كتاب الشهر الماء .. الماء..الماء رجب سعد السيد

كتاب الشهر الماء .. الماء..الماء

وأخيرا، ولعله لا يكون متأخرا، بدأ البشر يلتفتون إلى الماء بعد أن اكتشفوا أن مستقبلهم المائي مهدد بدرجة أو بأخرى، وأن معظم مشاكل العالم تطفو على الماء. و "العربي" تخرج عن مألوف عادتها وتقدم عرضا لكتابين بدلا من كتاب واحد يدوران حول هذا الموضوع المهم.

هل لديك خريطة للعالم؟! افتحها، وأئت بآلتك الحاسبة. ستجد أن البحار والمحيطات تغطي 8. 70% من المساحة الكلية لسطح الكوكب (بمتوسط عمق 73.3 كم). فإذا أضفنا مساحات البحار الداخلية والأنهار والبحيرات والأغطية الجليدية في القطبين، فإن مساحة المسطحات المائية على (الأرض) تبلغ 35. 74% من المساحة الكلية لسطحها. ولو تصورنا أن سطح هذا الكوكب قد تمت تسويته تماما، من أعلى قمة جبل إلى أبعد عمق في محيط، لصارت (الأرض) محيطا مستمرا ضخما، يصل عمق المياه فيه إلى 7.2 كم!.إنه- إذن- كوكب الماء، لا الأرض..!

على أي حال، فإن أحداً- غير كاتب هذه السطور ، وحتى الآن- لم يتحمس لتغيير اسم هذا الكوكب الذي نعيش عليه؛ واكتفينا- خلال المليون سنة، عمر الإنسان في الحياة- بأن نعيش بالماء وعلى الماء، دون أن نهتم كثيرا بالتوقف لتأمل (مسألة المياه)..وللحقيقة، لم يقم بذلك إلا الشعراء وبعض العلماء!

يقول الدكتور محمد الرميحي في حديثه الشهري بعنوان: "المياه العربية وحديث عن الخطر المستتر": "استراتيجيا، أكاد أقول إن الماء أهم لنا من أي شيء آخر؛ ومع ذلك، فما زال في أدنى أولوياتنا القومية، ولا نذكره في خططنا الاقتصادية إلا لماما..".

وهي حقيقة واضحة الدلالة، شديدة الإيلام.

وهل ثمة من يشك في أن المياه تمثل بعداً رئيسيا في استراتيجية الصراع العربي- الإسرائيلي؟. لا نعتقد أن اثنين يختلفان في ذلك، ولكن بعضنا- في غمرة الكد اليومي، وتحت تأثير ثقل الإعلام الموجه- قد ينسى، أحيانا، هذه الحقيقة، حتى تجد أمور تجعل مسألة المياه في بؤرة الرؤية، فينتبه.

ولا تغيب مسألة المياه عن فكر الساسة الإسرائيليين ؛ وإذا كان لإسرائيل خريطة أمنية تحرص على إحكامها ؛ فإن "خريطتها المائية" لا تقل أهمية عن الأمنية.

وفي عام 1873، أوفدت مؤسسة بريطانية تسمى (الجمعية العالمية البريطانية)، بعثة من الخبراء والمهندسين إلى فلسطين، لدراسة أحوال مواردها الطبيعية، وفي مقدمتها المياه. وجاء في تقرير لتلك البعثة ما يلي: " إن بالإمكان تهيئة فلسطين والنقب لإسكان الملايين من (البشر)، بالإضافة إلى ري صحاري الجنوب، إذا أمكن نقل بعض كميات المياه، الموجودة بوفرة في شمال فلسطين، إلى جنوبها...."

الماء والصراع

وليس سيناريو الصراع العربي- الإسرائيلي هو وحده المتضمن لعنصر المياه؛ فأينما توجهت في أرجاء الأرض، تجد الصراعات، كبيرها وصغيرها، ظاهرها وخفيها، والمتوترة والنائمة إلى حين، من أجل الموارد الطبيعية، في عصر يمكن أن نسميه بعصر سعار الموارد الطبيعية، وتأتي المياه في مقدمة الثروات الطبيعية محط الأنظار والأطماع، في عالم يضطرب مناخه، وتتسع مساحات الجفاف والقحط في يابسته عاما بعد عام..

لعلنا، إذن، لم نتجاوز كثيراً، حين جعلنا اسم الماء يتردد في عنوان هذا المقال ثلاثاً، وحين عمدنا إلى كسر القاعدة فوضعنا كتابين في المكان الذي اعتاد قراء هذه المجلة أن يجدوا فيه عرضاً لكتاب واحد...لقد وجدنا أن ثمة ضرورة لمراجعة آراء بعض العلماء والفنيين حول مشكلة المياه، من وجهة النظر الاقتصادية، في الكتاب الأول ؛ الذي صدر بعنوان "إدارة المياه كمصدر اقتصادي " من تأليف جيمس وينبني. وصدر عن دار ردتليدج في العام الماضي. واستعراض وقائع مؤتمر علمي عالمي حول. ضرورة المياه. لتأمين التنمية في القرن القادم..ويزيد درجة اهتمامنا بوقائع هذا المؤتمر أن العاصمة العربية (الرباط) هي التي استضافته في مايو 1991، وتجمعت الأوراق البحثية التي نوقشت فيه لتعطينا الكتاب الثاني بعنوان " الماء. رورة للتنمية في القرن العشرين " من تأليف أسيت ك. بيسواس ومحمد جيلالي وجيلينأ أ.استادت.

لقد أصبحت مشكلة المياه تتصدر أولويات هموم سكان هذا العالم، إلا الغافلين منهم، في زمن لا يرحم الغافلين. ويمكن تلخيص تلك المشكلة، على المستوى العالمي، في سؤال بسيط، هو: كيف يمكن توفير المياه- كما وكيفا- لسكان العالم الآخذ تعدادهم في التزايد؛ وفي نفس الوقت، ضمان تصريف المياه المتخلفة عن جميع الأنشطة البشرية، دون إلحاق الضرر بالبيئة؟.

ومن أعراض المشكلة المائية أن أكثر من بليون عن سكان العالم لا يعرفون الماء النقي، وأن حوالي بليوني إنسان يفتقرون إلى المرافق الصحية. ومن ملامحها ، أيضا، أن الماء- كمادة حيوية لا غنى عنها- لا يجد الاحترام والتقدير المناسبين إلا في عدد محدود من المجتمعات، بينما يجري التعامل مع المياه في معظم دول العالم كما لو كانت مصدراً أبدياً لا يفنى، ودون مقابل مادي للاستهلاك- وهو استهلاك غير رشيد في معظم الحالات- أو بمقابل لا يوازي القيمة الحقيقية لهذه النعمة.

وثمة اتفاق تام عام على أن (المشكلة المائية) تظهر ملامحها عندما يقل متوسط نصيب الفرد من المياه عن ألفي متر مكعب في السنة. وتأسيساً على ذلك، فإن ستا من كل سبع دول في شرق إفريقيا، وكل دول الشمال الإفريقي، ستقع في دائرة (الضنك المائي) في مطلع القرن القادم. ويتوقع بعض الباحثين أن يشهد هذا العام- 1995- استهلاك كل المتاح من الموارد المائية المتجددة في كل من إسرائيل والأردن والضفة الغربية. كما يتوقع تقرير للبنك الدولي، نشر في عام 1990، أن يكون نقص الموارد المائية أهم مشكلة تواجه دول البحر المتوسط مع مطلع القرن القادم، وسوف تتفاقم صعوبة حل هذه المشكلة مع ارتفاع تكلفة توفير المياه اللازمة لخطط التنمية. ويحذر التقرير من أن التقاعس عن حماية الموارد المائية وإدارتها جيدا سيترتب عليه تقويض مقومات تلك الخطط.

ويجتهد الكتابان في رد أزمة المياه العالمية إلى أسبابها؛ ويمكننا أن نجمل أهم هذه الأسباب في النقاط الثلاث التالية:

1- أن أرصدة المياه العذبة في كل بلاد العالم أصبحت محدودة؛ بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة إقامة مشروعات مائية جديدة، مع توقع أن تتضاعف هذه التكلفة جيلا بعد جيل. فإذا أضفنا إلى ذلك أن كل دول العالم الثالث- تقريبا- مثقلة بأعباء الديون، وعدم توافر الاستثمارات التي يمكن توجيهها إلى قطاع المياه، ازدادت حدة المشكلة.

إن ذلك يلقي أعباء ثقالا على عاتق الفنيين، لتطوير أفكارهم وأدواتهم، ونشير هنا إلى واحد من التوجهات التي يتبناها الكتاب الصادر عن مؤتمر الرباط للمياه والتنمية في القرن الحادي والعشرين؛ ويتمثل في الدعوة إلى إنشاء بنك عالمي للموارد المائية. ولا يتوقع الداعي إلى هذه الفكرة أن يأتي هذا البنك بالحلول الحاسمة لهذه المشكلة العالمية، ولكنه يسهم في تخفيف أعباء تمويل المشروعات المائية التي تثقل كاهل ميزانيات الحكومات .

2- ارتباط ظاهرة التزايد المستمر في تعداد سكان العالم بالزيادة في كمية المياه المطلوبة لجميع أوجه نشاط هذه الأعداد المتزايدة من البشر. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع مستوى معيشة السكان في بعض الدول الغنية، يتبعه زيادة في متوسط استهلاك الفرد من المياه.

3- ومع التزايد في الأنشطة البشرية، كماً ونوعاً، يزداد تعرض الموارد المائية للتلوث بالمخلفات الناتجة عن تلك الأنشطة المختلفة. وتتبدى خطورة هذه المشكلة بصفة خاصة في المخزون الطبيعي من المياه الجوفية ومياه البحيرات والأنهار حول المدن. وللأسف، فإن تلوث المياه الجوفية يعني خسارتها، لصعوبة أو استحالة تنقيتها. كما أنه مع ارتفاع تكلفة تنقية المياه السطحية من بعض الملوثات ، مثل أملاح النيترات، تعجز معظم الدول النامية عن تبنى برامج للتخلص من هذه الملوثات. ويهمنا هنا أن نركز على خطورة أملاح النيترات الذائبة في مياه الشرب على صحة ونمو الأطفال. وفي إحدى الولايات الأمريكية، تلجأ الأسر إلى المياه المنقاة المعبأة في زجاجات، من أجل الأطفال، بعد أن ثبت ارتفاع نسبة هذه الأملاح الخطيرة في الموارد المائية الطبيعية.

إصلاح مائي..هل هو ممكن؟

أما عن سياسة الإصلاح المائي، فإنها تقوم على المفاهيم الأساسية التالية:

1- يجب إيجاد أفضل السبل للانتفاع بالمتاح من الموارد المائية، قبل التفكير في إنشاء مشروعات جديدة لجلب المياه؛ وهذا يتضمن تنشيط جميع آليات صون الموارد الراهنة.

2- يجب أن يتمتع (قطاع الماء) بسياسة تتوافر لها الظروف المشجعة والدافعة على العمل، والعوامل المحفزة على الإصلاح، والقدرة على التدخل المباشر في مواجهة أزمة المياه.

3- يجب أن تتاح الفرصة للمبادرات المحلية والإقليمية للتعامل مع أزمة المياه بأن تصبح المؤسسات والأجهزة الإدارية أكثر مرونة وأسرع استجابة ؛ على أن تعطى آليات السوق مساحة مناسبة في هذه الجهود.

4- يجب عدم إغفال عنصر تكامل الجهود في التخطيط لمواجهة المشكلة المائية، على كل المستويات، حيث يرتبط التفكير في توفير موارد المياه العذبة بكيفية التخلص من مياه الصرف بالاعتبارات البيئية.

5- الدعوة إلى إيجاد ترتيبات اقتصادية للموازنة بين تكلفة المياه والانتفاع بها، وتقدير الثمن المناسب لاستهلاك المياه في مختلف الأغراض. إن ذلك يحيل الماء إلى سلعة تخضع لأحكام السوق؛ ومن المهم أن يؤخذ في الاعتبار- هنا- بروز وجهات نظر معارضة، ومن يجب على الحكومات أن تضع الحقائق أمام مواطنيها، وترسم لهم البديل، الذي لن يخرج عن سيناريو كريه لأزمة حقيقية تتزايد حددتها.

ولنتوقف قليلاً عند هذه النقطة الأخيرة في برنامج سياسة الإصلاح المائي..إن فكرة (تثمين المياه يكتنفها حساسيات- بل محاذير- اجتماعية وسياسية، وأحيانا دينية، وربما دبلوماسية. ولكن، من الضروري أن نستمع إلى أنصار الدعوة إلى تحصيل مقابل حقيقي يعادل قيمة الماء كسلعة اقتصادية نادرة ؛ فهم يرون أن سلوكيات استهلاك المياه، حتى الوقت الراهن، تفتقر- في مجملها- إلى الترشيد، وما يترتب على ذلك من إهدار لجانب محسوس من ثروة البشر المائية.. يرون أن السبب المباشر لاعتياد معظم سكان العالم على هذه السلوكيات هو أن الماء يأتي إليهم في منازلهم دون مقابل تقريبا، في حين أن التكلفة الحقيقية لهذه الخدمة الحيوية يجب أن تشمل: التكلفة البيئية- تكلفة الإمداد بالمياه- تكلفة الانتفاع بالمياه- وأخيراً، التكلفة المستحقة عن نفاد أو قرب نفاد مورد مائي يجري الانتفاع به.

إن مشكلة المياه- كما هو واضح- شديدة الارتباط بباقي مشاكل عالمنا المرهق، وكلها ناتجة- أساسا- من الزيادة المتسارعة في تعداد سكانه...فمزيد من السكان يعني ضرورة توفير مزيد من الطعام ومزيد من الطاقة، وهذان ينتهيان بالحاجة إلى مزيد من الموارد المائية. وإزاء هذه الشبكة المعقدة من المشاكل المتداخلة، فإن الحل لن يأتي إلا من خلال إطار عام لسياسة عالمية تعمل على تكثيف الاستثمارات والمعطيات التكنولوجية وتنسيق الجهود المحلية والإقليمية. ويجب أن يكون ذلك واضحا لجميع البشر؛ فالمستقبل واحد، ولا نتمناه إلا مشرقا، في الشمال والجنوب، شرقا وغربا.

لقد أتى على بني آدم حين من الدهر، تمسك أياديهم بزمام مصيرهم... فلا تلقوا بالتبعات- أيها الأصدقاء على النجوم، بل على ذواتنا التي نأمرها فتطيع.. هكذا تكلم شكسبير!.

 

رجب سعد السيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة للجوع المائي تغني عن أي قول





غلافا الكتاب الأول





غلاف الكتاب الثاني





وجد الماء... لكن حذار... المشكلة المائية تلوث موارد المياه الطبيعية