عبدالهادي الجزار: فنان الفطرة الشعبية والرؤى الكونية عز الدين نجيب

لم يكن فنه مجرد تعبير عن ذاته الفنية بقدر ما كان يمثل ذات مجتمع ووجدان أمة. والأهم من ذلك أنه كان صاحب موقف فكري متبلور.

كان قدرا على حركة الفن المصري والعربي الحديث منذ بداياتها أوائل هذا القرن أن تدور في فلك الثقافة الأوربية بأشكال مختلفة، قد تصل أحيانا إلى حد استلاب الهوية. وإذا كان الجيل الأول من رواد الفن المصري قد نجح في التوفيق بين الثقافتين المصرية والأوربية وحقق نوعا من الامتزاج والتفاعل بينها، معتصما من الذوبان في الثقافة الأوربية بإرثه الثقافي العريق، وبالمد الوطني العارم في مناخ حركة التنوير، فإن الأجيال التالية لم تستطع بلوغ هذه "الصيغة الذهبية الموفقة " إلا في حالات استثنائية، وأصبح الاستقطاب شديدا، سواء نحو الجذور التراثية المغلقة، أو نحو الاتجاهات الغربية المنفتحة..

الانتماء إلى أرض الواقع

من أبرز تلك الحالات الاستثنائية الفنان عبد الهادي الجزار ( 1925 - 1966 ) ابن حي السيدة زينب بالقاهرة، الذي استطاع في أواخر الأربعينيات، مع زملائه من أعضاء جماعة الفن المعاصر، وضع أساس جديد لفن عميق الانتماء إلى أرض الواقع، ضارب بجذوره في تراث الأمة، بينما يستوعب - بنضج وانفتاح - رؤى الحداثة في الفن العالمي في الغرب. متحررا من سطوة جمالياته بسلاح الفطرة الشعبية، المعبأة بطبقات سفلية من الخرافة والأسطورة والسحر، بمعطياتها الجمالية والثقافية وليس بمعطياتها العقائدية والفكرية، فكانوا بذلك إضافة جديدة ومهمة في مجال تعميق الهوية المصرية، إلى ما قدمه جيل الرواد (ناجي ومختار وسعيد).

ويكاد يجمع كل من كتبوا عن الجزار، على ارتباطه بالمدرسة السريالية الأوربية، وهو حكم يستند في رأيي إلى ظاهر التجربة بمدلولاتها الجمالية أكثر مما يتغلغل في أعماق تلك التجربة، ليتقصى دوافعها وانعكاساتها النفسية، ذلك أن تجربته الذاتية شديدة الخوف من الموت، بسبب إصابته بمرض في القلب، حتى مات به في النهاية في الحادية والأربعين، وكان يعمل أستاذا بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة التي تخرج فيها عام 1950، وليس من الصعب أن نعثر على أصداء هذا التهديد في مجمل مراحله الفنية.

ومن ناحية أخرى فقد عاش طفولته وصباه في أجواء الحياة الشعبية المفعمة بالتناقضات بحي السيدة زينب، بين ذرا التجليات الصوفية وحضيض الرغبات الجسدية، بين ثراء الفئات العليا وحرمان الأغلبية المطحونة، بين وعي المثقفين والمنغمسين في قضايا تحرير الوطن، وغيبوبة الجموع في محاولات مريرة لتأمين لقمة عزيزة المنال.

ومن ناحية ثالثة فإن المشهد الذي تفتح عليه شباب الجزار كان ملبدا بانعكاسات حرب عالمية مروعة، مفزعة للدمار والخراب والموت، مخلفة حالة من الخوف واليأس واللا معنى، حتى بدا له وكأن العالم يرتد إلى حالته البدائية الأولى، لكنه كان يشهد أيضا إعادة البناء وانبعاث إرادات الشعوب دفاعا عن الحياة والسلام، كما كان يشهد اجتياح الأفكار والأيديولوجيات الثورية للعالم القديم والأفكار البالية.

فكيف كانت انعكاسات تلك الجوانب الثلاثة على رؤاه الفنية ؟..

هاجس الموت

لقد تبدى هاجس الموت في العديد من لوحاته على امتداد مراحله المختلفة، وإن تخفى في أشكال متعددة، في شكل قط متسلل، أو في شكل ثعبان، أو فأر، أو جثث ملفوفة بالأكفان.. حتى لقد كان الموت يشاركه في الفراش ومائدة الطعام!

وقد أسلمه الخوف من الموت إلى حالة تجمع بين الخوف من المجهول والتسليم القدري، وقربته هذه الحالة من تقمص المفهوم الشعبي للغيب بإدراك حدسي مناقض للعقل، ومحمل بموروثات طقوسية ومعتقدات خرافية، لكنه في الوقت نفسه يرفض بعقله هذا المفهوم، ومن ثم فقد ظل في حالة من القلق والتأرجح، بين الإيمان الميتافيزيقي الصادر عن وجدان جمعي يخلط الواقع بالخرافة، كملاذ يعصمه من الخوف، وبين التعامل العقلاني مع هذه المعتقدات باعتبارها مكونات ثقافية لهوية الإنسان المصري، ومن ثم فإن عليه أن يتخذها وسيلة لهم أبعاد الشخصية المصرية واكتشاف قواها الكامنة، وأمراضها المتوطنة أيضا، وهكذا جاء عالمه الفني مليئا بالقوى الميتافيزيقية، وبمشاهد السحر والزار، واختلاط الموت بالشهوات، ومليئا في الوقت ذاته بحس تهكمي ساخر من هذا كله..

كما تبدت تناقضات الحياة الشعبية ورموزها في لوحاته بأشكال مختلفة، حيث نرى أشخاص اللاهين أو المغيبين أو المسوقين بغرائزهم، تحف بهم القطط الضالة والطيور الغربية والسحالي والثعابين والحيوانات الأسطورية، قريبة من عالم الوشم والمعتقدات السحرية ونجد هنا تقاربا - وتناقضا في الوقت ذاته - بينه وبين زميله في الجماعة الفنان حامد ندا، فبينما ركز "ندا" في لوحاته على البعد السوسيولوجي والمرئي لهذا المجتمع، فإن الجزار ركز على البعد الميثولوجي واللا مرئي، لنرى ما خلف الواقع وللظاهر، حيث يطلق العنان لخياله الجامح، مزاوجا بين الإنسان والحيوان في مخلوقات أسطورية، وبين الإيمان والجنس، وبين الحب والكراهيه، بحثا عن المفارقة الصادقة للعقل والشعور، التي لا تكف عن إثارة الدهشة وطرح الأسئلة التي لا إجابات لها.

عالم يفنى وعالم يولد

أما حالة الحرب وما خلفته من دمار، فقد انعكست - في بداياته الفنية - في صور غريبة لعالم يفنى وأخرى لعالم يولد من جديد، متخذة من البيداء والشواطئ الموحشة مسرحا لها، ومن المرأة العارية الشعثاء الشعر، وهي تخرج من القوقعة الأسطورية كما خرجت أفروديت، ومن الأشجار الوحشية والخيول البرية: شخوصا على هذا المسرح.

لقد امتزجت هذه الرؤى المنعكسة عن مناخ الحرب بحالة اليفاعة الرومانسية لديه قبل سن العشرين، فراح يرسم صورا بالحبر تعبر عن الجنس كمرادف للحياة واكتشاف الوجود الغفل، ويرسم القواقع رمزا للميلاد، ويرسم الأشجار رمزا لغابة المشاعر والرغبات المكبوتة، وكان في تعبيره عن ذلك كله بدائيا ضاريا في خطوطه ونسبه وظلاله، متأثرا بما أتيح له الاطلاع عليه من لوحات جوجان في جزر تاهيتى وادوارد مونش مع بقية التعبيريين، لكنه أيضا كان مهموما بالطبيعة البكر بعيدا عن حواجز الحضارة الزائفة.

بقدر ما كان الجزار مدينا بتفوقه وامتلاك أدواته الفنية وعالمه التعبيري، لموهبته المتميزة ووعيه المبكر وتجربته الحياتية، فقد كان بالقدر نفسه مدينا بذلك لأستاذه في مدرسة الحلمية الثانوية في أواسط الأربعينيات.. الفنان حسين يوسف أمين.. الذي استطاع أن يجمع في خيط واحد حبات عقد لؤلؤي من مجموعة من الشبان الصغار من تلاميذه تحت العشرين، يملكون مواهب فريدة في التصوير، وأن يساعدهم في تكوين جماعة الفن المعاصر عام 1946، تضم - إضافة في الجزار - حامد ندا (1934- 1990) وسمير رافع ( المقيم بفرنسا منذ ثلاثين عاما وقد أصبح صديقا لبيكاسو وجياكوميتى) وماهر رائف (الأستاذ بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية) وإبراهيم مسعودة وكمال يوسف ومحمود خليل (وإن كنا لا نعرف شيئا عن مصير هؤلاء الثلاثة منذ الخمسينيات).. ولا شك أن الأربعة الأوائل قد تركوا بصمات واضحة على مسار حركة الفن المصري الحديث، خاصة في تأسيس الحركة السريالية ببعدها المصري الخالص، وليس ببعدها الأوربي الذي رأيناه في معارض جماعة "الفن والحرية" السابقة على جماعة "الفن المعاصر" بست سنوات بقيادة الشاعر جورج حنين، كحركة إبداعية في الشعر والفن التشكيلي، وكحركة سياسية تنادي بتغيير المجتمع وبناء دولة البروليتاريا، وكان أبرز فنانيها رمسيس يونان وكامل التلمساني وفؤاد كامل، الذين تبنوا - في البداية - الحركة السريالية الأوربية، لكنهم ما لبثوا أن اتجهوا وجهات مختلفة حسب نزعات كل منهم.

بين اللوحة والقصيدة

لكن هناك رافدا آخر مسهما في تغذية عالم الجزار.. وهو الشعر.. ذلك أنه في حقيقته شاعر، بيد أن عالمه الشعري كان أكبر من أدواته الشعرية، وقد كتب في شبابه المبكر العديد من القصائد التي تحتوي أهم مضامين لوحاته، وكثير ما جمع في لوحة واحدة بين الرسم والشعر، لكنه سرعان ما أدرك خصوصية اللغة المطلوبة لكل منهما، فتوقف عن كتابة الشعر، لكن ليدمجه في لوحاته ذات البناء الملحمي..

يقول في مطلع قصيدة له عام 1953 بعنوان " نشيد الخنافس " يصف فيها حالة الجموع الضائعة آنذاك:

ورا الحيطان السود

ممدودة رمتهم

أشكال حناجرهم

جوه الودان مصدية

سامع تراتيلهم

عويل عويل

نشيد الخنافس ديدان الهوا الأخضر
تنزح من الدم وتروي الحصى الأصفر
تاخد من القلب وتفك الخزام تشرب
أنين الديابة من ربحة العرق يظهر

هذا البناء الرأسي للصور وليس الأفقي، وهذه المفارقة الواضحة بين التجسيدي والتجريدي، بين الواقعي والسريالي، بين المأساوي والتهكمي، نجدها أيضا متوافرة في بناء لوحاته، إضافة إلى المفارقة الدرامية عن واقع بشري تستنزفه عوامل الاستغلال والخراب والعبث، تلك التي ".. تنزح من الدم لتروي الحصى الأصفر..".

وبالرغم من البناء القاعدي الثقيل لهياكل لوحاته على أساس كلاسيكي رصين، يقوم على التكتيل والمنظور الثلاثي الأبعاد ومساقط الضوء والتوازن.. إلخ، فإنه يقوم كذلك على قاعدة شعبية في الفن، فيرسم ما يدركه وليس ما يراه، مخترقا حواجز الرؤية، مطلقا العنان للبصيرة، وهي مزيج من بصيرة الطفل والرجل الساذج حين يرسم على الجدران صور "المحمل النبوي" أو الملاحم الشعبية مثل أبي زيد الهلالي والزير سالم... وهكذا تذوب الحدود بين أمامية اللوحة وخلفيتها، وتتغير مفاهيم النسب للأشخاص حسب أهميتهم الدرامية وليس حسب موقعهم في المنظور الثلاثي، ويمتلئ الفضاء حول الأشخاص برموز وعناصر سحرية معلقة، ذات حضور يتجاوز حدود موقعها الهامشي على الجدران الخلفية، لتصبح لها أهمية الأبطال في مقدمة اللوحة.

الولاء للروح الشعبية

ولم يكن الجزار مبدعا تفنيا (شكلانيا) فحسب، ولم يكن كذلك مجرد فنان تعبيري ينتج من ذاته الفردية وعمق وجدانها، بل كان ينتج من ذات مجتمع ووجدان أمة عريقة، والأهم من ذلك أنه صاحب موقف وفكر، تبلور لديه مبكرا مع أول " بيان " تصدره جماعة الفن المعاصر في معرضها عام 1948، حيث جاء فيه:

".. الفن المعاصر يأبى إلا أن يقف مع قمة الفكر الحديث، وهو يرمي إلى عكس ما ترمي إليه الفنون السطحية التي تجهل أو تتجاهل سر الحياة وسر علاقتنا بها.. إن الفن أدلة للغزو والمعرفة، فقد أصبح مالكا لنفسه وقائدا لوعي الناس، بعد أن ظل وقتا طويلا يعمل في خدمة المطامع المستورة ...".

ومع ذلك فإنه لم يبق أسيرا لأي مفهم ثابت أو جاهز مهما كان نبله، لأنه كان إنسانا مركبا من نقائض شتى، صادقا مع نفسه قبل اعتناقه لأي شعار.. فبينما يحمل الولاء للروح الشعبية بكل ما فيها من سلبيات وخرافة، فإنه يمتلئ بالثورة عليها والسخرية منها، وبينما تبدو لديه نزعة اليأس والتشاؤم، نجده مفعما بحب الحياة والبهجة، والتناقض ذاته نجده لديه بين قوة إيمانه بالثورة الاجتماعية وتحرير المطحونين والمستغلين من القهر، وبين رفضه نظريات الثورة الاجتماعية واعتبارها أس الشرور.

وكانت لوحاته تعبيرا عن هذا التأرجح، وكثير ما تجمع اللوحة الواحدة - أو القصيدة الواحدة حين يكتب الشعر- عددا من هذه النقائض.. فلوحته الشهيرة " فرح زليخة " التي رسمها 1948 - على سبيل المثال - تصور فلاحة بزي الزفاف، لكنها ترفع إحدى يديها فوق رأسها ملتاعة وكأنها تولول وعيناها تمتلئان بالفجيعة، فيما تمسك يدها الأخرى - البالغة الضخامة - لردة حمراء داخل إناء أسطوري، وتحت قدميها تربض قطة بيضاء في وضع كرب، ومن خلفها طفلة حزينة تتعلق بثوبها، أما الخلفية فمليئة بالرسوم والرموز السحرية... هكذا يجتمع الفرح والمأساة، والمنطق واللا معقول، وهو في الحقيقة لم يكن يفكر بالمنطق، وفي الوقت ذاته لم يقصد أن يكون لا معقولا، أو سرياليا، بل كان يستجيب لتداعيات العقل الباطن، خاصة ما كان منها مرتبطا بالوجدان الشعبي الجمعي الممتد إلى آلاف السنين.

وإذا كنا نراه يرسم "طابور الجياع" (1948)، وهي تصور صفا طويلا من الفقراء واقفين أمام أطباق فارغة، حتى يتعرض بسببها إلى الاحتجاز في السجن، فإنه يسخر منهم في لوحة "دنيا المحبة" (1952) وهم يتبادلون الحب، فيما تلتف حية رقطاء على ذراع الرجل الذي يضع أقراطا وعقودا في أنيه وحول عنقه كالنساء أو الدراويش، ويسجد رجل آخر بالقرب من الحبيبين مصليا، وفي عمق المشهد امرأة عارية كالغواية.

روح الأسطورة

هكذا يتداخل في أعماله النقد الاجتماعي مع روح الأسطورية والخرافة والميتافيزيقا الشعبية.. إلا أن مرحلتيه الأخيرتين عن السد العالي وعالم الفضاء في الستينيات تعدان تجاوزا لذلك المركب، ما تحمله الأولى من تمجيد لفكرة العمل ومن إعلان عن شموخ الإنسان وسيطرته على الطبيعة وعلى مقدراته، بالعلم والعمل والإدارة، وليس بالخرافة والاستكانة والتواكل، وبما تحمله الثانية من ريادة لآفاق مجهولة سعيا إلى اكتشاف الكون والسيطرة عليه بالعلم ومنجزاته التكنولوجيا الدقيقة، مستخدما في ذلك لغة فنية تشارف حد التجريد.

لكنه - سواء في مراحله القديمة أو الأخيرة - لا يخضع لقوانين الرؤية البصرية المباشرة، أو قوانين العقل والمنطق، بل لعله يتخذ من العلم والتكنولوجيا وعالم الفضاء وسيلة لبلوغ رؤى ميتافيزيقية من نوع جديد.

لا أن ثمة مجموعة من اللوحات الصرحية الكبرى كرس فيها فنه لأهداف قومية مباشرة، مثل "شق قناة السويس" و "الميثاق" و "السلام"، حيث يطل من داخله الداعية وصاحب الرسالة الاجتماعية المؤمن بتقدم بلاده والمطالب بالعدل والسلام واحترام الإنسان، مما كان يقتضيه التنازل عن كثير من خصائص عالمه الفني الأثير ورؤاه الفطرية الضارية.

إذا كان الباحث والمستشرق الفرنسي " آلان روسيون " - أحد محرري الكتاب الذي صدر منذ عام ونصف عن الجزار بالقاهرة - قد ذهب في مقاله بالكتاب إلى أن بحث الجزار عن الهوية قد فشل في النهاية، لأنه - شأن الفنانين من هذا الاتجاه - سار في طريق مسدود، فإن هذا الرأي يعكس رهان المثقفين الأوربيين، الزاحفين على مصر والعالم العربي على مدى قرنين منذ الحملة الفرنسية حتى الآن، على تحويل مسار الثقافة المصرية والعربية إلى نهر الثقافة الأوربية، بعيدا عن هدفها لتحقيق هوية خاصة تميزها، كي تتخذ من النموذج الأوربي مثلا يحتذى.

لكن هذا الرهان مقضي عليه بالفشل، لأن المخزون الثقافي في أعماق الشخصية المصرية أو العربية أعمق جذورا من أن تنحرف به عن مسار نموه الطبيعي أية مؤثرات ثقافية غازية، مهما كانت قوة التحولات الدولية الأخيرة وما تعكسه من تحولات ثقافية.