ومنذ قراءتها الأولى - توحي بأنها نقلة أخرى نوعية ومهمة في كتابات سعد الله ونوس، أو كما قال الناقد والكاتب اللبناني إلياس خوري، الذي كان صاحب أول قلم يعلق على صدر المسرحية : "في مسرحيته الجديدة يصل سعد الله ونوس إلى ما يمكن تسميته كتابة الهاوية، وكتابة الهاوية ليست الجرأة على قول الأشياء، فونوس كان منذ البداية واحدا من أكثر الكتاب العرب جرأة.. ففتح ملف الخامس من يونيو، ثم كان أول من أوقف الإسرائيلي على خشبة المسرح العربي، لا ليدينه فقط، بل ليكتشفه ويكشف عوالمه الداخلية، ويطرح السؤال حول السلام، وكان الأجرأ في نقده السلطة.. وخاصة في (الملك هو الملك).. وها هو اليوم يتجاوز الجرأة ليصل إلى الهاوية، لا يكتفي بإدانة علاقات نظام السلطة، بل يبحر إلى الداخل حيث تصير الكتابة هاوية، لا بد للكاتب من أن يرتمي بها، ويغرق في مائها ورمالها، كي يكون قد وصل إلى حيث تقودنا كل كتابة حقيقية، إلى الوجع والمواجهة الحرة مع الذات ومع الآخرين".

بيانات لمسرح عربي جديد

وفي جميع ما كتب، ظل سعد الله ونوس أمينا لـ (بيانات لمسرح عربي جديد) التي أعلنها في مجلة (المعرفة) السورية (أكتوبر 1970 ) وقال أنها رءوس أقلام لموضوعات تحتاج إلى وقفات أطول حتى نستوفيها البحث ويمكن تلخيص تلك البيانات في النقاط المحورية التالية :
- موقف الجمهور.. والموقف من الجمهور.
- قلب المناهج التي تنحصر جغرافية اهتمامها بالخشبة فقط ولا تتعداها إلا عرضا وبشكل ثانوي إلى الجمهور.
- الظاهرة المسرحية : متفرج وممثل، في حين أن العناصر الأخرى التي أضيفت إلى القاهرة : النص - الإخراج - المؤثرات - لا يؤدي غيابها إلى نفي الظاهرة المسرحية.
- تحديد الجمهور مسبقا يحدد موقفنا من هذا الجمهور ويحدد ما نقدمه له.
- تحديد الوسائل التي تحقق تفاعلا أكيدا مع الجمهور.
- تصور ولادة ونمو حركة مسرحية (بدءا من هذا المنطلق الذي حددناه سابقا)
- الانطلاق من نقطة شبيهة بالضوء وترك الصيغ الجاهزة للمسرح: (مدارسه واتجاهاته).
- إننا نصنع مسرحا لأننا نريد التغيير.
- إن حركة مسرحية تمتاز بهذه الخصائص هي وحدها القادرة على أن تخرج المسرح العربي من تيهه.
- المسرح الذي نريد هو الذي يدرك مهمته المزدوجة: أن يعلم ويحفز متفرجه.
- على المتفرج أن يتغير من نفسه وأن يمارس دوره كمتفرج بطريقة جديدة.. أن يغير قبل كل شيء جلسته المسرحية في المسرح.. استسلامه على كرسيه وقبوله كل ما يعرض عليه.

 

جان ألكسان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




سعد الله ونوس





مشهد من مسرحية منمنمات تاريخية