برشلونة تحتضن أكبر دورة أولمبية في التاريخ طلعت شاهين

بدأت مراسيم أكبر وأضخم دورة أولمبية في التاريخ . أنها الدورة الخامسة والعشرون التي تقام منذ بدء إقامة الألعاب الأولمبية في التاريخ المعاصر ، والتي بدأت عام 1896 . وبذلك تعود الشعلة الأولمبية إلى مدينة بحر متوسطية هي برشلونة بعد عشرين عاما أضاءت فيها بلادا في آسيا وأمريكا والاتحاد السوفييتي سابقا.

لقد اشترك في مراسيم الاحتفال بانطلاق الشعلة الأولمبية من قمة الأولمب في اليونان حوالي 4876 رياضيا في رحلة استغرقت 32 يوما حتى تصل إلى الإستاد الأولمبي بمونجويك في مدينة برشلونة ، وهو المكان الذي انطلقت منه دورة الألعاب التي يعيشها العالم هذه الأيام .

برغم ما كان يشبه اليقين بفوز مدينة برشلونة بتنظيم الألعاب الأولمبية لعام 1992 إلا أن القلق كان باديا على باسكوال ماغال عمدة المدينة الذي كان يرأس وفد بلاده في أثناء انعقاد اللجنة الأولمبية الدولية في لوزان لتسمية المدينة الفائزة، وعندما وقف رئيس اللجنة وفي يده ظرف مغلق ليفتحه أمام عدسات التليفزيون كانت شفتا مارغال ترتعشان وكأنهما تريدان نطق اسم برشلونة عندما ينطقه سامارانش، وبالفعل حدث ما كان متوقعا، فرقص العمدة فرحا وراح يعانق أعضاء الوفد، وانطلق إلى الطائرة ليزف البشرى السعيدة بنفسه إلى أبناء شعب إقليم قطالونيا وإسبانيا، كانت مصادفة أن أشاهد هذا الحدث عبر شاشات التليفزيون وأنا في ضيافة صديق إسباني يعمل في صحافة برشلونة. كان ذلك في السابع عشر من أكتوبر عام 1986 فبعد أن كان برنامجنا أن نذهب إلى المسرح قررت المجموعة التي ترافقنا في بيت صديقي أن نقضي الليل في ساحة " خايمى الأول " للاستمتاع بأصوات أعظم مغني الأوبرا القطالونية "مونسرات كاباليه " و " خوسيه كاريراس " اللذين أخذا على عاتقهما إحياء الحفل الساهر، ولكن الازدحام وأصوات الفرح والألعاب النارية لم تترك لها الفراغ الذي تعودا عليه في دار الأوبرا، فكان صوتاهما جزءا من موسيقى أكثر شمولا وقوة، موسيقى لا تتكرر كثيرا، موسيقى الفرح الشعبي العارم الذي يطرد كل الاختلافات الأيديولوجية والحزبية ليتحد في كل واحد، فلم يكن غريبا أن يقف العمدة الاشتراكي باسكوال مارغال إلى جوار حاكم المقاطعة اليميني جوردي بوجول لأنهما عملا معا من أجل هدف واحد، هو أن تكون مدينة برشلونة مقرا للألعاب الأولمبية عام 1992، ولتكتمل أعراس إسبانيا في احتفالها بمرور خمسة قرون على وصول كريستوفر كولومبس إلى أمريكا، وهي الأعراس التى استعدت لها بالمعرض العالمي "أكسبو 92 " في أشبيلية الذي يستمر مفتوحا أمام الجماهير حوالي ستة أشهر من العشرين من أبريل إلى الثاني عشر من أكتوبر المقبل.

برشلونة.. منارة ثقافية

تعتبر مدينة برشلونة منارة حقيقية للثقافة الإسبانية وهي عاصمة مقاطعة قطالونيا، ففيها تتركز أهم دور النشر في العالم الناطق باللغة الإسبانية، إضافة إلى إصداراتها باللغة، القطالونية التي تأتي في المرتبة الثانية بطاقة نشر تبلغ 1500 مؤلف ثقافي باللغة القطالونية وتتمتع بشهرة عالمية في مجال إقامة المهرجانات والمؤتمرات الثقافية والعلمية، حيث يوجد بها أهم قصر للمؤتمرات مجهز بأحدث الأجهزة الفنية الخاصة بالترجمة الفورية والفنادق الفاخرة والطرق الواسعة التي تسهل حركة المرور وقدمت للثقافة العالمية العديد من الأسماء الشهيرة في عالم الفن والثقافة، فهي مسقط رأس الفنان العالمي سلفادور دالي والفنان المتوسطي الأول خوان ميرو والمعاصر أنطونيو تابيس، وهي أيضا مسقط رأس أعظم فناني المعمار في هذا القرن أنطوني غاودي الذي اقترنت برشلونة باسمه ولا تعرف في الدليل السياحي إلا به، وهي أيضا مدينة السوبرانو الأوبرالية مونسرات كاباليه والتينور المعروف خوسيه كاريراس، وبها أعظم أطباء العيون في العالم الدكتور باراكير.

فانتازيا انتخابية

شاء حظي أن أتابع - سواء من مدريد أو من برشلونة نفسها - الانتخابات الثلاثة الإقليمية التي جرت منذ الإعلان عن الحكم الذاتي عام 1980، وذلك بسبب ظروف عملي كمراسل في إسبانيا منذ عام 1980 إلى عام 1990، وتشاء المصادفة أن أتابع انتخابات هذا العام خلال إجازة كنت أقضيها في مدريد، وكان تليفزيون العاصمة المركزية يخصص برنامخا مطولا لهذه الانتخابات بكل ممارساتها الديمقراطية التي قد تبدو في بعض الأحيان شبه فكاهية، فقد شهدت برنامجا إعلانيا للحزب الجمهوري القطالوني الذي خاض الانتخابات المحلية رافعا شعار " الانفصال الكامل عن إسبانيا وإعلان الجمهورية القطالونية "، وكان البرنامج الدعائي عبارة عن نشرة أخبار تقليدية خيالية هي من صنع خيال رئيس الحزب، ويتم تقديم النشرة على أن الجمهورية القطالونية حقيقة قائمة، وأنه هو رئيسها يستقبل أوراق اعتماد سفراء أجانب في حضور ممثل عن المملكة الإسبانية وبابا الفاتيكان، ولمزيد من السخرية والفكاهة والإمعان في الخيال تقدم النشرة أوراق اعتماد سفير الجمهورية الإسكتلندية بعد إعلان استقلالها عن المملكة المتحدة (بريطانيا) وكذلك أوراق اعتماد سفير جمهورية بلاد الباسك وكلها جمهوريات لم تزل في بطن الغيب!.

ويستمر الخيال حتى يصل إلى النشرة الجوية التي تعلن عن مناخ صحو دائم، فالشمس لا تغيب عن قطالونيا أبدا طوال حكم الحزب الجمهوري، مما جعلني أتساءل: و " من أين تجد قطالونيا المياه التي ترويها وهي التى تعتمد في جزء كبير من ري الزراعة والشرب على الأمطار " (؟!) إنها الفانتازيا الانتخابية التي تصيب البعض نتيجة الإحباط المسبق قبل دخول الانتخابات، فالزعيم يعلم تماما أن جماهيره التي تصوت له لن تزيد ولن تنقص وأن عدد الأصوات التي حصل عليها في أول انتخابات لن تتغير.

مدينة سوريالية

وأنا أهبط من الطائرة في مطار برشلونة الدولي في تلك الأمسية الممطرة من شهر أبريل بدأت تتضح أمامي معالم مدينة تستعد لاستقبال حدث تاريخي مهم، كل شيء يلمع تحت برق المطر الخفيف، والنظافة وحسن الضيافة يحكمان كل صالات المطار، وقبل أن أخرج من الباب الرئيسي سمعت تحية المساء باللغة القطالونية " بون أني " تلفت حولي وأنا أحاول الرد على التحية من خلال التشابه الواضح مع اللغة الإسبانية التي أجيدها، وجدت الشرطي بملابسه الزرقاء يؤدي التحية ويدلني على موقف سيارات التاكسي التي اصطفت بلونيها الأصفر والأسود.

يبدأ الحي العتيق لمدينة برشلونة من الميناء على شاطئ البحر، ويمتد إلى أن يلتقى بالحي الحديث، وهذا الجزء القديم يبدو كجناحين عملاقين لثعبان من تلك الثعابين الأسطورية، وهذا الثعبان هو طريق " الرملة " فهو يفصل الحي القديم إلى نصفين، ويعتبر من أجمل شوارع المدينة وأكثرها جاذبية للسائحين وأبناء المدينة. واسمه باللغة القطالونية " لاس رمبلاس " ويقال إن الاسم مشتق من الاسم العربي القديم " الرملة " ومما يؤكد صحة هذا الاشتقاق فإن ميدانا رئيسيا في مدينة غرناطة يطلق عليه الاسم ذاته، ومعروف أن الحكم العربي في قطالونيا لم يمتد طويلا، فقد دام لفترة تقل بعض الشئ عن قرن من الزمان، وحسب ما يقوله المؤرخون فإن الحكم العربي للإقليم بدأ عام 716 ميلادية وانتهى عام 801 ميلادية أي خمسة وثمانين عاما فقط، لكنها كانت كافية لتترك بصماتها على الحياة في تلك المنطقة، خاصة أن مناطق أخرى قريبة أو مجاورة لقطالونيا كانت تضم أزهى العصور العربية في الأندلس مثل مملكة " بلنسية التي تقع على حدود قطالونيا الجنوبية أو مملكة " نافارو " التي كانت تقع غرب قطالونيا.

كولومبس والرملة

ويبدأ شارع " الرملة " بميدان كولومبس أو " كولوم " كما يسمى باللغة القطالونية والميدان عبارة عن ساحة صغيرة بها تمثال للمكتشف العبقري على قاعدة أسطوانية الشكل يصل ارتفاعها إلى خمسين مترا وبها مصعد داخلي للصعود حتى جسم التمثال، ولكن التمثال يشير باتجاه الشرق، وكل تماثيل كولومبس في العالم تشير إلى اتجاه الغرب، أي إلى الطريق الذي يؤدي إلى أمريكا والذي سلكه في رحلته، ويعلق على هذا الفنان خافيير مارسكال مبدع رمز برشلونة للألعاب الأولمبية الكلب الظريف " كوبي " فيقول إن هذا التمثال هو دليل على سريالية المدينة، لأن كولومبس قرر أن يقف على قاعدة تمثاله القطالونية ويشير إلى الشرق موليا ظهره لكل اكتشافاته في الغرب. ولكن هناك تعليقا لأحد الظرفاء يقول إن كولومبس عندما اتجه إلى الشرق فهو يشير باتجاه الممالك الإيطالية خاصة مملكة " جنوة " يطلب منها العون لتنقذه من شعب إسبانيا وملوكها الذين أحبطو وكذبوا اكتشافاته العظيمة حتى أوصليه إلى حد الجنون، فمات وهو يعتقد أنه وصل إلى جزر الهند، أما اكتشافه لأمريكا فقد ظل أسطورة لا تصدق حتى سنوات طويلة بعد وفاته.

ومدخل " الرملة " في الطرف الذي يقف فيه تمثال كولومبس يطلق عليه اسم " باب السلام " ويمتد الشارع من باب السلام ليصب في ميدان قطالونيا باتجاه المدينة الحديثة.

لشارع الرملة وجهان، وجه في النهار وآخر في الليل وتجمع بينهما تضاريس لا تزول منها أكشاك الصحافة ومحلات طيور الزينة والزهور التي تفتح أبوابها للجمهور طوال أربع وعشرين ساعة، لذلك فهو نهارا شارع سياحي من الدرجة الأولى، مزدحم بشكل لافت للنظر خاصة يومي السبت والأحد، وبه سوق متنقل يبيع كل شيء وأي شيء، من الأحذية الرخيصة والساعات والأجهزة الإليكترونية المهربة من الميناء إلى الملابس التقليدية واللوحات الفنية المزيفة وإكسسوارات الزينة، إضافة إلى أنه مرسم مفتوح لبعض الفنانين الذين جاءوا من أركان الأرض الأربعة ليعرضوا فنونهم أمام الجمهور في الهواء الطلق. فالشارع به منطقة عريضة في المنتصف مرصوفة بشكل يسمح بحركة المارة بسهولة كبيرة، لأن الجانبين عبارة عن طريق صاعد للسيارات المتجهة إلى ميدان قطالونيا وآخر هابط للسيارات القادمة من الميدان إلى الميناء، والأشجار التي تحيط بالشارع طويلة جدا وتشكل مظلة خضراء ضخمة تغطي كل الشارع تقريبا. ومن المشاهد المألوفة في شارع الرملة أن نجد فتاة يابانية وهي تمارس رياضة الاسترخاء على أنغام كاسيت موسيقى، فيبدو جسدها وهو يتلوى على أنغام الموسيقى الانسيابية وكأنه قطعة من الصلصال الناعم الذي يتحول ويتشكل ببراعة فنية تمتع الأبصار، وتضع على الأرض علبة صغيرة تجمع فيها ما يلقيه المارة من قطع نقدية صغيرة إعجابا برشاقة جسدها وطراوته " رياضة وأكل عيش ".

وفي الليل يبرز وجه شارع الرملة المضيء بألوان أسماء الفنادق الفاخرة التي تطل عليه، وربما كانت أجمل واجهة على هذا الشارع هي لمسرح " الليسيو " الذي يعتبر المقر الرسمي لأوبرا قطالونيا وهو قطعة فنية معمارية رائعة، فعلى خشبته تغنت أجمل الأصوات في العالم، والليل في الرملة هو خليط من الموسيقى والغناء، سواء المنبعث من الحانات المطلة عليه، أو تلك الأغنيات التي تترنم بها جماعات الشباب التي تنتشي حتى الساعات الأولى من الصباح، لأن الشارع يستقبل كل القادمين من شوارعه الجانبية الضيقة ليقذف بهم باتجاه الميادين الرئيسية، أو يبتلعهم في جوفه من خلال فتحات محطات مترو الأنفاق الثلاث التي تخترق جسده العملاق.

متاحف المدينة

وإذا كان من حظ مدينة برشلونة أن تكون أما لعديد من أعظم الفنانين في العالم، فإنها تستحق هذه الأمومة، وتستحق أن تتفاخر على كل مدن العالم بأنها المدينة التي لا تنسى عباقرتها حتى لو كانت حياتهم فيها عابرة، فهي مدينة يرتبط اسمها بالفن والفنانين، وتبدو وكأنها متحف مفتوح على الهواء الطلق، وربما لا توجد مدينة أخرى يمكن أن تحتضن اثنين وعشرين متحفا فنيا مثل برشلونة، لذلك فإن التجوال فيها للاطلاع على متاحفها يعتبر رحلة منفصلة في حد ذاتها.

وأهم المتاحف الفنية في المدينة متحف " مؤسسة جوان ميرو " الذي أقيم على قمة جبل مونجويك الذي يحيط بالمدينة القديمة ويطل على البحر المتوسط، وربما كان هذا المتحف دليلا على مدى التحضر الذي تتمتع به قطالونيا، فهي تكرم عباقرتها وهم أحياء ولا تنتظر موتهم لتدللهم وهم في القبور كما يحدث في بلادنا العربية، فهذا المتحف أقيم عام 1975 وافتتحه الفنان جوان ميرو شخصيا في العاشر من يونيو 1975، وهو ليس متحفا خاصا بأعماله إذ يضم قاعات متعددة تعرض فنونا أخرى، وملحق به مدرسة للفنون المعاصرة، وكان ميرو معروفا بألوانه الحية التي تعكس سطوع شمس البحر المتوسط، وكان قطالونيا حتى النخاع، حتى إنه كان يرسل الخطابات القوية فى المؤسسات التي تصدر كتبا فنية وتضمه إلى قائمة الفنانين الإسبان، لأنه يعتبر نفسه قطالونيا قبل كل شيء. وهو القائل " إن أهم ما في قطالونيا أنها تحافظ على كرامة الإنسان وكرامة الفنان ".

وبرغم أن الفنان الإسباني العالمى بابلو بيكاسو ينتمي إلى ملقا بمنطقة الأندلس إلا أنه عاش فترة من حياته في برشلونة وله العديد من الأصدقاء هناك، ولذلك فقد أقامت له المدينة متحفا خاصا يعد من أهم المتاحف التي تضم أعمال بيكاسو التي تزيد على عدة مئات من جميع الأشكال الفنية التي مارسها، ومنها لوحة رسمها وهو في التاسعة من عمره، وهذه الأعمال كانت من المقتنيات الشخصية لصديقه القطالوني خايمي سايرتيس، إضافة إلى أكثر من 58 لوحة تبرع بها بيكاسو لهذا المتحف عام 1968 منها أعمال ليست له كلوحة " لاس منيناس " التي أبدعها الفنان الأشبيلي الشهير فيلاسكيت. وعدد من الأعمال التي استوحاها بيكاسو من هذه اللوحة.

مدينة غاودي

ولو تحدثنا عن أعمال فنان من أهم فناني قطالونيا المعاصرين وهو أنطونيو غاودي، فإن الحديث لا ينفصل عن المدينة نفسها، لأن أعماله معروضة في شوارع المدينة بأحيائها القديمة والمعاصرة، وكل ركن فيها ينطق باسم هذا المعماري والفنان العبقري لذلك فإنه يمكننا أن نقول إن متحف غاودي هو مدينة برشلونة، وأن مدينة برشلونة هي من إبدل غاودي. هذا العبقري الذي ولد عام 1852 ومات عام 1926 ترك بصماته واضحة على كل ركن من أركان المدينة، وما زالت أعماله تثير حوارا لا ينقطع بين الفنانين ومثقفي قطالونيا، وأكثر أعماله إثارة للجدل هي كنيسة العائلة المقدسة التي تركها غير مكتملة، وكلما حاول فنان معاصر استكمال ما تركه غاودي ثارت الدنيا عليه لأنه يحاول أن يضع بصماته الخاصة على المبنى الذي لا يمكن أن يكمله إلا غاودي نفسه، وكان الروائي الإسباني المعاصر خوان غويتوسولو قد خصص عنه برنامجا خاصا في التليفزيون استمر لساعة كاملة في سلسلة من الحلقات بعنوان " القبلة " وهي تتحدث عن الإسلام بجميع جوانبه، وكانت دهشتي كبيرة عندما شاهدت هذه الحلقة، فقد تعجبت في البداية أن يكون للفنان القطالوني غاودي علاقة خاصة بالدين الإسلامي، ولكن هذه الساعة التليفزيونية التي كتبها وعلق عليها غويتوسولو زادتني دهشة، فقد استطاع الروائي الكبير أن يكشف سرا غريبا، وهو أن غاودي استوحى عمارته من العمارة الإسلامية، بل والطبيعة الإسلامية، وعقد مقارنات بالصورة بين أشكال الجبال في أفغانستان وتلك الانحناءات الغريبة التي تسيطر على أعمال غاودي، فيبدو البناء وكأنه يأخذ شكل الحجر الطبيعي، لا الحجر الذي يخضع لمتطلبات البناء، ومن يشاهد حدائق مونجويك يكتشف هذه العلاقة بالإضافة إلى استخدامات فتحات التهوية والإضاءة المستوحاة من العمارة الإسلامية أيضا، والمآذن المشرعة إلى السماء التي حاول أن يقلدها في شكل بناء " العائلة المقدسة " ولكن جديد عبقرية الفنان في تلك التماثيل الصغيرة التي تغطي كل بوصة من البناء، فتبدو العمارة وكأنها مصممة لتكون أرضية للفن، ومن بعيد تبدو الكنيسة وكأنها قطعة منحوتة من جبل عملاق. ولم يستطع غاودي إكمال المبنى الذي بدأه وهو في الحادية والثلاثين من عمره، حتى أنه عام 1914 وكان قد بلغ الثانية والستين من عمره قرر أن يقيم في غرفة صغيرة داخل هذا البناء العملاق واستمر فيها حتى وفاته عام 1926، وظل مساعدوه يكملون بناء الكاتدرائية العجيبة التي تشكل قصة السيد المسيح بجميع مراحلها، ولكن الحرب الأهلية عام 1936 أدت إلى توقف العمل، ومازال حتى هذه اللحظة لم يكتمل. ويبلغ ارتفاع الأبراج التي تكون الكاتدرائية 45 مترا وتمتد على واجهة أمامية عرضها 110 أمتار.

وإذا كانت كاتدرائية العائلة المقدسة تعتبر أهم وأعظم إبداع للفنان أنطونيو غاودي، فإن أعماله المثيرة تتوزع في أحياء برشلونة المختلفة، وهي تلفت النظر بتكوينها الخشن الذي ينقل الطبيعة بكل نتوءاتها إلى المدينة الكبيرة والحديثة جدا. هناك " كاسا دي لا بيدريرا " أي البيت الحجري، بشكله الغريب في أحدث شوارع المدينة، وهناك روائعه في تصميم وتنفيذ حدائق القلعة القديمة، وبيت " بيثنس " الذي يشبه إلى حد كبير الموازييك الإسلامي، ومازالت برشلونة تحتفظ من المعرض العالمي الذي أقيم فيها عام 1929 فقط بالجناح الذي صممه غاودي والذي يطلق عليه اسم جناح " غويل ". وهناك مدرسة " تريسيانو " وقصر، غويل " وبيت " كالفيت " وبيت " باتلوو " ولم تكن يد غاودي العبقرية تصمم المبنى فقط، بل كانت تبدع النوافذ والأبواب والمساند والكراسي والموائد، كلها من إبداعه الخاص.

نجيب محفوظ في بيت كارمن

بعد وصولي إلى برشلونة اتصلت بصديق قديم عرفته في القاهرة عام 1983 ويعرفه كل المثقفين المصريين الذين كانوا يترددون على مقاهي ريش وزهرة البستان أو أتيليه القاهرة، فقد كان الصحفي الإسباني الشاب خورخي استيبا صديقا لعدد كبير منهم طوال السنوات الثلاث التي قضاها في مصر، تجول فيها شمالا وجنوبا وأقام في القاهرة عدة معارض فوتوغرافية لجولاته خاصة تلك الأيام التي قضاها في الواحات الغربية المصرية، وكتب عنه الناقد التشكيلي محمود بقشيش الذي أعجب بصوره وتعامل معها كلوحات فنية ذات طابع فريد في التقاط الواقع العادي وتحويله إلى عمل فني ناطق. دعاني خورخي إلى بيته الذي يطل على ميناء برشلونة في الحي القديم، ثم أخبرني أننا - هو وأنا - مدعوان للغداء في منزل بعض أصدقائه، وهناك وجدت مجموعة من المثقفين القطالونيين يكادون يمثلون جميع قطاعات المثقفين من الطبقة المتوسطة، صاحبة الدعوة كارمن مارتينيث ألسينت وهي مديرة دار نشر " الكور " التي كانت أول دار نشر إسبانية تنشر أعمال نجيب محفوظ والطيب صالح.

وعندما تشعب بنا الحديث إلى أمور حياتية يومية وهموم ثقافية إسبانية تختلف عن هموم المثقف العربي اليوم، أخذتني صاحبة الدعوة كارمن إلى مكتبة ضخمة في بيتها وأطلعتني على ركن خاص بالأدب لعربي، يضم أعمالا لعدد كبير من المؤلفين العرب وترجمات هذه الأعمال باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وحدثتني عن عشقها للأدب العربي بشكل خاص، لأنها تهتم بأدب ما يسمى بالعالم الثالث وترى أنه أدب أكثر إنسانية ويعكس هموم حياة تختلف عن هموم الإنسان الأوربي الذي تكاد تخنقه المدنية، فقد قرأت بالإنجليزية كل ما صدر عن آداب الهند واليابان والصين وبلاد جنوب شرق آسيا وإفريقيا.

وعندما سألتها عن سر وجود أعمال يوسف إدريس والقعيد وجمال الغيطاني وعدد آخر من الكتاب العرب باللغة العربية التي لا تجيدها، قالت " حقيقة أنني لا أجيد هذه اللغة، ولكني قرأت ما وجدته مترجما إلى الإنجليزية أو الفرنسية وحصلت على هذه الكتب باللغة العربية في أثناء زيارة لى إلى القاهرة " ثم أشارت إلى بعض الأعمال الصادرة باللغة الإسبانية لعدد من الكتاب العرب منها خمسة كتب لنجيب محفوظ، وقالت إن عائلتها تملك مع شركاء آخرين دارا للنشر اسمها " الكور " تعمل هي فيها أيضا، وقدمت قبل سنوات مشروعا لنشر بعض الأعمال المترجمة من الدول العربية في سلسلة خاصة، ورغم عدم الحماس الذي وجدته لدى الشركاء في الدار إلا أنهم أفسحوا لها المجال لتنفذ رغبتها ولكن بكثير من المضايقات، إلى أن دفعت إلى المطابع بترجمة رواية " زقاق المدق " لنجيب محفوظ، وبعد أن تمت الطباعة وتقرر توزيع النسخ إلى المكتبات عام 1988، حدث أن فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب قبل أسبوع واحد من توزيع النسخ المطبوعة من " زقاق المدق " وكانت ضربة حظ فإن الإعلان عن الجائزة سبق التوزيع بأسبوع واحد، فكانت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد، وقالت: " إنني لا أعتقد أن نجيب محفوظ احتفل بفوزه بجائزة نوبل كما احتفلنا هنا نحن بهذه الجائزة، لقد كان من أسعد أيام حياتي ذلك اليوم".

الجالية العربية

عدد الأجانب في مقاطعة قطالونيا حوالي نصف مليون شخص أكثرهم من أمريكا اللاتينية وشمال إفريقيا، وبشكل خاص من المغرب، وتكاد تكون الجالية المغربية هي أكبر الجاليات العربية وفي الوقت نفسه أقلها حضوراً، على الساحة القطالونية. فأكثر أفراد الجالية المغربية يعملون في الريف والأعمال الخدمية في المدينة ولا يمثلون ثقلا ماليا له وزنه، بل إن أكثر هؤلاء يتوارون عن الأنظار لافتقارهم إلى الإقامة الشرعية، وكثيرا ما تعرضوا لهجمات بعض المتطرفين وسقط من بينهم أكثر من ضحية في السنوات الخمس الأخيرة، وكانت قصة أحدهم ملهمة لأحد مخرجي السينما في برشلونة، فصنع منها فيلما بعنوان "الخطاب" نال عدة جوائز في مهرجانات سينمائية إسبانية، وهو يدافع عن حق هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين في الإقامة والعمل والحياة بكرامة في هذه البلاد، ويدين بعض ضعاف النفوس من أبناء قطالونيا الذين يستغلون حاجة هؤلاء إلى العمل والمال فيستخدمونهم بأجور بخسة.

وإن كان الاستثمار العربي في منطقة قطالونيا كبير فهو يرجع إلى أن مكتب الاستثمار الكويتي الذي يطلق عليه اسمKIO يملك استثمارات ضخمة جدا في الإقليم بالمقارنة مع الاستثمارات الأجنبية الأخرى، فآخر الإحصائيات التي حصلت عليها تعود إلى بداية عام 1990 أي قبل الغزو العراقي للكويت، وهي تشير إلى أن حجم الاستثمارات الكويتية يبلغ 45 ألف مليون دولار مستثمرة في مصانع الورق والسكر والكيماويات ومحطات الوقود والبنوك والعقارات والأسهم والسندات وبعض الأسهم في الصحف والمجلات ومحطات الإذاعة المحلية، ويعتبر ممثل مكتب الاستثمارات الكويتية خافيير دي لاروسا من أبرز الشخصيات الاقتصادية في كل إسبانيا.

وإن كانت الاستثمارات الكويتية تمثل الجانب المالي من الحضور العربي بينما يغيب الحضور البشري الكبير لأبناء المغرب، فإن بعض الشخصيات العربية التي تعمل بشكل مستقل استطاعت أن تجد لنفسها مكانا بارزا في هذا البحر الاقتصادي المعقد، فهناك لبنانيون وسوريون وفلسطينيون ومصريون يتمتعون بمكانة خاصة في هذه الحركة الاقتصادية ولكن على مستوى الأفراد، ولعل أبرزهم هو رجل الأعمال المصري محمد ريان سالم الذي يعرف في برشلونة وقطالونيا في مجال السياحة والعقارات، وهناك النشاط الاقتصادي الذي يمارسه بشكل فعال وحضور قوي خاصة في مجال السياحة إضافة إلى نشاطه الاجتماعي، فهو رئيس جمعية الصداقة المصرية الإسبانية، وأكد لي أكثر من مرة أنه حاول أن يلتقي بالجالية العربية المقيمة في برشلونة ولكن عقبة التشرذم وانعكاس السياسات العربية وأزماتها كانت تقف دائما أمام أي خطوة إيجابية في مجال جمع الشمل، إضافة إلى أن هناك العديد من العرب الذين يعملون في صمت ويرفضون ربط أعمالهم الاقتصادية بأي نشاط اجتماعي حتى لا تتأثر أعمالهم بتذبذبات الحياة السياسية العربية.

وفي أثناء تجوالي في مدينة. برشلونة تعرفت على فئة أخرى من أبناء الجالية العربية الذين يزاولون أنشطة معروفة بالنسبة لأبناء وطنهم الأصلي فهناك أشهر المطاعم العربية في برشلونة على الإطلاق وهو مطعم " باريس كوندال " اللبناني الذي يغص بالزبائن ويقدم أشهر المأكولات الشرقية التي عرف بها المطعم اللبناني، وأبناء قطالونيا يقبلون على أكلاته الشهية مثل التبولة والخبز الشامي والكباب والكفتة والمحشي. لكن مطعما آخر جذب انتباهي بشدة لغرابه اسمه " عمر وماريا " وهو مطعم متخصص في وجبة " الكسكسي "الجزائري، وصاحبه شاب جزائري خاض تجربة الغربة والهجرة من الوطن فتزوج من ماريا ابنة برشلونة وقررا معا أن يتركز نشاطهما في هذه الوجبة الشهيرة، فهو يحن إلى الوطن ويذكره بالكسكسي وهي تريد أن ترتبط بوطن زوجها، فترى نفسها أكثر اقترابا منه مع هذه الوجبة اللذيذة.

أمير بلا إمارة

قبل ذهابي إلى برشلونة كانت هناك شخصية إسبانية قطالونية فريدة تلح على ذهني، وحاولت أن أرتب لقاء مع هذه الشخصية إلا أن جهودي باءت بالفشل نظرا لتغيير رقم التليفون المدون على بطاقته التي قدمها لي عام 1986 في مؤتمر المستشرقين الإسبان الذي ترأسته الملكة صوفيا في مدريد في تلك الفترة. وكان لقائي بهذه الشخصية غريبا، فقد كنت أطالع قائمة المشاركين في المؤتمر وإذا بي أجد هذا الاسم " الأمير خوسيه ماريا بني موسى المستعرب بني قاسي " حاولت أن أفك رموز الاسم الغريبة لهذا الأمير المستشرق الذي يعمل عضوا في أكاديمية اللغة بقرطبة وصاحب الأمر والنهي في جماعة " موسى بني قاسي، وبينما كنت أحاول أن أستفسر من مسئولة الإعلام عن هذا الاسم أشارت إلى شخص في الستين من عمره أو يزيد قليلا لكنه ممتلئ بالنشاط والحيوية، وعندما وجدها تشير إليه اقترب فقدمتني إليه فقال بعربية فصيحة " السلام عليكم " ثم واصل بالإسبانية معتذرا " أنا لا أجيد اللغة العربية " وقدم لي بطاقته وطلب أن نلتقي بعد المؤتمر، والأفضل أن يكون لقاؤنا في بيته في الحي القديم ببرشلونة.

البيت زخارفه عربية فاخرة، والسجاد على الأرض نادرا ما يراه الإنسان في بيت غربي، رائحة البخور، الأواني النحاسية والفضية التي أعتقد أنها مستوردة من المغرب أو القاهرة أو دمشق، والشاي بالنعناع والستائر، ولكن كل هذا في داخل بيت لا يدل شكله الخارجي على أي شيء.

واتجه الأمير خوسيه ماريا إلى ركن من البيت به مكتبة متواضعة بها عدة مجلدات تلفت النظر بضخامتها، وسحب واحدا منها عن إسبانيا الإسلامية للمؤرخ الإسباني بيدال، وفتح صفحة عليها علامة واضحة وتحتفظ بخيط صغير ملون، وقال " انظر أنا سليل تلك العائلة. وهذه هي شجرة العائلة منذ الجد الأبر " قاسي " الذي كان حاكا على إمارة أراغون عندما وصل الفاتح العربي موسى بن نصير إلى إسبانيا، وإن الجد الأكبر انضم إلى القوات العربية الفاتحة عندما وصلت إلى مملكة سرقسطة وأعلن إسلامه بشرط أن يحتفظ بإمارته تحت التاج الأموي، وأرسل بأبنه "فرتون" إلى دمشق دليلا على ولائه وأن هذا الابن تزوج بعد ذلك من ابنة موسى بن نصير وأطلق على نفسه اسم " موسى الأول" تطلعت مدهوشا إلى شجرة كاملة لتلك العائلة لكنها تتوقف عند اسمين هما: أوردونيو وراميرو ابني ملك ليون الذي حكم تلك المملكة في الفترة ما بين 924 و 925 ميلادية أي عامين فقط، ولا توضح الشجرة العائلية بعد ذلك شيئا، فاستوضحته الأمر فقال إن هذه الشجرة العائلية منقولة من كتاب " المقتبس " لابن حيان وكتاب " جمهرة الأنساب " للفقيه الظاهري ابن حزم، وأشار لى أن باقي شجرة العائلة يأتي ذكره في كتب أخرى. لكنه لم يكشف عن هذه الكتب. وقدم لي ورقة مطبوعة بتاريخ العائلة تحمل خاتم وشعار جماعة " بني قاسي " تختتم بمقطع يقول إن هذه العائلة حكمت في منطقة شمال الأندلس لفترة خمسة ترون وتوسعت شمالا إلى حدود فرنسا وامتدت على الشاطئ المتوسطي حتى اقتربت من جنوب فالنسيا وطليطلة، وإن أهم ملوكها هو موسى ابن لوبي بن محمد الذي خرج من صلبه الأمير خوسيه ماريا المستعرب بني قاسي، صاحب الأمر والنهي على جماعة " موسى بني قاسى".

وطلبت منه أن يحدثني عن تلك الجماعة فقال " إنها تشبه إلى حد كبير فرسان مالطة المسيحية " وإنها تضم وجوه القوم في إسبانيا ومن بين أعضائها جنرال الحرس المدني الإسباني ايسابيلينو كاسيريس، وعدد كبير من حملة الألقاب من ماركيز ودوق وكوندى ورجال أعمال وسياسيين، وإنه تقام سنويا حفلة طقسية يتم فيها تعميد الأعضاء الجدد الذين يركبون في الانضمام، ولكن تفحص أوراقهم وشخصياتهم من قبل مجلس الجماعة برئاسة الأمير خوسيه ماريا، وأيضا لترفيع بعض الأعضاء، لأن العضوية درجات، والهدف الأساسي من هذه الجماعة هو الحفاظ على تقاليد الإمارة التي حكمت باسم الإسلام والعرب طوال خمسة قرون أبلت فيها بلاء حسنا، وقدمت للإسلام الخدمات الجليلة. وفي نهاية اللقاء زودني بصور له وهو في كامل حلة الإمارة وبعض صور حفلات التنصيب.

المدينة الأولمبية

إن التجوال في مدينة برشلونة يحتاج إلى وقت طويل، وأسرار المدينة لا تزال متخفية في أركانها، لكن ضيق الوقت لم يترك لي مجالا إلا للقيام بزيارة المدينة الأولمبية أو كما يطلقون عليها " الحلقة الأولمبية " أو " الخاتم الأولمبي " وهو تعبير عن ارتباط شبه مقدس بين المدينة والتاريخ الأولمبي، وحاول منظمو الألعاب الأولمبية الإيحاء إلى مثل هذا الارتباط فركزوا على أن هناك حفريات تدل على أن المدينة شهدت ألعابا أولمبية في فترة ما قبل الميلاد، لذلك كان من المحتم علينا أن نقوم بزيارة إلى المعرض الدائم الذي أقامته اللجنة الأولمبية في قاعات ضخمة تم إنشاؤها خصيصا لهذا الغرض وهي تقع أسفل مدرجات الملعب الرياضي الأولمبي في مرتفعات مونجويك، وهو الملعب ذاته الذي أقيم في برشلونة عام 1929 بمناسبة المعرض العالمي الذي أقيم فيها، ولكن تمت إزالته بالكامل عدا الواجهة الأمامية التي ظلت تحمل تلك اللحظة السحرية التاريخية التي تفخر بها برشلونة، وتم تجديد باقي أجزاء الملعب ليكون لائقا بمراسيم الافتتاح وحفل الختام، وسوف يشهد أيضا إقامة أبرز مسابقات ألعاب الجمباز، وتكون به نقطة النهاية في سباقات الجري والسير للمسافات الطويلة.

كنا عشرة صحفيين من دول مختلفة تكاد تغطي قارات الكرة الأرضية الخمس. وفي بداية زيارتنا التقينا برئيس اللجنة الأولمبية الإسبانية كارلوس فيرير سالات الرياضي القديم وأبرز رجال الأولمبياد في قطالونيا، فحدثنا عن تفاؤله وأنه يتوقع أن تكون هذه الدورة من أنجح الدورات الأولمبية في التاريخ، فهي تشهد أكبر عدد من الدول المشاركة، وأول دورة بعد سقوط جدار برلين وأول دورة تشهد عودة جنوب إفريقيا إلى الألعاب الأولمبية، وأكد أن ما يقلق لجنته الآن هو الأرقام القياسية التي سيتم تحطيمها وعدد الميداليات التي سيحصل عليها لاعبو إسبانيا في هذه الدورة.

بعد ذلك تحركنا بصحبة مضيفة أولمبية لنتفقد المعرض الذي غص بتلاميذ في عمر الزهور ومئات من تلاميذ المدارس، وبعض الأفواج السياحية المدرسية القادمة من فرنسا لمشاهدة المعرض الأولمبي، فقد خصصت الحكومة المحلية في قطالونيا يوما دراسيا للتلاميذ للتعرف على الأعمال الأولمبية في محاولة لتقريب الحدث اليومي إلى تلاميذ المدارس.

وأبرز الأعمال الإنشائية استعدادا للألعاب الأولمبية توسيع الملعب الأولمبي ليتسع لعدد 65 ألف متفرج، وأمامه مباشرة أقيم أحدث قصر رياضي صممه المعماري الياباني آراتا ايسوزاكي ليضم ألعاب الجمباز وكرة اليد والطائرة والسلة ويطلق على القصر اسم "سان جوردي " ويعتبر قطعة فنية معمارية من أحدث المباني في العالم، فالملعب الذي يضم 15 ألف مقعد يمكن استخدامه كملعب وأيضا كمسرح وصالة استعراضية ومغطى بالكامل بسقف بدون أعمدة، ولكنه مشدود إلى الجوانب وله شبابيك تسمح بدخول الضوء الطبيعي ولكن لا تسمح لأشعة الشمس بالنفاذ حتى لا تنعكس على أرضية الملعب، ويضم السقف أكثر من مليون قطعة معدنية وتم تصميمه وتنفيذه بالكمبيوتر، ويرتفع السقف إلى 45 مترا ليسمح لحركة الكرة بالانطلاق دون أن تصطدم بالسقف، وفي جوانبه عدة شاشات تليفزيونية تمكن المشاهدين من متابعة المسابقات الأخرى التي تجرى في ملاعب أخرى وأيضا شاشة متحركة لنقل أهم النتائج التي تجري في تلك المسابقات.

ثم انتقلنا بعد ذلك إلى ملعب نادي برشلونة " النوكامب " الذي يعتبر أكبر ستاد رياضي في أوربا وهو يتسع لعدد 118 ألف متفرج وتقرر أن تجرى عليه بعض التصفيات في مباريات كرة القدم، ولكنه مخصص لإقامة المباراة النهائية على الميدالية الذهبية في كرة القدم. ثم بعد ذلك كانت زيارتنا لمنطقة وادي " هيبرون " الذي يضم ملعبا مخصصا لمسابقات الدراجات وبعض ألعاب القوى، وحمامات السباحة.

حديث الأرقام

ثم هبطنا من مرتفعات مونجويك باتجاه الميناء الرياضي الجديد الذي أقيم خصيصا لمسابقات التجديف والمراكب الشراعية وعلى الشاطئ المقابل له أقيمت ثمانية آلاف شقة صغيرة لإقامة لاعبي الفرق المشاركة في المسابقات، ومن أجل إقامة هذه المنطقة تمت إزالة منطقة " برشلونينا " التي كانت تضم أشهر مطاعم الأسماك حتى وقت قريب، ولكن إصرار اللجنة الأولمبية على أن تجرى ألعاب الماء والمراكب الشراعية والتجديف في المدينة الأولمبية لأول مرة في التاريخ أدى إلى إزالة هذا الحي القديم وإقامة الميناء الرياضي.

ومن أطرف المنشآت التي شاهدناها برج الاتصالات الإذاعية الذي أقيم إلى جوار قصر سان جوردي وصممه الفنان سانتياغو كالاترابا على هيئة بطل رياضي ينحني لتلقي الميدالية التي فاز بها، وهذا البرج سيكون مكملا لبرج الاتصالات العملاق الذي أقيم على قمة جبل " كولتيرولا " التي تعتبر أعلى قمة مطلة على المدينة الأولمبية، وتم تسجيل هذا البرج في موسوعة الأرقام القياسية " جينس " فارتفاعه يبلغ 268 مترا، ويعتبر بذلك أكبر برج اتصالات في العالم، وفي أعياد الميلاد الأخيرة تم تزيينه بالأضواء الملونة ليمثل أضخم شجرة عيد ميلاد في العالم، وأمكن مشاهدته من بعيد وقيل إنه تم رصده على بعد عشرات الكيلو مترات.

وفي آخر الجولة وقف بيننا مسئول الإعلام في اللجنة الأولمبية ليردد على مسامعنا حديث الأرقام الذي يعشقه الإسبان دائما. وحديث الأرقام يقول إن هذه أول دورة يشارك فيها عشرة آلاف رياضي يتبارون في ثمانية وعشرين نوعا من الألعاب الرياضية بعد الاعتراف برياضة التنس كلعبة أولمبية وعدد آخر من الرياضات التي تم الاعتراف بها كألعاب أولمبية. وهؤلاء الرياضيون يمثلون 172 دولة بعد إعلان اشتراك الجمهوريات السوفييتية السابقة بشكل - مستقل، وسيتم نقل الدورة على الهواء مباشرة عبر 2400 قناة تليفزيونية يتوقع أن يشاهدها 3500 مليون مشاهد، وسوف تبلغ عدد ساعات الإرسال المباشر 150 ساعة، تحصل اللجنة المنظمة نظيرها على 550 مليون دولار، إضافة إلى ستة ملايين دولار نظير الإعلانات، بينما تبلغ حصيلة التذاكر المتوقع بيعها 11 مليون دولار، وسوف يستهلك المشاركون والمنظمون عدد 2021300 وجبة غذائية، أما عدد الخطوط الهاتفية التي من المتوقع استخدامها لنقل الأحداث فإنها ستزيد على 65 ألف خط، بينما يتولى 15 ألف رجل أمن حماية المنشآت الرياضية والمدنية. وآخر وأطرف الأرقام أن السيارات الخاصة بنقل المشاركين والمنظمين والإداريين.. سوف تستهلك مليونا وستمائة وسبعة آلاف لتر من مختلف أنواع الوقود وتقطع سبعة ملايين وثلاثمائة وخمسة وأربعين ألف كيلو متر في تنقلاتها.