بلا عيون أو حنك هكذا بدأ السمك مختار رسمي ناشد

بلا عيون أو حنك هكذا بدأ السمك

غالبا ما يأكل الإنسان السمك، والسمك قد يأكل الإنسان أيضا. ولكن العلاقة بينهما مازالت ودية. فنحن نسعى إلى أسواق السمك بشغف، ونتمتع بالفرجة على حركة الأسماك الملونة. وفي بلاد الدنيا يستأثر برنامج " عالم البحار" بشعبية كبيرة.

ما سر هذه الرابطة بين الإنسان والأسماك ؟ وهل هي تشبه العلاقة بين الإنسان والقرود؟..ربما، فالأسماك هي من أوائل مجموعات القبيلة التي ينتمي إليها الإنسان، وهي قبيلة الحبليات التي تشكل الفقاريات الجزء الأكبر منها، إذن هي علاقة قربى، ومثلما نشتاق دائما للسؤال عن أصول عائلاتنا فإننا لا بد من أن نتساءل: ما هي قصة الأسماك؟..وكيف بدأ ظهورها؟..وماذا يحمل لها القدر في المستقبل؟. إذا ما ركبنا آلة الزمان التي اخترعها لنا خيال الكاتب الإنجليزي ويلز، وعدنا القهقرى إلى ما يقرب من 600 مليون عام، لفوجئنا بعلامة بارزة في تاريخ كرتنا الأرضية، هذه العلامة هي بدء ظهور الحيوانات اللافقارية التي تركت لنا حفريات كثيرة وواضحة في طبقات الصخور، وهذه العلامة تحدد حدثا واضحا في التاريخ الجيولوجي، ومثلما نقول في تاريخنا البشري "ما قبل الميلاد" لنشير لأحداث وقعت قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، فإننا نقول أيضا "ما قبل الكمبرى" لنشير إلى زمن طويل في تاريخ الأرض لم تظهر فيه أية حفرية حيوانية واضحة، أما منذ بدء "الكمبرى" وحتى الآن وهو ما يقدر بستمائة مليون عام فيمثل فترة قصيرة في عمر الأرض، وقد قسمها العلماء إلى "الحقب القديم" الذي يشمل عصور الكمبرى والأورد وفيشي والسيلوري ثم الديفوني والكربوني والبرمي، وقد دام "الحقب القديم" لما يقرب من 370 مليون عام، وقد تلاه "الحقب الأوسط " أو حقب الديناصورات وقد استمر حوالي 165 مليون عام، ثم "عصر الثلاثي" أو عصر الثدييات الذي دام حوالي 62 مليون عام ، ثم "عصر الرباعي" أو عصر ظهور الإنسان الذي بدأ منذ مليون عام ومازال مستمرا. وإننا ندين بالفضل للنباتات المائية البدائية التي ظهرت منذ ما يقرب من 1500 مليون عام، التي هيأت بيئة صالحة مهدت لظهور الحيوانات، فقد امتصت النباتات كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون الذي كان الهواء الجوى مشبعا به، والذي سبق أن تصاعد من فوهات البراكين القديمة واستبدلت بها غازا صالحا لتنفس الحيوانات وهو الأكسجين، كما كانت النباتات البدائية ومازالت مادة صالحة لغذاء كثير من الحيوانات. ومنذ بداية الحقب القديم عاشت في البحار أنواع كثيرة من اللافقاريات مثل المرجانيات، التي مازالت تكون شعابا في البحار الضحلة الدافئة، والإسفنج والجرابتوليت ، كما ظهرت في الحقب القديم أنواع غربية من القشريات مثل الفصوص، وكائنات تعرف بالعقارب البحرية، كذا أنواع من الجلد شوكيات مثل القنافذ البحرية .

عديمة الفك

يعتقد كثير من العلماء أن الجرابتوليت، وهو كائن بحرى تشبه حفرياته الكتابة على الصخر (ومن هنا جاء الاسم) هذا الجرابتوليت كان ينتمي للحبليات البدائية، والحبليات هي القبيلة التي يمتلك كل أفرادها حبلا ظهريا بما فيها الإنسان نفسه، لكن علماء آخرين يعتقدون بانحدار الحبليات من قبيلة الجلد شوكيات، وذلك لما وجدوه بين أجنة الحبليات وأجنة " خيار البحر" الذي ينتمي للجلد شوكيات.

وقد ظهرت أول حفرية للحبليات البدائية في عصر السيلوري في النصف الأول من الحقب القديم، وكانت لكائن يشبه السمكة الصغيرة يعرف باسما "جامويتيوس Jamoytius " وهو يشبه كائنا بحريا يعيش الآن في جنوب بحر الصين، ويعرف باسم "السهيم Amphioxus " وهو كائن يشبه السيجار إلا أنه مبطط ونصف شفاف وليس له زعانف أو أطراف أو فكوك أو جمجمة أو آذان أو عيون إلى آخر هذه "الأوأوات" التي تثبت بدائيته، وهو يحس بالضوء بدرجة ما، ولا يمتلك سوى الحبل الظهرى والخياشيم وجهاز هضمي بسيط، يبدأ بفم مفتوح دائما الذي يتلقى فيه الماء بما يحمل من غذاء، بينما باقي جسمه مدفون في الرمال.

أما الأسماك البدائية فقد ازدهرت في عصر الديفوني (بداية النصف الثاني من " الحقب القديم ") ومنها مجموعتان:
الأولى هي مجموعة عديمات الفك
Agnatha التي تنتمي إليها مستديرات الفم Cyclostomes التي تشبه كائنا معاصرا يسمى "الجلكى Lampray " وهو مثل الثعبان الصغير، ويلصق فمه بالأسماك الكبيرة ويتغذى على دمها فلا يتركها حتى تفارق الحياة، ولذلك تصدى له مفترس آخر للأسماك شديد العدوانية، ففي البحريات العظمى بالولايات المتحدة، تسبب الجلكى في فناء 90% من سمك السالمون، فلجأ المفترس الأقوى إلى استخدام كيماويات خاصة لتسميم يرقان الجلكى دون غيره. أما المجموعة الأخرى فهي قوقعيات الجلد Ostracoderms التي كان لها درع عظمي يغطي معظم الجسم، ولم يكن هذا الدرع " نقابا " يحميها من عيون الفضوليين، بل وسيلة للدفاع عن النفس، وقد انقرضت معظم هذه المجموعات في نهاية عصر الديفوني.

قروش البحر

ازدهرت الأسماك الحقيقية منذ عصر الديفوني وحتى الآن، ويعرف الديفوني باسم " عصر الأسماك"، فقد كانت هي السبب في انقراض مجموعات كثيرة من اللافقاريات مثل ثلاثي الفصوص والعقاب البحرية، والأسماك هي فقاريات مائية، تعيش في البحار والأنهار، ولها خياشيم للتنفس، ولها فم مجهز بفكين بهما أسنان، وللجسم زعنفة ذيلية، كما أن أطرافها الأخرى على هيئة زعانف، بالإضافة إلي زعنفة ظهرية، وقد توجد زعانف أخرى، كما قد تغطى الجسم قشور.

وتنقسم الأسماك إلى صفيحيات الجلد Placoderms والأسماك الغضروفية ثم الأسماك العظمية، وتميزت صفيحيات الجلد بأن جسمها مغطى بصفيحيات جيرية، كما اختصت مجموعة منها بعنق مفصلي غريب، إذ أعطاها القدرة على تحريك رأسها وفكها العلوي بينما فكها السفلي ثابت (حاول أنت أن تقلدها تجد ذلك مستحيلا)، وربما كانت هي الفقاريات الوحيدة القادرة على ذلك، وقد انقرضت كل مجموعات صفيحيات الجلد في نهاية الحقب القديم.

أما مجموعة الأسماك الغضروفية فحفرياتها نادرة نظرا لليونة الغضروف، وهي تشمل قروش البحر القديمة والحديثة، والرأي (مثل حدأة البحر) والقويعة (مثل قط البحر) ويمثلها حوالي 600 نوع في عصرنا الحالي، كما تشمل الكيميرات أيضا وهي أقل تنوعا، وقد بدأ ظهورها في عصر الديفوني ومازالت موجودة حتى الآن، وهي تعيش في البحار المالحة، وفتحة الفم أسفل الرأس، ومن المعتقد أن الهيكل الغضروفي لهذه الأسماك قد بدأ هيكلا عظميا ثم تراجع، أي أنه عانى من التراجع بدلا من التطور، ويوجد تشابه بين إحدى المراحل الجنينية للسمك الغضروفي ومرحلة جنينية للإنسان نفسه، ويبدو أن الأسماك الغضروفية قد تطورت من أسماك مدرعة.

وبالرغم من أن القروش هي كائنات فقارية غضروفية أقرب إلى البدائية، فإنها تملك الجرأة على مهاجمة كائن آخر يعتبر نفسه قمة التطور، فتقلب قواربه وتمزق شباكه، وتهجم على من يقترب منها، والعدوان متبادل، فالإنسان يفترسها دون رحمة، ويصنع من زعانفها حساء طيبا، ويستخرج من أكبادها زيتا غنيا بفيتاميني "أ" و "د"، ويصور لها أفلاما تزيد من رصيده في البنوك.

أما الأسماك العظمية فهي أرقى أنواع الأسماك، ويمثلها حوالى 30 ألف نوع في عصرنا الحالي، وقد انتشرت في كل من المياه العذبة والمالحة مثل عصر الديفوني، وازدهرت في عصر الطباشيري ومازالت منتشرة حتى الآن، ومنها مجموعة الأسماك الرئوية التي لها زعانف ذات محور عظمى متين، وقد ظهرت أيضا في الديفوني في أزمنة الجفاف، ومازالت أجناس قليلة منها تعيش حتى الآن، مثل سمكة " لا تيميريا " التي أمكن اصطيادها عام 1938 عند الساحل الجنوبي الشرقي لإفريقيا، وكذا سمكة دبيب الحوت الإفريقية وسمكة السراتود الأسترالية، ومما لا شك فيه أن ظهور الأسماك الرئوية كان تمهيدا لبداية ظهور البرمائيات، والسمك العظمي غذاء للإنسان منذ العصر الحجري القديم وحتى الآن، ويستخرج من كبد سمك القد (البكالاه) وهو زيت غني بفيتاميني "أ" و "د"، كما تستخدم زيوت الأسماك الأخرى في صناعة بعض الأصباغ والمبيدات، وبعض الأسماك مثل " الجاميوزيا" تحمى الإنسان من المرض لأنها تتغذى على يرقات البعوض كما يعد صيد الأسماك عند الإنسان "رياضة" وحبسها في أحواض " هواية" ولله في خلقه شؤون، والأسماك العظيمة تبيض، ويتم إخصاب البيض في الماء، أما الأسماك الغضروفية فالإخصاب فيها داخل كما أن عدد البويضات قليل، ومعظم الأسماك الغضروفية ولود، والسمك الكبير يأكل الصغير، وقد يحدث العكس مثلما أكلت القروش الصغيرة السمكة الضخمة في قصة " العجوز والبحر" لهمينجواي، وبرغم ذلك فمازالت البحار مليئة بالأسماك ، بينما تبدو الحيتان (وهي ثدييات بحرية) في تناقص مستمر.

ولبعض أنواع الأسماك قدرة غربية على التحايل للوصول إلى الغذاء، فسمكة " البزاق " التي تعيش في أنهار المناطق الحارة تتربص بالحشرات التي تحط على الحشائش المطلة على النهر، ثم تسدد عليها قذيفة مائية مفاجئة، وتقفز في الهواء لتلتقط الحشرة بفمها قبل أن تغرق، وسمكة الصياد التي حبتها الطبيعة بزوائد تشبه الأعشاب والديدان حول فمها، فإذا وقعت سمكة صغيرة في هذا الشرك فإنها تلاقي حتفها في الفم المفتوح، وبعض الأسماك شديدة الشراهة فقد تبتلع سمكة القرش بعض الملابس والقطع المعدنية، أما " الأنكليس " أو ثعبان السمك فقد ينهش إناث السمك الأخرى ليظفر بالبيض.

ولبعض الأسماك في قاع البحر عيون أنبوبية مثل المنظار المزدوج، والأسماك ضعيفة النظر والسمع بوجه عام؟ ولكن حاسة الشم حادة ولا سيما في القروش، ولبعض الأسماك أعضاء كهربية تستخدم للدفاع من النفس ، أو في قتل الأسماك الصغيرة قبل التهامها، وبعض الأسماك سامة، وقد يكون السم في الدم أو في أحد الأعضاء أو في الأحشاء، وقد يبطل تأثير السم بعد طبخ هذه الأسماك مثلما في حالة بعض أنواع الأنكليس، أو قد يبقى التأثير السام بعد الطبخ، كما في "الفهقة"، وهذه الأخيرة مشهورة بقدرتها على الانتفاخ، وكأنما تعد نفسها لتصبح "أباجورة مكتب" أو لتأخذ مكانا في أحد أرفف المتاحف.

وذكر سمكة فرس البحر ذو حنان زائد، فهو يتولى عمليتي الحمل والإرضاع نيابة عن زوجته، إذ تضع الأنثى بيضها في كيس في بطن الذكر، وإذا بالذكر "يرقص" ربما من الفرح أو ليستقر البيض في أسفل الكيس، كما يفرز سائلا لبنيا ليغذي أسماكه بعد فقس البيض، ثم ينفجر الكيس وتخرج الصغار للماء، ولم يشاهد مثل هذا " الجنان " في أي كائنات أخرى.

ولبعض أنواع السمك هجرات موسمية لا تحتاج فيها إلى جواز سفر أو هوية، وأغربها هجرة ثعبان السمك أو الأنكليس، الذي يعيش في البرك والأنهار حتى يبلغ من العمر عشر سنوات، وفجأة يصيبه مس من الجنون، فيندفع من الأنهار إلى البحار، ثم إلى مكان عميق في غرب المحيط الأطلسي، هو بحر "سارجاس" قرب أمريكا الوسطى، حيث تضع الإناث البيض وتلحقه الذكور، ثم ينتحر الجميع بطريقة غامضة، ربما لتفادى " صراع الأجيال " أو ربما لأن غريزة حفظ النوع قد تغلبت على غريزة حفظ الفرد، وعندما يفقس البيض تنطلق الصغار اليتامى التي هي في حجم رأس الدبوس، وتستغرق رحلة العودة للأنهار ما يقرب من خمس سنوات، والغريب أن الصغار تتعرف مواطن الوالدين، فيذهب بعضها إلى أنهار أوروبا وإفريقيا والآخر إلى الأنهار الأمريكية، وتحدث تحورات للجسم أثناء النمو، ويصل طول الأنثى إلى حوالى متر بينما لا يزيد الذكر على 60 سم، ولعل هذا هو الفارق الشكلي الوحيد بين الجنسين، وعندما تصل إلى طور البلوغ يحدث لها جنون الهجرة ليس للبحث عن عمل ولكن الهدف هو مكان التكاثر، و يكتمل نموها الجنسي إلا عند الوصول إلي بحر سارجاس، حيث يحدث حفل الزواج الشبيه بما فعله جنود الإسكندر من بنات فارس.

مستقبل الأسماك

ماذا لو لم توجد الأسماك أصلا؟ أو كان وجودها بأعداد د قليلة؟.

في هذه الحالة ربما سادت اللافقاريات على البحار، وقلت الفرصة لظهور أو تطور البرمائيات ثم الزواحف والطيور والثدييات، كما أن قلة الأسماك كانت كفيلة باختفاء كائنات أخرى كالتماسيح والحيتان وطيور البحر، وربما أدى ذلك لاختفاء مصدر مهم للفيتامينات، وإلى ازدياد نسبة مرض " الجوبتر" بسبب نقص اليود في الغذاء.

وماذا لو زاد انتشار الأسماك ؟.

قد يكون ذلك حلا لمشكلة الجوع في بعض المجتمعات البشرية، كما قد يؤدي إلى زيادة إنتاج الكافيار" الذي يصنع بحفظ بيض السمك، وربما قد أدى هذا إلى حل المشكلة الاقتصادية للاتحاد السوفييتي وإلى تأجيل تفككه. ومما لا شك فيه أن زيادة البروتين السمكي تؤدي إلى خفض أسعار اللحوم الحيوانية، وإنقاذ رقاب الكثير من الأبقار من مقصلة الجزار.

كما أن زيادة الأسماك تؤدي إلى انتشار صخور الفوسفات في كثير من البقاع، وهي ترجع في مصدرها الأساسي لعظام الأسماك القديمة، مما قد يؤثر في اقتصاد الدول المنتجة لهذا الفوسفات إما بالسلب أو الإيجاب.وهكذا فإننا إذا رأينا على موائدنا أطباقا من الأسماك، فلعلنا قبل أن نبدأ طقوس الالتهام، أن نؤدي لها...تحية احترام .

 

مختار رسمي ناشد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات