مساحة ود

مساحة ود

السـور

"عشرة ، عشرين ، ثلاثين ، أربعين..خمسي... " ! على أصابع يديها الصغيرتين ، وبعض وريقات زهور وأشجار الحديقة ، أخذت تحصي ، بذعر ، سنوات عمر أبيها !

نظرت إلى الأوراق التي اقتطفتها ووضعتها جنبا إلى جنب في صفوف ، ثم أضافت إليها أصابع كفيها المفتوحتين عن آخرهما فوجدتها كثيرة.. كثيرة :

"ياااه يا ماما.. بابا كبير؟!"

كانت قد عرفت سنه لتوها ، فقررت أن ترى بنفسها عدد الأشياء التي تساويه... لاحقت الوريقات الملونة ، خضراء وحمراء وصفراء ، وهي تتطاير وتهرب إلى أعلى مع نسائم الرياح الخريفية كأنها تختصر بعض هذه السنوات الخائلة التي أصابتها بدهشة خالطها الخوف.

توقفت عن مطاردة الأوراق ، واكتفت بما تبقى منها مستقرا حيث وضعته ثم بدأت العد من جديد ، وعندما انتهت كانت أسارير وجهها البريء أكثر ارتياحا : "أربعين" !

التقطت حصاة ملقاة على الأرض وحفرت بها على سور الحديقة:

"بابا عمره أربعين.. والله العظيم "! ثم ابتعدت قليلا إلى الخلف وراحت تتأمل الرقم المحفور كأنه وثيقة... حقيقية!! وتردد لنفسها : "والله العظيم.. والله العظيم"!

بين الحين والآخر ، كانت تختبر قدراته المعتادة على حملها "وأرجحتها " عاليا في الهواء.. وعندما يفعل ذلك ، تطمئن وتهرع إلى السور لتستمد الأمان من الرقم والقسم !

وعندما استطال عودها ، وبرر لها عدم قدرته على تكرار اللعبة لأنها أصبحت "بنوتة" جميلة لا يصح أن يداعبها كالصغار ، كانت تنحط على ركبتيه وهو جالس ، دون أن تكترث بصيحات أمها أو انتقادات الأقارب والزائرين ، وذلك في اختبار من نوع آخر لقدراته على حملها وتحملها ، ثم تجري نحو السور فتسكن أي بوادر ذعر قديم قد يداهمها.

صارت ترفع ذراعها فتلمس قمة السور بسهولة ، دون أن تشب على أطراف قدميها.

ثم فيما بعد ، تمكنت بقامة منتصبة فارعة ، أن ترصد الطريق الذي كان السور المتواضع مانعا بريئا بينه وبين الحديقة المنزلية الصغيرة.

.... انخفضت السطور.. ولكنها ظلت متعلقة بالجملة والرقم والقسم المحفور !

وحينما تزوجت ، كان الاختيار مذهلا : صورة إنسانية مكررة من ذلك الكيان الحنون.. وقار عمر أبيها (في طفولتها).. عطاؤه.. احتواؤه... لقد اقتنصت بهذا الزوج لحظة اختلسها الزمن من عمر أبيها حين غافله بالأبوة في سن متأخرة.

كان السور -ولا يزال- قائما ، والحفر الغائر بخط طفولي متعرج قابعا أسفله ، وعندما انحنت تلامس بأنامل حانية حروف الجملة التي تراصت في غير انتظام ، وصلت إلى القسم ورددت :

"والله العظيم.. والله العظيم".

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات