فيلم ومخرج "قتلة بالفطرة" عماد النويري

فيلم ومخرج "قتلة بالفطرة"

القتل بدماء باردة
ارتكاب ست جرائم قتل بالولايات المتحـدة وفرنسا قام بها مرتكبوها إثر مشاهدتهم له ودفع هذا الرقابة البريطانية إلى تأجيل البت في السماع بعـرض الفيلم بينما منعت الرقابة الأيرلندية عرضه نهائيا.

بطلا الفيلم هما ميكي ومالوري الثنائي الذي ربما لم يظهر مثله من قبل في تاريخ الشعر، ولا في تاريخ المسرح ولا في تاريخ الأوبـرا، ولا حتى في تاريخ السينما! والفيلم ذات يتجاوز وإلى حـد كبـير الأشكال والمضامين والأفكار التي قدمت في العدي!د من نوعيـات هذه الأفلام، سواء تلك التي اهتمت بتقديم العنف المبرر، أو تلك التي قـدمت العنف المجاني، بداية من (نـوسفيراتو) 1922، وحتى (البرتقـالة الميكانيكية) 1977 للمخرج ستانلي كوبريك.

عندما سألوا (ستانلي) لماذا اختار موضوع (البرتقالة..) عن الرؤية المستقبلية للعنف بعد أن كان في فيلمه السابق يحلق في الفضاء، أجـاب: "أرى المستقبل مليئـا بالعنف والشـذوذ، عالما مشـوشا مضطربا، عصرا يتميز فيه متوسطو وكبار العمر بالمزيد من اللامبالاة والفتور، وعدم الثقـة بالنفس، وسرعة التأثر بالنقد، بينما يسيطر العنف على الصغار ويجعلهم - إثما في حالة توتر".

عنف بطريقة خاصة

أوليفـر ستون، وفي فيلمه المثير للضجة (قتلـة بـالفطرة)، اختار العنـف هو الآخر، لكن بطريقته الخاصـة، وستون هذا حـاصل على ثـلاث جـوائز أوسكار، ورشح لـ 7 جوائز أوسكارية، وهـو صاحب أشهـر الأفلام المثيرة للجدل والقلق والقلاقل في الولايات المتحدة. هو صاحب ثلاثية هجاء حرب فيتنام التي بدأت بفيلم (الكتيبة) عام 87 وانتهـت بـ (السماء والأرض) عام 93 مروراً بـ (مولود في الرابع من يوليو)، وهو أيضا صاحب هجائية التدخل الأمريكي في أمريكا اللاتينيـة في فيلم (سلفادور) وهجـائية الجشع في (وول ستريت)، ثم هو صاحب فيلم ج. ف. ك الذي يبرهن على أن المخابرات هي التي اغتالت الرئيس كنيدي، وأخيراً هو مخترع ميكي ومالوري ثنـائي العنف المعاصر في (قتلة بالفطرة). وهو أيضا يعتبر واحدا من الذين يتعاملون مع السينما كنوع من الشعر والأدب والموسيقى الخالصة.

عـام 1946 ولد ستون لأسرة غنيـة، ولكن تعـاني الاضطرابات والمتاعب التي جعلته تعيسا كئيبا راغبا في الموت مما دفعه إلى ترك دراسته الجامعية والتطوع جنديا في حرب فيتنام ويذكر أنه عاد منهـا بإصابتين، لكنه قلد نوط الواجب. عاد من الحرب لكن روحه المنطلقة لم تعد معه، وعـانى عدم الاتزان، فتعاطى المخدرات ودخل السجن، ثم خرج منه ليلتحق بالدراسات الحرة للسينما في جامعة نيويورك.

الفيلم الأول والأوسكار

بعد بداية متعثرة كتب سيناريـو فيلم (اكسبريس منتصف الليل) فحصل عنه على جائزة أوسكار، وجائزة اتحاد الكتاب الأمريكيين، والكرة الذهبية، لكنه حصل على جائزة أكبر عندما اعتلى خشبـة المسرح بعد حصوله على الأوسكـار ليلقي خطابا سياسيا طويلا فحاول منظمو الحفل إنزاله، وحدثـت مشاجرة!، وكانت هذه بداية مواجهة ساخنة مع المحافظين فكتب سيناريو فيلمي (الوجه ذو الندبة) و (عام التنين) عامي 83 و85 فاتهموه بالعنصرية والعنف.

في عام 86 نجح في إخراج فيلمه (الكتيبة) وهو أول فيلم عن حرب فيتنـام يخرجـه جندي مشارك في هـذه الحرب، ونجح الفيلم نجاحا عظيما، وحصل على الأوسكـار كأفضل مخرج. قدم (الكتيبة) حرب فيتنام من الداخل وصور المخرج بشاعتها ولا أخلاقيتها، وفي فيلمه الثاني من ثلاثيته الفيتنامية تناول تأثير هذه الحرب في الذين ذهبـوا إليها والذين بقوا في الوطن، أما فيلمه الثالث (السماء والأرض) فقـد تناول وجهة النظر الفيتنامية وأبدى فيـه تعاطفا شديدا مـع هذا الشعب المعتدى عليه .

وفي فيلمه (سلفادور) أدان ستون تلك السياسة التي سمحت للديكتاتورية أن تنتصر في أمريكـا الوسطى. أمـا (ج.ف.ك) فهو كالعادة جلب الكثير من الانتقادات على ستون وقام البعض- قبل صنع الفيلم- بسرقة السيناريـو وتسريبه إلى الصحف، ثم هـاجموا الفيلم بعد صنعه. وحذرت أهم الصحف الأمريكية مثل (الواشنطن بوست)، ومجلة (نيوزويك) الجمهور من مشاهدة الفيلم ووضعوه في القائمة السوداء مما دفع بستون إلى أن يقول : "هناك خطر في ما أفعله، ولكني لا أخشى شيئا. وأعتقد أن قيمة الإنسان تقدر بعدد أعدائه ".

استعادة الدهشة

وإذا كان ستانلي كوبريك قد تخلى عام 1977 عن التزاماته القضائية وترك (اوديسته 2001) من أجل (البرتقالة الميكانيكية) أو بالأحرى من أجل أعنف فيلم كان قد ظهر حتى ذلك التاريخ، فإن أوليفر ستون، وفي عام 1994، يؤرخ له أنه ترك التزاماته السياسية قليلا ليضع فيلما: (لاستعادة الدهشة وبعض المتعة) على حد قوله.ولا يعني ذلك أن نصدق كل كلام المخرجين، فمع احترمنا لمتعة ستون الخاصة فالفيلم بالفعل عبارة عن حمام دم.

الفيلم (الحكاية يصور قصة الشاب ميكي منذ التقائه الشابة مالوري، وارتقائهما معا سلم الجريمة، وحتى أصبحا من نجوم الإعلام، ضيفين على أشهر البرامج التلفزيونية. كل أنواع القتل تشاهدها في هذا الفيلم منذ البداية وحتى النهايـة : قتل بالسكين وبالجمال وبالحرق وحتى الدهس بالقدم .

وكما تتنوع أساليب القتل فإن الأسباب التي تدفع إليه كثير أيضا؟ منها ما هو نفسي (ماض عاطفي مضطرب وبائس ينخر كالسوس في عظام الأبطال). ومنها ما هو اجتماعي (علاقات عائلية متفسخة وسلوك أناني لأفراد يلغون في الكذب والزيف) ومنها ما هو اقتصادي (قيم مجتمع يتسابق فيه الأفراد والمؤسسات للسيطرة والاستحواذ بعيدا عن إنسانية الإنسان وشرعية القوانين) ولأن تركيبة البطل الفرد مختلة، ولأن تركيبة المجتمع مختلة هي الأخرى كان من الطبيعي أن ينشأ نوع من الأبطال في تركيبة الجينات الخاصة بهم خلايا عنف تغذت وعلى مدار سنوات، طوال على حدوتة دراكولا وأقاصيص فرانكشتاين، وفظائع الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في أمريكا، وحرب العبيد، وحرب النبيذ، وحرب الطماطم ، وحرب البوسنة ..هذا ناهيك عن أكثر مائتين من الصراعات العرقية منتشرة في كل أنحاء العالم.

والقراءة الأولى لـ (قتلة بالفطرة) تقدم قصة مغامرات ساذجة وعلاقة حب عصرية بين الفتى مفتول العضلات ميكي، والفتاة المتفجرة بالأنوثة الطفولية أو المتفجرة بالطفولة الأنثوية (مالوري). والقراءة الثانية للفيلم تقرب قليل ابن قلب المجتمع المعاصر لتشير إلى شرايينة العائلية المتكلسة، وصماماته العاطفية المشروخة، وجدرانه الإنسانية الآيلة للسقوط، لتؤكد أن عنف ميكي ومالوري الفطري هو نتاج طبيعي لموروث متراكم من العنف الصوري والمقروء والمحسوس. والقراءة الثالثة تؤكد بعضا مما جاء في نبوءة ستانلي كوبريك منذ حوالي عشرين عاما عن العنف الذي أصبح وباء العصر.

الفيلم (الفني)، يفصح وبجلاء عن موهبة سينمائية متألقة ومجددة : اللقطات السريعـة ذات الإيقاع اللاهث. المخرج بين كادر السينما وكادر الكمبيوتر وفي مشاهد كثيرة بطريقة موحية، زوايا الكاميرا المهزوزة المتوترة، توظيف الأحمر والأزرق من خلال منظومة تحترم التأثير الدرامي للون: المزيج بين الأبيض والأسود والألوان، الخيال الجامح في تشكيلية اللقطة وما تتضمنه هذه اللقطة من حركة ممثل، وحركة موضوع وحركة طبيعة، كل ذلك تم توظيفه لتقديم صورة حية ونابضة عن واقع العنف الآن، ومن يتسبب فيه ومن يغذيه.

حاول ستون بالفعل أن يصنع فيلما للمتعة لكن وكما يبدو فإنه لم يستطع أن يحلق بعيدا عن السياسة وإنما غاص حتى آخر كادر في فيلمه في بحور التاريخ والاجتماع والاقتصاد. الكثيرون هاجموا الفيلم وهكذا تصنع الأفلام التي تغرد خارج السرب . وقد دافع هو عن فيلمه، ونصدقه هذه المرة: " هذا أكثر القرون عنفا. عنف الإبادة الجماعية، وبمعنى ما فإن ميكي ومالوري هما الثمرة العطنة لنهاية القرن".

 

عماد النويري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مشهد من فيلم قتلة بالفطرة الطبيب النفسي ونجم التلفزيون يتحدث إلى ميكي بطل الفيلم





ج. ف. ك أشهر أفلام المخرج اوليفر ستون ناقش فيه قضية اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندي





أوليفر ستون مخرج وكاتب معظم الأفلام التي أثارت جدلا كبيرا في الآونة الأخيرة





الثنائي ميكي ومالوري قاتلان بالفطرة