تحوّلات البنية والدلالة في رواية (وقائع موت معلن)

تحوّلات البنية والدلالة في رواية (وقائع موت معلن)

من الرواية إلى المسرح فالسينما

يشكّل عالم الرواية كإبداع فني واقعاً خاصاً به, قد يتشابه مع الواقع اليومي, لكنه يتجاوزه لماهو أشمل وأعمق وأكثر فلسفة, ومن ثم يتداخل في العمل الروائي الجزئي بالكلي, والخاص بالعام, والمحلي بالكوني, والبيئي بالإنساني.

بينما تتمثل الرواية واقعها معبّرة عنه بمنظومتها اللغوية الخاصة, تتوجه للعام والخاص معاً, للقائم على أرضها, وللعائش في أراض أخرى وأزمنة مغايرة, ومن ثم كان من الطبيعي إذن أن نقرأ نحن, في عالمنا العربي, (مائة عام من العزلة) لجارثيا ماركيز, أو (بدرو بارامو) لخوان رولفو دون أي صعوبة في تلقي هذه الروايات, رغم أنها كتبت بأجواء أمريكا اللاتينية الخاصة, ذلك العالم المغرق جغرافيا بعدا عنا, بل وأن نستلهم نحن بعض أقاصيصهم مثلما حدث أخيراً بإعداد قصة (الرجل الذي مات مرتين) لخورخي أمادو للسينما المصرية, في فيلم (جنة الشياطين) للسيناريست مصطفى ذكري وإخراج أسامة فوزي, وقبلها قام الكاتب السوري الكبير سعد الله ونوس بإعادة كتابة نص (القصة المزدوجة للدكتور بالمى) للإسباني بويرو باييخو في مسرحية عربية باسم (اغتصاب) 1989م, وبالمقابل قامت السيناريست المكسيكية باث اليثيا جارثيا دييجوPaz Alicia Garciadiego بكتابة سيناريو لرواية نجيب محفوظ (بدايةونهاية) لفيلم مكسيكي من إخراج أرتورو ريبستين Arturo Ripstein 1993م, وكذلك سيناريو لرواية محفوظ الأخرى (زقاق المدق) والمعروفة بالإسبانية باسم (زقاق المعجزات) في فيلم للمخرج المكسيكي أيضاً خورخي فونس 1995م, وعرض بأسماء الروايات المصرية.

أي أن كلا من المصري والسوري والمكسيكية قد قاموا بعملية (تمصير) و (تعريب) و (مكسكة) المادة الأصلية, وأعادوا صياغة بنائها الفني بعد إخضاعه لبنية فنية مغايرة, مما يعني أن ثمة تحوّلات قد طرأت على البناء الفني والرموز المستخدمة, تؤدي بالضرورة إلى تغيرات في الدلالات الأصلية, وتتطلب من المتلقي استخدام أدوات أخرى لفك مغاليق شفرة الدلالات الجديدة واستيعابها, فالقضية ليست مجرد قصة أو حدوتة قابلة للحكي والصب في أي آنية, وإنما ثمة عالم بنائي كامل له وجود مستقل عن الواقع, لحظة خروجه للنور, وإن لم ينفصل عن هذا الواقع الذي يشحنه برموزه, والذي لا يمكن فهمه دون استيعاب دلالات هذه الرموز, فالماء له دلالة عامة مشتركة بين كل البشر, غير أن ماء النيل - مثلاً - مشحون بدلالات خاصة لدى المصريين, ولذا أنهى نجيب محفوظ روايته (بداية ونهاية) وبطلته (نفيسة) تنتحر بإلقاء نفسها في نهر النيل وأقدم (حسنين) الأخ الضابط على الانتحار (سقوطا) في النهر الخالد, تأكيداً لسقوطه الأخلاقي والاجتماعي معاً, بينما دفع الفيلم المكسيكي المأخوذ عن ذات الرواية بطلته للانتحار بإلقاء نفسها في طريق المترو, ولما تعثر تنفيذ ذلك لاعتراض الرقابة المجتمعية على هذا المشهد, بسبب تعدد حوادث الانتحار في العاصمة المكسيكية بهذه الطريقة, قرر الفيلم أن يقتل فتاته بين المرايا المتقابلة بالحجرة المغلقة التي كانت تمارس داخلها بيع جسدها, ودفع أخاها للانتحار بقطع شرايين يده بالموسي بعد أن (صعد) لأعلى نقطة بيت الرذيلة وأكثرها ظلمة, كشفا للظلمة التي آل إليها البطل نتيجة لرغبته المجنونة في الصعود الطبقي بمفرده, وشتان بين الدلالتين لفكرة الموت الواحدة, حيث تستمد طريقة الموت في كل من الرواية المصرية والفيلم المكسيكي دلالتها الخاصة من سياق العمل وبنيته الدرامية الخاصة, ومن العقل الجمعي المجتمعي للمتلقى وميراثه الثقافي الخاص.

يعني ذلك أن ثمة علاقة وثيقة بين البناء الخاص للعمل الفني ورموزه المشحون بها, والبناء الخاص للمجتمع الذي ينطلق منه ويتوجه إليه ورموزه الخاصة, وهو بناء غير مغلق على ذاته, مثلما البناء الفني ليس وجودا منغلقاً على نفسه, وإنما كل منهما - الفن والمجتمع - منفتحان على عوالم مفتوحة وأزمنة متغيرة, ففي الأزمنة الإقطاعية والأوتوقراطية المغلقة القديمة, أحكم الفنان بناء حبكة عمله الفني داخل وحدة مغلقة ذات بداية ونهاية وحركة ممتدة للأمام دون ارتداد للخلف أبداً, ناشداً من خلال عمله هذا إحكام قبضة الواقع على مسير ومصير إنسانه, والتنفيس عن مشاعر الغضب داخله, وتطهيره من نوازع التمرّد ضد سلطة أصحاب القرار والمفروض باسم القوانين الإلهية, ووعظه بمسلمة عدم الخروج على مقدرات الآلهة وسلطات الخلفاء النبلاء على الأرض, بينما سعى البناء الفني في العصور الحديثة للكشف عن التفتت القائم اليوم في الكون, لكن دون أن يفقد وحدته الداخلية التي تمنحه حق الحياة, فما هو مبعثر في الحياة يظل مبعثراً حتى يأتي الفن ليعيد صياغته في كل محكم, فيعبّر عن التشظي والعبث الذي يبدو مجانياً في الحياة اليومية, في بنية فنية ذات أسس علية, فلا واقعة مجانية, ولا قول شارد, ولا شخصية عابرة, وذلك لأن من أهم أدوار الفن في الحياة منحها المعنى وعقلنة سيرورتها, ومن ثم فإن التنافر اللامنطقي البادي في الواقع يكسبه الفن طابعاً جدلياً, يمنح المتلقي الدلالة من صراع الأضداد, لا من موعظة الختام المباشرة.

قرية منغلقة

تدور وقائع رواية (وقائع موت معلن) للأديب الكولومبي (جابريل جارثيا ماركيز) (نوبل 1882) داخل بنية محكمة البناء, ساحتها قرية منغلقة على ذاتها, رغم وجودها على شاطئ بحر منفتح الفضاء, لكنه يشكل في ذات الوقت حاجزا بين القرية والعالم الخارجي, فقد انقطع التواصل مع الآخرين بتوقف وصول السفن منذ عقود خلت, وحتى اسقف المنطقة يكتفي مع بداية الرواية بالمرور بمركبه بحرا دون الهبوط لأرض القرية, وتعلن أم بطل روايتنا (إنه يكره هذه القرية). ونتيجة لقطيعة القرية مع حركة الواقع والتاريخ خارجها, صارت التقاليد الاجتماعية تحكمها بشكل أسطوري يجعل من العرف قانوناً غيبياً لا فكاك من الانصياع له, ويبدو عالم القرية وكأنه يسير بلا منطق, فالموت يحلق في الطرقات كطائر رخ سحري, والقتل دفاعاً عن الشرف المسفوح هو المحرك للحدث الروائي, فقد قرر الإخوان التوأم (بدرو) و (بابلو بيكاريو) قتل الفتى الثري (سانتياجو نصار) لسفحه لعرض اختهما (أنخيلا), والتي ادّعت ذلك ليلة زفافها, حماية للفاعل الأساسي لجرم فقدان العذرية, والرواية لا تشير لنا أبداً لهذا الفاعل الحقيقي لجرم انتهاك العذرية خارج الأعراف القائمة في (القرية), فذلك ليس هو همّها الأول, وإنما هي تحاول البحث عن الأسباب الحقيقية الكامنة خلف فعل الاغتيال الدموي لفتى لا علاقة له به, وتتبنى في الظاهر موقفاً موضوعياً, تمنح فيه الجميع حق التعبير عن (وجهات نظرهم) المتعددة لهذا الموت المعلن, ومن تجاور وتداخل وتشابك (وجهات النظر) هذه, تتجلى الحقيقة التي لا تود الرواية أن تعلن عنها صراحة, فهي تنطلق من السرد بلسان الراوي أو السارد العائد من غربة طويلة خارج قريته, امتدت لنحو سبعة وعشرين عاماً, فساعدته على الانفصال النفسي والعقلي من أعراف القرية وتقاليدها الراسخة, فعاد - كما يصرّح - (إلى هذه القرية المنسية محاولاً إعادة إصلاح مرآة الذاكرة المهشّمة بالعديد من الشظايا المتناثرة), بهدف فهم وإدراك حقيقة ما حدث ذات يوم في قريته هذه, وشهده كالجميع, دون أن يدرك أبعاده الكاملة زمن حدوثه, خاصة أنه كان صديقاً للمقتول (سانتياجو), وأمه - أي أم السارد - كانت الإشبينة له, ومن اسمها (لويسا سانتياجا) أخذ اسمه, كما كانت الأم نفسها تمتّ بصلة قربة لقتلة (سانتياجو), ورغم قرابته هذه, وحضوره الفعلي لواقعة الاغتيال, فإنه لم يدرك وقتها الأسباب الحقيقية الكامنة وراء فعل القتل, ووراء إعلانه المسبق دون حذر, ووراء عجز قرية بأكملها عن حماية ابن من أبنائها من موت معلن عنه سلفاً.

جهد عقلي

ومع تأجيل النظر في زمن التلقي للرواية (زمن القراءة) ومجتمع المتلقي الخاص, واللذين يؤثران بالضرورة على عملية التلقي وفك شفرة الكتابة والجدل القائم طوال هذه العملية بين المحتوى الدلالي للرواية وثقافة المتلقي ووضعيته الاجتماعية - وهو ما سنتوقف عنده فيما بعد - فإن منطق البناء الروائي الداخلي يعتمد على ذلك الجهد العقلي الذي يقوم به السارد غير الغريب عن المكان والحادث لتجميع ذكرياته هو وذكريات الآخرين عن حدث وقع في الماضي, وهي ذكريات متشظية تخضع بالضرورة لعامل الزمن الذي يؤثر بالسلب عليها لانتقاصه أو تشويهه لبعض تفاصيل ما حدث, بحكم عامل النسيان, كما يؤثر في ذات الوقت بالإيجاب على ذلك الحدث وتفاصيله اليومية الدقيقة حيث يمنح البعد الزمني للمتذكر حرية الحكم غير المنفعل عليه, مما يعطي الحدث بعض تقييمه الموضوعي, وعلى ذلك تأخذ الرواية منهج التحقيق الصحفي السينمائي المتحرك على الزمن الحاضر (حاضر السارد والمتحاورين معه) والزمن الماضي (زمن التذكر) وهو بدوره ينقسم إلى زمنين رئيسيين هما: زمن حدوث واقعة القتل, ويمتد من فجر يوم الاثنين, وقد قرر وأعلن الاخوان التوأم (بيكاريو) للقرية بأكملها عزمهما على قتل (سانتياجو نصار), ويتقدم هذا اليوم ببطء شديد حتى إتمام عملية القتل البشعة في نحو الثامنة من صباح اليوم نفسه, أي ما يقارب الساعات الخمس, بينما يتراجع الزمن الماضي الآخر من اليوم السابق ليوم القتل حتى وصول (إبراهيم نصار), والد (سانتياجو) مع آخر فلول العرب إلى القرية (المنسية) المنغلقة على نفسها, قبل الحادثة بنحو ثلاثة عقود, فأحدث وجودهم تنافراً عرقياً واجتماعياً مع السكان الأصليين, زاد الثراء الذي وصل إليه (نصار) الأب في القرية, وعاش بفضله وبجهده عيشة مميزة نوعاً ما, من حدة التنافر بين الأسرة العربية الثرية ثراء نسبياً وبقية أهل القرية الفقراء, كما عمّق من هذا التنافر تلك (الغطرسة) التي تبدو على مسلك (سانتياجو نصار) في علاقته بأهل القرية, وتعامله مع الخادمات السود ببيته على أساس كونهن متاعاً له, مثلما كان يفعل أبوه, فضلاً عن استعلائه على الكثيرات من بنات القرية, مما شكّل عداء كامناً بين القرية و (سانتياجو) كان يتبدّى في حرص الأخير على الاحتفاظ بمسدسه محشوّاً تحت وسادة نومه, كما انعكس بدوره على قرار القرية بأكملها بعدم التدخل لوقف المذبحة المقرر تنفيذها, واكتفاء البعض المقرّب له منهم بإرسال الخطابات والمراسيل, دون البوح مباشرة لسانتياجو بما تقرر, حتى قبيل الجريمة بدقائق قليلة, حينما صرّحت له خطيبته ذات الأصل العربي (فلورا) ابنة صديق أبيه القديم (ناهر ميجيل), بعد أن علمت بنية قتل التوأم بيكاريو له, بسبب اعتدائه على شرف أختهما, ودون سؤاله عن حقيقة ما حدث تقذفه بصندوق خطاباته لها, مع خبر الموت الذي يعرفه الجميع عداه هو.

إنها قرية ظالمة وقفت يوما صامتة أمام جريمة اغتيال معلن عنها سلفاً, والرواية تعيد بناء الواقعة القديمة بالشكل الذي تتصور أنه حدثت به, فتعيد معها بناء ذلك الزمن البعيد الذي حدثت فيه الواقعة, في العقد الثالث أو الرابع من القرن العشرين, هي إذن واقعة وثيقة الصلة بالزمن الذي حدثت فيه, كما أنها وثيقة الصلة بالمكان الذي وقعت في أعطافه, وهي بالتالي وثيقة الصلة بالبشر الذين شهدوا وقوعها, أي أن الواقعة لا يمكن حدوثها, ولا يمكن تفسير أسبابها إلا في ظل الأطر الاجتماعية والثقافية للمجتمع التي وقعت داخلها, فسانتياجو نصار هو ابن هذه المجموعة من العرب التي أتت إلى هذه القرية الكاريبية, وشكلت جالية موحدة تتزاوج فيما بينها, واشتهرت بالاجتهاد في العمل, والتمسك بكاثوليكيتها, ورغم أن الجيل الثالث في الرواية قد أضحى يحمل أسماء تنتمي لعالم أمريكا الهسبانية, وبات يتكلم الإسبانية (القشتالية), ويعيش حياة أهل البلاد المقيم إقامة دائمة بها, يعيشها بهدوء وسلام, إلى الدرجة التي لم يفكر أحد من هذه الجالية العربية في الوقوف الجدي إلى جوار (سانتياجو نصار) قبيل اغتياله, ولم يتحرك أحد منهم للانتقام له عقب موته, رغم أن القاتلين في سجنهما كانا يعيشان حالة من الهلع من أن يأخذ العرب ثأر ابنهم المقتول غيلة ودون جريرة, إلا أن وضع المغترب الذي عاشه ويعيشه العرب في تلك البلاد البعيدة, وسط أجواء نفسية يلتف فيها العرق حول ذاته, ويحدد خصوصيته الثقافية بالعودة لجذوره الممتدة إلى ما قبل وصول الغازي الأوربي مع نهايات القرن الخامس عشر لأراضيه, وسحقه للعرق والثقافة الخاصة لإنسان هذه البلاد, خاصة أن العربي الذي دخل البلاد أوائل القرن الماضي, لم يحمل معه بندقيته الشرسة ولا حصان طروادة القوي اللذين فتح بهما الغازي الأوربي تلك البلاد, والتي لم تكن قد عرفت بعد عنهما شيئاً, واعتبرتهما من أحابيل الشيطان (الأبيض), وإنما كل ما حمله العرب معهم إلى تلك البلاد هو رغبة في العيش الكريم والحياة المسالمة ببلاد جديدة عليهم, (بحيث أنه لم يكن متصوّراً (كما يؤكد السارد لروايتنا هذه) أن يقوموا فجأة بتغيير روحهم الرعوية للقصاص لموت يتحمل الكل مسئوليته), وحتى صديق الأسرة ومستشارها العربي (جميل شائيوم) (أو شقيوم) والذي عرف بنية القتلة, تردد في تنبيه (سانتياجو) عندما مر بمحله, وأثر أن يخبر صديقه (كريستو بيدويا), بحجة انه (ظن انه إذا ما كانت الشائعة غير صحيحة, فإنه سيسبب له قلقا دون جدوى), كما أن خطيبته ذات الأصل العربي, والوحيدة التي أعلمته بخبر قتله, عندما ذهب هو إليها, ردّت له غاضبة خطاباته لها, متمنية موته (هاهي خطاباتك - قالت له - ويا ليتهم يقتلونك). فرغم أن الانتماء العرقي وعلاقة الخطوبة تربطها أكثر بسانتياجو نصار, فإنها تخضع للتقاليد الاجتماعية والموروث الثقافي المهيمنين على القرية, واللذين يجعلان من الثأر للشرف المسفوح حقا تؤازره الأغلبية, ويلتقي في الوقت ذاته مع تقاليدها العربية.

مجتمع مغاير

بهذه البنية الروائية الدائرة حول واقعة محددة المعالم, متشابكة العلاقات, متداخلة الأزمنة, متوافقة الصياغة مع هدفها الغائي, تكشف الرواية الريبورتاجية عن محتواها الدلالي لمتلقيها لحظة خروجها من المطابع عام 1981, ولحظة قراءتها في زمن لاحق ومجتمع مغاير, للتعرف عليها أو لإعادة صياغتها في إطار جنس فني آخر, مما يستلزم فكّا خاصاً لشفرات النص الروائي وتفسير علاماته وفقاً لرؤية المتصدي لهذا الفعل الثقافية, ثم إعادة بناء أو تركيب المعاني المستخرجة والملتقطة من النص الأصلي في بنية درامية ذات خصائص متفقة ومختلفة مع البنية الروائية مثل البنية المسرحية والبنية السينمائية.

ولقد وقف المعد والمخرج المسرحي الأسباني الأندلسي (سلبادور تابورا) أمام رواية (الوقائع...) قارئا رموزها عام 1990 وفق معطيات واقعه وزمنه الخاص, ومحاولا البحث عن (المشترك) بين العالمين: الكولومبي والأندلسي, بغرض صياغة دلالات العرض المسرحي بالشكل الذي يوصل دلالات العمل الأصلي لمتلقي قادر على استيعاب هذه الدلالات وفقاً لقاموسه الخاص, فوجد في التاريخ واللغة المشتركين بين شعوب أمريكا الهسبانية والأسبانية, ما قد رسخ خلال القرون الخمسة الأخيرة مجموعة من الرموز المشتركة, والمتبدية في اللغة المتدفقة والرقص الساخن والعاطفة المتأججة والغناء العميق, والتمسك بحد السكين بمفهوم الشرف المتمحور حول أهمية الحفاظ على العذرية, في ظل مجتمع ذكوري له تقاليده التي يحافظ بها على تماسكه الداخلي, ومن ثم راح يعيد بناء رواية ماركيز في بنية مسرحية تعتمد على ما هو مسموع ومرئي لخلق حالة شعورية, يتجلى فيها الواقع وكأنه كابوس ضاغط على الأنفاس, ويعلو فيه الشعري على المادي.

ينطلق العـرض المسرحـي, الذي قـدمـته فرقة (لا كوادرا) المسرحية, من إعداد وإخراج وسينوجرافيا وموسيقى المخرج الأندلسي (سلبادور تابورا), ينطلق من فكرة (الموت) ذاتها, من ذلك الوجود القافز في أركان القرية معلناً عن ذاته منتظراً لحظة الوثوب على الفريسة دون خشية من أحد, مستغلاً فضاء المسرح اللامتناهي بأضوائه المختلفة, ليؤسس على أرضيته هرماً ضخماً رباعي الأضلاع, يعمّق وجوده داخل دائرة الزمن, فتتحطم رأسه الممتدة, متحوّلة إلى مسطح يصعد إليه من ضلعي المثلث المتقابلين الراغبين في الانفلات من ربقة تقاليد الواقع, فيكتشفون على القمة أنهم مازالوا بعد مقيّدين نفسياً بها, بينما يمثل الضلعان الآخران للمثلث الصاعد الوجود المقابل والمتصل بين الحياة والدين, ويتخلق للفتى (سانتياجو) ظل يطارده وسط قرية يرتدي ناسها الأقنعة, فقد تحوّلوا جميعاً لوجود كلي نمطي التكوين, يعرف أن ثمة موتا قادما, وعرف فاعله والمفعول به, وينتظر لحظة الفعل كحدث جلل يشاهدها عن كثب.

يصوغ العرض المسرحي أحداث الرواية بترتيب كرونولوجي جديد, فيتم إعادة ترتيب الأحداث بشكل مغاير, فبدلاً من وجود الراوي سارد الوقائع, والصعب تحقيقه مسرحياً بشكل يقطع حركة الحدث الدرامي, دون تزامن معها, يبرز القس (أمادور) ليشرح بالكنيسة جريمة القتل, ويمنح البركة للأبرياء, وتطير حمامة وسط ترتيلة الموت, ويتقافز الأخوان (بيكاريو) وسط قرع الأجراس والطبول وأقنعة القرية, ويتصاعد الدخان ليلف الجميع وكأنه وباء مدينة طيبة الإغريقية في مسرحية (أوديب ملكا) لسوفكليس, أو ذباب مدينة أرجوس في (الذباب) لسارتر, أو واغش مدينة رأفت الدويري في مسرحيته (الواغش), وكلها أشكال مرئية تجسّد بها الأسطورة الفكرة المعنوية, فهي سخط الآلهة في الأولى, والشعور بالندم في الثانية, والإحساس بالظلم في الثالثة, وهي في مسرحيتنا (الوقائع) إدراك العجز عن مواجهة جريمة معلن عنها.

ويتفجّر الحدث الدرامي في عرضنا هذا من العرس الدموي وطقس فض البكارة, والكشف عن فقدانها, والإعلان عن ذلك وسط الكل, مما يشكّل هجوماً على الحدث المستتر, ويستتبع فعلاً لإزالة متسببة, فجريمة الاغتصاب قد حدثت في الظلمة, لكن الأرض لا تهتز إلاحين الإعلان عنها, فيتحرك التيار السائد مدعما بنواميسه وأعرافه لاستعادة الإيقاع المختل, بقتل المتهم بالتجرؤ على إحداثه, حتى ولو كان بريئاً من دم ابن يعقوب, وإن قبعت مأساته في غفلته عمّا يحدث حوله, وهو ما يكشف عن تلك العلاقة المختبئ في ثنايا العرض بين الأساطير والشعائر اليونانية والعربية والأندلسية والأمريكية لاتينية.

براءة مهددة

لقد تم إلغاء الراوي/السارد في العرض المسرحي, وتم تجميع الشظايا المتناثرة لتشكّل مشاهد ممتدة ومتقدمة في الزمن, وتم تغليف العرض بالأغاني الأندلسية (الغناء العميق), المتناغمة مع هديل حمام حقيقي, والفزعة على أصوات سواطير تقطع لحماً حقيقياً, فيمتزج السحر بالمادي, وتتغنى الأسطورة على حد السكين, داخل احتفالية شعائرية لموت نصار رمزاً لكل الضحايا الأبرياء.

حول فكرة البراءة المهدرة في زمن رديء, صاغ المخرج السينمائي الإيطالي (فرانشيسكو روزي) فيلمه, الذي كتب له السيناريو بالاشتراك مع (تونينو جيررا), وتم إنتاجه بتمويل إيطالي فرنسي كولومبي, مما استلزم عدم غرس حبكة العمل, في بيئة معينة ذات خصائص مميزة, وإنما تم الاكتفاء بمجتمع القرية الكولومبية, مع تأكيد واضح على الطبيعة المادية المحيطة بها, من بحر وأنهار مليئة بالحيوانات البحرية الغريبة, والمخترقة لغابات مفعمة بالأسرار, في مزج واضح بين الإطار الطبيعي والإطار الاجتماعي المحيط بالحدث الإنساني, وسعي لصياغة عالم سحري من الصور المتوالية لهذا الوجود الغامض الماثل في مجتمع بعيد عن المجتمع اليومي الذي يعيشه المتلقي الأوربي, المستهدف أساساً من صناع الفيلم.

وإذا كانت الرواية قد اعتمدت في صياغة بنيتها الدرامية على نوع من الأرابيسـك الدقيق الجزئيـات, والذي لا تتعاقب فيه اللحظات الزمنية, بل تتزامن وتتشابك في نسيج دقيق, تتيح طبيعة القراءة لمصفوفة الأحرف المطبوعة, إمكان العودة في أي لحظة لصفحات سابقة للتأكد من معلومة شاردة, بينما تتوالى الصور على شاشة السينما في بنية متقدمة دوماً للأمام, ولحظات العودة للخلف (الفلاش باك) ليست خاطفة كومضات الشعر, وإنما تتطلب التأني في تقديمها لشرح الموقف أمام المشاهد العادي, ولذلك فإن الجزئيات المتشظية في عالم الرواية, تتماسك فيما بينها, لتصبح قطعاً أكبر حجماً وأطول عرضاً على الشاشة الفضية.

كما أن التوجه بالفيلم للمشاهد الأوربي, دفع صنّاع الفيلم إلى محاولة أنسنة الرواية, وذلك بإلغاء البعد الخاص بالانتماء العرقي لسانتياجو نصار المتمثل في صفته العربية, كما تم إلغاء البعد الذاتي لسانتياجو والمتمثل في غطرسته وتعاليه الاجتماعي, واقتصر الأمر على صياغة واقع مضاد للبراءة, وكأنه قدر إغريقي مسلط على أبطاله ومحرّك لأفعالهم وصولاً إلى المصير المقدر سلفاً, وهو مصير عبثي الصياغة, غائب التبرير المنطقي والعقلاني, كما تم تشخيص الراوي السارد للوقائع, فصار صديق نصار المحدد الاسم والوظيفة, وهو (كريستو بيدويا) طالب الطب, الذي غادر القرية ليصبح طبيباً مشهوراً, ويعيده الفيلم إليها بعد غياب طويل, ليعمل بمستشفاها, وليجعل لعودته مبرراً منطقياً, وليجعل من التذكر واستعادة الماضي أمراً فرضه الواقع, لا اختياراً من الراوي بالعودة الإرادية لفهم ما حدث بالأمس, تخلصاً من جهل الحاضر.

خضعت بنية الرواية لمقتضيات السرد السينمائي, كما خضعت لمعرفة صنّاع الفيلم لعقلية المتلقي المنتج الفيلم أساساً له, وهو المتلقي الأوربي في المقام الأول, فأصبح الفيلم هو حكاية الرجل الأبيض وسط مجتمع مغاير (يقوم بأداء دور سنتياجو الممثل الفرنسي أنطوني ديلون, وقامت بدور أمه الإيطالية لوتشيا بوسيه, وبدور الصديق الراوي الإيطالي جيلا ماريا فولنتي), وأضحت الدلالة المستخلصة هي موت البراءة في زمن عبثي الصياغة والمعنى, وأمست الرواية الأمريكية لاتينية أوربية الطبع, أوربية المزاج, أوربية الرسالة المستهدفة, فحين تتحول البنية, تخضع الدلالة للتحوّل والتبدل, وينتقص من المعاني القائمة ويضاف إليها معان جديدة لم تكن واردة في المتن الأصلي, وتلك هي إحدى خصائص الإبداع وسماته الجمالية.

 

حسن عطية

 
 




سلبادور نابور مخرج "وقائع موت معلن" المسرحي





"وقائع موت معلن" البراءة في زمن التردي





سانتياجو نصار.. وداعة القلب في وداعة الحمام