الطاهر وطار وجهاد فاضل

الطاهر وطار وجهاد فاضل

من حسن حظ الكاتب العربي أن له امتداد في التاريخ

  • يقدم الوضع الجزائري القلق والمليء بالأنزياحات والدماء أبلغ مثال على ارتباط الفكر والأدب بالتحولات. ويبدو جليا من خلال التصريحات والتصريحات المضادة ومن خلال أعمال القتل التي يتعرض لها المثقفون أن الأساس المعرفي وبنى التفكير هو الصاعق الذي يدفع الموت... أو الحياة من حجرة الانفجار! المفكر والروائي الجزائري الطاهر وطار ليس محايدا ، لا فيما يتعلق بالتعريب والثقافة الفرانكفونية ولا فيما يتعلق بمقولة "الظهير البربري" التي عجز الفرنسيون عن جعلها واقعا عمليا وتحاول جهات أخرى فعل ذلك الآن. ليس محايدا... لأنه يطرح مفهوما محددا للهوية. ويعيد قراءة الواقع اليومي للناس البسطاء الذين أتعبهم القتل.. ولوثت حياتهم الدماء. كلما فر مثقف أو صحفي أو كاتب جزائري خارج وطنه ازداد تعلق الطاهر وطار بالوطن.. وكلما سلخ البعض جلودهم وهاجروا خارج انتماءاتهم الضيقة ذهب الطاهر وطار عميقا في التزامه الذي نذر قلمه وعقله له منذ البدايات ، لأن انتماءه أرحب وأوسع وأكثر حبا. ويشهر مع رفاقه "الجاحظية" خطا ثقافيا وفكريا يؤسس لجزائر أكثر حرية ليتعايش فيها كل الجزائريين أكثر عقلا ليكفوا عن تبادل الموت. كتب الطاهر وطار أكثر من قصة ورواية معروفة على مستوى الوطن العربي أشهرها : اللاز، وعرس بغل ، والحوات والقصر والضابط ، والزنجية ، والشهداء يعودون هذا الأسبوع. وحاوره جهاد فاضل وهو المشرف الثقافي لمجلة "الحوادث" اللبنانية وقد أجرى أكثر من حوار لـ "العربي" مع العديد من الكتاب والمفكرين العرب.

هناك إلى جاب كاتب ياسين رحمه الله مجموعة من المثقفين الجزائريين باللغة الفرنسية خاصة ، يهاجمون عروبة الجزائر ويهاجمون قيمها وثوابتها ، ويعللون ما يجري حاليا في الجزائر بتعليم اللغة العربية كما لو أن اللغة العربية هي حاملة لفيروس ظاهرة التطرف وقد قالها أخيرا مغن من منطقة القبائل في القناة الثانية الفرنسية زاعما أن سبب أزمة الجزائر هو تعليم اللغة العربية.

هؤلاء المثقفون مرتبطون وجدانيا بفرنسا ، بالثقافة الفرنسية. وهم يزعمون أنهم يدافعون عن الهوية الأمازيغية أو البربرية. وهذا في جانب كبير منه كذب إنما هم يدافعون عن الثقافة الفرنسية.

أنا كنت مدير عام الإذاعة الجزائرية ووجدت القناة الثانية التي تذيع باللغة أو باللهجة البربرية ، تذيع فقط على هوائي قدرته خمسون كيلو وات ، بينما القناة الفرنسية تذيع بـ 1900 كيلو وات : 1200 علىالموجة الطويلة و600 على الموجة المتوسطة ، و100 على ال F.M فانتزعت 600 كيلو وات متوسطة وأضفتها لإخواننا في القناة الثانية الناطقة الأمازيغية. فاجأني مدير القناة وهو قبائلي بربري ، بقوله : والله لقد زعزعت القناة الثانية الفرنسية. أي أنه بدلا من أن يفرح ، احتج.

طبعا هناك الكثير من إخواننا الأمازيغ يتشبسون بأمازيغيتهم ، وهذا من حقهم ، لكنهم يقولون :"نحن لا نتخلى عن أربعة أشياء : أولا: جزائريتنا بكل ما تعنيه واللغة العربية وهي اللغة الأساسية ، ثم إسلامنا ، ثم معاداتنا للاستعمار الفرنسي". صراحة هم يقولون ذلك.

هناك طرف ثان يزعم أن الشعب الجزائري عربي ، عربي دما وعرقا ، وهذا خطر ويثير حساسيات الناس. إن العروبة هي إسلام ، هي حضارة ، هي ثقافة ، تصور الحياة الأخرى ، هي طريقة إحياء أفراحنا وأحزاننا. وهذا أشرف بكثير من دم مغشوش أو مزغول أو يشك في أصله.

طبعا للجزائر خصوصية ، وهي تقريبا تكاد تشكل أمة فيها عدة عرقيات. عندنا زنوج ، عندنا برابرة ، عندنا عرب. هناك تداخل ، ولا أحد يدري من يكون. يتكلم الأمازيغية ، ولكنه يعيد نسبه إلى أبي بكر الصديق ، أو إلى الهلاليين أو إلى غير ذلك وهناك مناطق تخلت عن اللغة الأمازيغية ، ونحن نعلم تماما أنها من صنهاجة مثلا.

وأعتقد أن هذا الموضوع لم يواجه بعقل وبعلم وبتسليم بالامر الواقع. وعلى كل ، ومهما كان الأمر ، فقد أظهرت الأحداث الأخيرة التي تجري في الجزائر ، أن هناك وحدة في هذه البلد الكبير انصهرت وتبلورت عبر أجيال من المعاناة ومواجهة الآخر ، وانصهرت أيضا في إطار الدين ، في السنة وفي المذهب المالكي. واليوم كل مناطق الجزائر لها ردود فعل واحدة  وأنا أقول إننا والحمد لله لن نخاف على وحدتنا الترابية والوطنية عبر خمسين سنة أخرى. وهذا مهم جدا.

أنا شخصيا أدعو إلى احترام تراثنا اللغوي وليس إلى شيء آخر ، لا أقول الثقافي. الثقافة هيكلية كاملة. ترك لنا أجدادنا أصواتا طويلة عبرت خمسة عشر قرنا من وجود اللغة العربية. عبرت قرونا من وجود الرومان والبيزنطيين ، عبرت قرونا من وجود الفنيقيين ، ووصلتنا ، فحرام أن نضيعها بهذه البساطة ونعوضها باللغة الفرنسية مثلا أو ما يشبه ذلك.

بإمكاننا أن نجد حلولا عقلية ومنطقية. لماذا لا تعلم الأمازيغية لمن يريد؟ يوضع لها منهج ، يكون لها أساتذة ومعلمون ، والمناطق التي يقرر مجتمعها أن يتعلم أولادهم الأمازيغية ، فليتعلموها إلى جانب اللغة العربية. واللغات الحية الأخرى.

الغريب أن "الظهير البربري" ينفذ الآن ، أي بعد رحيل الفرنسيين الذين أصدروه بسنوات طويلة ، في حين أنهم لم يستطيعوا تنفيذه خلال الفترة الطويلة التي استعمروا فيها الجزائر وبقية اقطار المغرب العربي..

الأمور يرتبط كل منها بالآخر ، وعصرنا هذا هو عصر البحث عن الذات والهوية. وأنتم تلاحظون أنه في بعض المناطق العربية نعرات قبلية ، بين قبيلة وقبيلة وتستخدم الطائرات أحيانا.

وهذا شيء طبيعي في منطقة شمال إفريقيا والمغرب العربي أن تظهر هذه النزعة. ولكن من غير الطبيعي ألا تواجه بالعقل والمنطق ، فتبقى نارا تحت الرماد مثلا. هذا مخيف ويخشى أن تتحول إلى مشاعر قومية.

بالاضافة إلى ان حالتنا كعرب ، هزيمتنا عام 1967 ساهمت في كه الناس ، اذا شئت ، لذاتهم. محاولة التخلص من هوياتهم ، أو التنكر لها بتعبير أدق. كذلك ما جاء بعد 1967 إلى اليوم ، الحالة التي نحن عليها ، من تمزق إلى تخلف ما تعرفه ونعرفه...

امتداد الكاتب في التاريخ

هل تشعر بأنك تنتمي إلى خريطة الروائيين العرب ، والرواية العربية ، أو أنك تكتب رواية جزائرية محضة؟

لقد قلت في مناسبات كبيرة أنه من حسن حظ الكاتب العربي أن له امتداد عبر التاريخ ، عصر الماضي والحاضر والمستقبل. أنا عندما ادخل مكتبي أجد الشنفرى ، وأجد أبا العلاء المعري ، واجد الإمام البخاري ، واجد عبدالوهاب البياتي واجد البردوني ، واجد محمود درويش وأنام وأنا أتصور أنني في الصباح سألتقي أحدهم لأن هؤلاء هم باستمرار زادي ورصيدي. وعندما اكتب لا أتصور أنني أبدا في الجزائر ، وأنني في زمن ما : أحيانا أنا في مسقط ، وأحيانا في الرقة ، واحيانا في بيروت. وأنا واثق تمام الوثوق من أنني سأقرأ أن لم يكن اليوم فغدا أو بعد قرن في هذه المناطق. وعندما أكون في الرياض ويقول لي الشباب المثقف فيها نحن قرأنا لكم رواية أجد أن هذا طبيعي. فأنا كتبت لهم ولسواهم من المثقفين العرب ، وأنا أتجنب في رواباتي استعمال الحوار بلهجة غير الفصحى.

هذا بالإضافة إلى قناعتي بأن الفن هو ترجمة العادي بما في ذلك لغة الشخوص التي نعالجها ونحولها إلى لغة الكاتب ، وليس من الضروري أن تكون باللهجة العامية كما لو أننا في سينما أو في مسرح ومن حين حظ امتنا أن لها هذه المناعة ، المناعة في اللغة ومهما كانت الحدود ، مهما كانت الأعلام ، جوزات السفر ، مهما كانت وزارات الدفاع ، فهناك شيء يخترق هؤلاء الناس هو اللغة العربية وما تحمله من عبقرية أبناء هذه الأمة.

اليسار والعقل

كنت أشعر بسعادة وأنا أسمعكم تقولون إنكم تنتمون أصلا وفصلا ، إن صح التعبير ، إلى الثقافة العربية ولكني اعرف أنكم تنتمون ، أو كنتم تنتمون إلى فئة كتاب اليسار والاشتراكية ، أحب أن أعلم إلى أين تنتمون.

الآن بعد الذي حصل لليسار والاشتراكية في العالم ، أين ذاك الحلم وأين تلك القضية في الوقت الراهن؟

أنا من اليسار الذي يستعمل العقل ويفرق بين الثابت والمتغير. الثابت بالنسبة هو الطبقة العاملة ، مصلحتها وحقوقها وما عدا ذلك فهو متغير. الطبقة العاملة بقيت في روسيا ، بقيت في كل مكان ، لكن أحزابها ضاعت ، ترهلت ثم ضاعت.

في عام 1959 كان اليسار يعادي الرئيس جمال عبدالناصر رحمه الله. وأنا استمعت ، ولم أكن ناصريا أبدا ، ولا قوميا بالمفهوم المقنن للقومية ، إلى خطابه السياسي يشرح حقوق الطبقة العاملة ويهاجم الاستغلال ويهاجم الطبقية ويهاجم الإقطاع والرأسمالية ، فتساءلت : كم من منشور ، كم من خلية حزبية ، كم من فرع نقابي يستطيع إيصال ما يوصله هذا الرجل؟ إنني لم أكن أشاطر اليسار في معاداة عبدالناصر.

واليوم أنا راجعت نفسي وقلت هذا في روايتي الأخيرة التي نشرت في مصر ما هدف الطبقة العاملة؟ ماذا ستخسر؟ الثابت هو أنها ستطالب بالتوزيع العادل للثروات ، ستطالب بساعات عمل اقل ، ستنظم نفسها بشكل أو بآخر ، قد تكافح اليوم مع الإسلاميين ، وغدا تكافح مع سواهم. هذا حقها ما دام هناك عمل ، هناك مطلب بتقليل ساعات العمل ، ورفع من الأجر ، وهذا هو دوري كيساري.

أما مطالب بعض رفاقنا ، فهي مطالب بورجوازية صغيرة ، مطالب "كومونة باريس" : حرية ، إخوة ، مساواة ، ديمقراطية تتيح لهم الترشح وهم واثقون من إنهم لن ينجحوا إطلاقا.

كنا في موسكو في عام 1986 ، حضرنا "فوروم" السلام ولاحظت انني ضمن كاردينالات وأساقفة ورجال دين وأصحاب أعمال أمريكان وصهاينة من كل نوع ، وكان معنا أحد "دهاقنة" الفكر الماركسي ، لا اسميه احتراما لماضيه ن كان يقول : غورباتشوف سيحرر الحزب من جموده ، والديمقراطية التي كانت تنقصنا هي التي ستبني فعلا الاشتراكية وتسمح لنا بتجاوزها إلى بناء شيوعية ، إلى غير ذلك.

صبرت قليلا ثم خاطبته بالذهنية الجزائية الحادة قلت له ك سامحني! إنتم صفقتم لستالين ، صفقتم لخروشوف ، صفقتم لبولغانين ، صفقتم لمولوتوف ، لكل الناس ، دعونا نحن الجيل الذي أتي بعدكم نستعمل عقلنا ، نحن إلى أين ذاهبون؟ قال لي : لا ، لا.. حاول أن يقنعني ، ولكن في المطار وأنا أودع البلد ، قالت لي مرافقتي وهي صديقة مترجمة : إلى اللقاء في المرة المقبلة. قلت لها تكون هناك مرة مقبلة. كان حسي كفنان يؤكد لي ما قلته في روايتي "عرس بغل" من أننا نقيم أعراسا عقما ، من أن الطبقة العاملة تمت خيناتها من طرف بورجوازية مثقفة ، من نخبة صارات مصالحها ترتبط بمصالح رأس المال العالمي. وكان لا بد من هذا نظرا للتطور الذي بلغه العالم والتداخل الحضاري بواسطة وسائل الإعلام الحديثة ووسائل النقل المتنوعة. كان لا بد من العودة إلى الصفر وها نحن في حالة صفر.

واعتقد أن هناك كثيرا من اليساريين يشاركونني هذا الرأي وهذا التحليل.

عن أي يسار تتحدث؟ تعرف أن هناك أكثر من يسار. الماركسية مثلا يسار. فهل كنت يوما ماركسيا؟ ألا ترى أن الماركسية على النحو الذي عرفها العالم طوال سبعين سنة من عمر أنظمتها في روسيا وأوربا الشرقية قد انتهت إلى الأبد؟ هل يمكن ان توهب حياة في المستقبل لمثل هذه النظرية المتراجعة؟

أنا لم أقل في يوم من الأيام إنني ماركسي ، أو أنني شيوعي. ولم اكتب هذا في رواياتي أيضا.

أنا أقول إنني مناضل عمالي بهذا التعبير واكتفي بهذا. أنا لا أزال مناضلا عماليا غير محتزب أصلا. كنت في حزب جبهة التحرير الوطني طوال عشرين أو خمس وعشرين سنة.

أما هذه التصنيفات فاترك للناس أن يستخلصوها من كتاباتي. أنا لا أجازف بتصنيف نفسي.

ماذا يعني الالتزام؟

تصنيف النفس والالتزام.. لا تجازف بتصنيف نفسك ولكن الجميع يعلمون أنك روائي وكاتب ملتزم باليسار ، بالنضال العمالي.. ولكن ألا يجني مثل هذا الالتزام على الفن والعمل الفني؟ ألا تري أن مثل هذا الالتزام لم يعد من كرامات العمل الفني وأنه انحسر انحسارا شبه تام ، في عصرنا اليوم ، وأخيرا ألا تري استنادا إلى تاريخ الالتزام الذي تمثل في تبعية الأدب للسياسة ، أنه ينبغي إعادة الاعتبار لنظرية طالما أهينت اسمها نظرية الفن للفن؟

إذا كنا نحكم بفشل أية أيديولوجية بعدم تطبيقها فهذا خطر. سنعود إلى الحكم على الإسلام من خلال تطبيق هذا أو ذاك من الحكام أيضا على أنه أيديولوجية فاشلة. كذلك سنحكم على المسيحية وعلى كل ديانة أو كل فكر أو كل عقيدة.

والالتزام لا يعني أن الإنسان يأخذ عريضة أو لائحة من المبادئ والمقاييس ويقول إني اكتب بها ، أو في إطارها.. لا ، كل إناء بما فيه يرشح ، نحن لا يمكننا أن نقول لمحمود درويش : لا تتغن بفلسطين واكتب عن مواضيع أخرى! هذا جزء من محمود درويش.

بقي الفن للفن ، أو التجريد. هذه أيضا أيديولوجية ، أنا في تحليلي أن الكلمة حوربت من طرف المؤسسة الرأسمالية المستغلة ، لماذا؟ لأنها عبر التاريخ هي التي تحمل الناس على الثورة ضد الاستغلال وضد الظلم والاضطهاد ، ولأنها الشيء الوحيد الذي لا يستطيعون أن يتحكموا فيه لأنه يصنع فرديا ولا يصنع جماعيا. القصيدة لا يقولها أربعة شعراء ، وكذلك الرواية بينما السينما قد يصنعها ألف شخص ، كذلك المسرح.

وعليه فقد حاربوا الشعر وقتلوه بهذا الزعم ، بزعم الفن للفن ، والتجريد والسريالية وغير ذلك.

حاربوا القصة القصيرة. واليوم لا تجد في أوربا من ينشر مجموعة قصصية. وهم يحاربون الرواية اليوم وسيقتلونها أيضا. ولكن هناك أشكالا حديثة أخرى ستظهر من مقاومة البشرية لآلمها ومعالجتها بالكلمة وستظل الكلمة هي البدء.

وأنا شخصيا في كتاباتي لست ذلك المبشر. استعملت البطل المضاد في كل أعمالي ، بينما الواقعية الاشتراكية تحتم البطل الإيجابي. كل ابطالي مضادون. استعملت السريالية أيضا. استعملت التجريب في "عرس بغل" إلى جانب مدارس أخرى. واعتقد أن الكاتب والمبدع الموهوب هو الذي يتحكم في المدارس ويوظفها لا العكس.

الموت لا يخيفني

كل إنسان يخشى الموت. ولكن في الجزائر أشعر بان هناك خشية اضافية للموت عند الكاتب لانه في اية لحظة يمكن ان يواجهه. فهو على تماس معه نظرا للمعاناة اليومية للمواطن الجزائري اليوم. اية صلة لك بالموت؟ هل تشعر بانك قريب منه ، وأي معني للموت عند كاتب جزائري لم يمت بعد؟

والله هذا سؤال جيد ومهم لان لي في الواقع علاقة ما بالموت.. الموت لا يخيفني بل أراه أحد الواجبات التي ينبغي أم أعجل بها وكثيرا ما أقول لزوجتي "لقد أطلنا المقام في هذه الدنيا".. وهذا شعور صادق وصحيح ، ولا يحتاج إلى برهان مني القول بأننا جميعا ميتون. وأنا لي رأي وربما تجده في الكثير من أعمالي وهو أنه يكفينا أن نعيش فترة معينة لنذوق جميع ما يذاق ، ونمارس جميع ما يمارس ثم نعود من حيث جئنا ، وإذا كان ولا بد "فلنعد جميعا سليمين وصاحين".

بالنسبة لما يجري في الجزائر ، أقول لأصدقائي وأقول لزوجتي "يكونون قد خدعوا أنفسهم إذا قتلوني لأنهم سيريحونني من تحملهم ، من هنا أو من هنا".

لو أنهم يعلمون بأنني أحب الموت فلن يقتلوني. فعلا هذه حقيقة وأنا أسير في جميع الأماكن والطرق بما في ذلك الأماكن الخطيرة ولا أخشى أحدا. وأؤمن كذلك بان هناك علاقة ما ، نداء ما ، بين الكائن والتراب ، بين الطبيعة بكل مكوناتها. ولهذا عندما نقول الموت ساعة وقدر ، بقطع النظر عما جاءت به الأديان ، وحتى عما جاءت به الميثولوجيات ، يمكن تقديم تفسير علمي إلى هناك نداء بين خلايا المخ البشري وخلايا جسده ، وبين مكونات الطبيعة الأخرى ، مثلما هناك حوار بين الأشجار والكلمات كما يؤكد العلم الآن.

وعليه فأنا اعلم بان الموت قدر. بن يحي وزير خارجية الجزائر وقعت به الطائرة في إفريقيا فلم يمت ، ثم مات وهو في الطائرة في طريقه إلى إيران ، استجاب لساعته ومات.

في الجزائر تعودنا ، كما تعودتم في لبنان ، على سماع الرصاص ، تعودنا على سماع إنذارات النجدة وسوى ذلك. وصارت الجنازات عادية قد نحضرها وقد لا نحضرها ، إنها حالة حرب. هناك دائما وأبدا إحساس بالضيق ، وأنا فقط هذه تقلقني هذه الوضعية بأنني في جمعيتنا "الجاحظية" لا أستطيع أن أمارس النشاط الثقافي بصفة طبيعية : تنظيم محاضرات ، تنظيم لقاءات ، تنظيم عروض ، معارض ، إلى آخره. هناك دائما عائق ما بسبب الوضعية.

لا إكراه في الرأي

ما هذه الجمعية الثقافية التي تعملون في إطارها؟

هذه الجمعية ، واسمها الجمعية الجاحظية تأسست عام 1989 في إطار التعددية وإطار تحمل المجتمع المدني لبعض مهامه. انشأناها انتماء فكريا فسميناها "الجاحظية" حتى نميز أنفسنا عن جميع الذين لا يستعملون العقل. فقد لاحظنا ان العقل يغيب في الكثير من مناطق عالمنا المعاصر. وفي الجزائر هناك متفرنسون متطرفون ، إسلاميون متطرفون ، هناك معربون متطرفون. فقلنا نعود إلى العقل متشبثين بتراثنا ، متشبثين بانتمائنا الحضاري وسميناها "الجاحظية" وتعبنا في إقناع الناس بهذه التسمية واخترنا لها شعار "لا إكراه في ارأي". وبالتالي قررنا ألا نمارس السياسة في هذه الجمعية. جمعيتنا تضم جميع الحساسيات مقتنعين بان السياسة فسدت الثقافة ، وبأنه ينبغي الآن عمل العكس ، وهو تثقيف السياسة.

وهكذا كان الأمر ، واقنعنا الناس بعد ثلاث أو أربع سنوات بصدق زعمنا ونيتنا.

وتضم "الجاحظية" الان يساريين واسلاميين وناسا وسطا ، تضم عناصر من جميع الأحزاب ولا نسأل بعضنا بعضا إطلاقا لأي حساسية أو عصبية ينتمي هذا أو ذاك.

نصدر مجلتين الأولى (التبيين) وهي مجلة ثقافية فكرية تقريبا يكتب فيها جميع الناس. ونصدر مجلة أخرى للشعر المغاربي حيث ننشر فيها القصائد التي تنجح في مسابقة مفدي زكريا المغاربية للشعر التي ننظمها كل سنة ، وكذلك القصائد الجيدة ، إلى جانب بعض الدراسات الخاصة بالشعر وهي تقريبا الأولى من نوعها في شمال إفريقيا وفي المغرب العربي وفيها شعراء من هذه المناطق كلها. إلى جانب مختارات نختارها للشعراء العرب نختار سميح القاسم أو محمود درويش أو شوقي بغدادي أو أي شاعر عربي كنموذج نقدمه لقرائنا ولأعضاء الجمعية.

لنا وحدة تصفيف بالكمبيوترات تضم احد عشر كمبيوترا ولنا مطبعة صغيرة نسعى لتطويرها ، ولنا قاعة للمحاضرات. لنا قاعة عرض لوحات فنية كل شهر ننظم معرضا. ننظم في السنة حوالي ثلاثين محاضرة وندوة. نعلم الموسيقي لمائة طالب من جميع الأعمار ، والخط العربي .

لنا مكتبة صغيرة نبيع فيها مجلاتنا ، وكافتريا سميناها "الوكر الثقافي / مفدي زكريا" هي باستمرار نقطة التقاء ولقاء جميع المثقفين والفنانين.

جمعيتنا ليست بديلا لحد ، لا لاتحاد الكتاب ، ولا لوزارة الثقافة ، بل نحن رافد للآخرين. ونطمح لتقديم خدمة لنا أولا ، للمثقفين لكي يوجدوا مع بعضهم البعض ، والى مجتمعنا بصفتنا مجتمعا مدنيا.

نعاني صعوبات منها أن المثقفين في الجزائر وككل بلد له حزب واحد ، ناس تعودوا على الاخذ ولم يتعودوا على العطاء. فدائما أيديهم قاصرة في إنجاز عمل ما.

أيضا مجتمعنا لا يعرف ولم يعتد وجود مثل هذه الجمعيات الثقافية ، وهذه النوادي حتى يمولها ، يعرف الجمعيات الدينية ، يعرف الجمعيات الرياضية ، ولكن الجمعية الثقافية المحضة تظل دائما في نظره من مهام الدولة.

نعاني أيضا حساسيات شعراء وهذا شيء طبيعي. ولكنك عندما تقول في الجزائر "الجاحظية" ، الجميع يعرفون جمعيتنا الحياة العادية للمجتمع ، دخلنا ضمن العادي للمجتمع الجزائري وحتى المغاربي ، وبخاصة في تونس والمملكة المغربية.

وأنا متفرغ لهذه الجمعية أشتغل يوميا عشر ساعات وأقوم بإخراج المجلات لأني اعرف المطبعة والكمبيوترات واعمل مجانا ، بل ادفع غدائي في النادي من جيبي ، وأعطى المثل للجميع.

نشغل في الجاحظية اثنى عشر شابا وشابة. منهم من هو في المطبعة ومنهم من هو في الكمبيوترات ، وأيضا نعلم الآلي.

وهذه تجربة فذة أتمنى ألا تعرقل ، وأتمنى أن تتواصل بي أو من دوني ، حتى لا يكون مصيرها مصير الكثير من الإنجازات في وطننا العربي.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




الطاهر وطار





جهاد فاضل