ليـلة أفغانية

ليـلة أفغانية

قبة هذه القاعة الفسيحة عالية ضخمة. فيها شيء من العنجيهة والجبروت. عرائضها الحديدية تتقاطع فوق رأسي. لاشك في أن المهندس الذي صممها قضى عمره كله في محطات القطارات. وإلا فكيف أجد تفسيراً لهذا الشكل المعماري الغريب العجيب? الليل يكاد ينتصف والنعاس يخيط عيني. السهرة الثقافية السياسية لاتزال طويلة على ما يبدو.

أشعر فجأة بأن هناك ما يشبه رائحة قادمة من سهوب آسياً الوسطى. توابل ومذاقات حريفة تتمازج فيما بينها. أردية من الوبر وألبسة صوفية تتعانق مع ما ينبعث من أبدان الرجال المسافرين ومن العير. أتساءل في قرارة نفسي عن مصدر الرائحة. ما العلاقة بينها وبين الجملة الموسيقية التي ما فتئت تتكرر في وجداني منذ حين? وأتذكر على التو أن الجملة الموسيقية هي اللازمة التي بنى عليها الموسيقار الروسي ألكسندر بورودين(1) معزوفته السمفونية (في سهوب آسيا الوسطى).

ولكن, ما دخل تلك الرائحة في مقطوعة بوردين? وكيف يا تراها تستثير شريحة من شرائح ذاكرتي وتطوح بي في عالم لا أمتلك منه شيئاً?

لوحة رومانسية أمامي. قوافل تسير في غيهب الغسق. لا أرى أثراً للحرير ولا للورق الصيني المهفهف, بل إنني لا أشم رائحة الحبر الممزوج بالصمغ العربي. ما الذي يحدث في وجداني? الجملة الموسيقية تتماوج الآن في سهوب آسيا الوسطى. يخيل إليّ أنها تريد أن تتزاوج مع ما قد يطفو من أحاسيس أخرى في قلب هذه الجعجعة السياسية.

لهذا الجمع الموقر خصوصية فريدة من نوعها. هي خصوصية تولدت عن نظرتي إلى هذه الحياة وتنامت مع مشاعري وردود أفعالي. العالم حوالي يصنع نفسه لحظة في إثر لحظة. الجملة الموسيقية تشق طريقها مرة ثانية في تضاعيف وجداني. وما أسرع ما تتراءى لي قوافل تتهادى في سهوب آسيا الوسطى. شعوب تهب لملاقاة شعوب أخرى تختلف عنها كل الاختلاف بسبب وطأة العزلة التي فرضها التاريخ عليها. نغمتان موسيقيتان تترددان بهدوء ثم تنداح السهوب أمامي: جنكيز خان, تيمورلنك, السلاجقة, التتار, المغول, الإمام شامل, جمال الدين الأفغاني, ثم يجيء الزليج الأزرق, ذلك الذي ما انفك يبقع المعابد والأماكن المقدسة في سمرقند وخوارزم وتخوم الصين.

لابد لي من اليقظة بعد ذلك السيل الجارف من الخطب السياسية. نوبات النعاس تتخطّفني بين الفينة والأخرى, ومع ذلك فأنا أستطيع وضع الأشياء في خاناتها الصحيحة, الجعجعة الكلامية تتعالى في الجانب الأيمن من القاعة الفسيحة, بعد قليل ينتصف الليل, لكن ليس هناك ما يشير إلى أن الماراثون السياسي على وشك النهاية. أبري قلمي بالطريقة نفسها التي كنت أعمد إليها في مدرسة الفنون الجميلة. لا شيء يتغير في الأمر. النعاس ممسك بتلابيبي. لابد لي من محاربة هذا العدو المداهم حتى لا يفوتني شيء مما يحدث في القاعة. لم لا أبادر إلى تدوين هذه الجملة الموسيقية المعاندة? هاأنذا أرسم مدرجا موسيقياً وأضع نوتة المي الرباعية ما بين السطرين الرابع والخامس على مفتاح الصول.

إلى يساري, مندوب قادم من أعماق إفريقيا, قوة أجنبية تهدد بلده بالغزو. لعله يفكر في الموضوع, يبدو عليه أنه أشد يقظة وتوفزاً مما مضى. جلستا اليوم لم تنالا منه. واعجبا له! هذه الجلسة الليلية الثقيلة تعيد إليه نشاطه وهمّته. هل يعود ذلك إلى أن بلده اهتم اهتماماً كبيراً بحكاية الزحف السوفييتي على أفغانستان? وهل لمقطوعة بورودين علاقة بشعب هذا البلد? أنا أشكك في العلاقة التي قد تقوم في هذا الشأن عن طريق قطعة موسيقية محددة. أليس من طبيعة الحرب أن تهز دعائم كل ما يتطلع إلى أن يكون منطقياً وجميلاً في هذه الحياة?

رجلان من سهوب آسيا الوسطى جالسان إلى يميني بحكم التسلسل الأبجدي اللاتيني. في هذا المجمع الموقر وفي غيره من المجامع الأخرى, آلى المنظمون على أنفسهم أن يحترموا الشعوب بردها إلى النظام الألفبائي. أنا القادم من شمال إفريقيا أجد نفسي جالساً بمحاذاة مندوبين اثنين قادمين من أفغانستان. الجغرافيا مضطرة لكي تقفز فوق الحضارات والإيديولوجيات الحديثة. ما الذي أقوله عن بورودين, هذا الذي سبق له أن نقلني بفعل جملة موسيقية بسيطة إلى قارة أخرى قبل سنوات عدة? أتذكر الآن أنه لم تكن هناك حرب في ذلك الزمن!

منذ اللحظة التي تقرر فيها عن طريق رفع الأيدي مناقشة هذه المسألة السياسية المحرجة حدث ما يشبه الإجماع العام بين أعضاء الوفود. هذه المسألة التي شهدت تدهور العديد من العلاقات عبر العالم ليست من مهام هذا اللقاء الثقافي الكبير. حقاً, ما الذي تفعله السياسة هاهنا في هذا المحفل? أليس يقع على عاتق ممثلي الثقافات المختلفة أن ينقذوا الفن من أفعال السياسيين ومن آثار الحروب المدمّرة?

أحدهما طاعن في السن, أما الآخر, فلم يدخل عالم الكهولة بعد. ما العلاقة بين رجال تلك القوافل التي وصفها بورودين في معزوفته العجيبة والقبائل التي خرجت لتستقبلها في سهوب آسيا الوسطى? لا وجود لأي علاقة في هذا الشأن! مجلسنا الموقر على ما يبدو هو الذي يجيب عن تساؤلي هذا! العجوز إلى جانبي يطعن في السن مثل شجيرة صبار وأنا أعجز ما أكون عن تحديد عمره: أتراه تجاوز السبعين? لست أدري! آثار الجدري تبقع خده الأيسر. عيناه مختبئتان في محجريهما. لابد لي من محاربة سلطان النعاس. فلأترك نغمات بورودين تتحرك على هواها في أصقاع نفسي.

هأنذا أميل قليلاً. يا الله? ماذا أرى? خط عربي جميل يحمل البسملة على متنه: بسم الله الرحمن الرحيم! هذا العجوز خطاط فنان إذن! لقد انهمك في تزيين البسملة بقلم رصاص دقيق الرأس. القاعة ليس لها وجود في ناظريه. أعود القهقرى صحبته إلى الحضارة الإسلامية في عصورها الذهبية. قد يكون الخطاط الشهير ابن مقلة. الفارق الوحيد بينهما هو أن ابن مقلة هذا لعبت به السياسة. المغبون! ما الذي راح يفعله في أوساط السياسيين? لقد استوزر مرات عدة وحافظ في الوقت نفسه على أسلوبه الراقي في فن الخط حتى إنه لم يوجد له نظير إلى حد الساعة. هل كان وزيراً خبيثاً? المؤرخون يزعمون أنه عرف كيف يقصي أعداءه باستخدام الحيلة. لكن, حين أدبرت الأيام, لم يشعر أحد بالشفقة عليه. والعقاب الوحيد الذي كان من الممكن أن ينال منه حقا وصدقا إنما هو حرمانه من ممارسة فنّه. يا للبؤس! يا للشناعة! وكان أن قطع أعداؤه يده العظيمة!

يد هذا العجوز ليست مهدة بالقطع الآن, والحمد لله. التاريخ هو الغالب. أسترق النظر إليه بطرف عيني. جبهته تبدو لي الآن أكثر بروزاً, وعيناه منغرزتان في محجريهما. لست أدري ما إذا كانت به سنة من نعاس. هناك جعجعة تتعالى في الجانب الأيسر من القاعة., وهي على ما يبدو, جعجعة سياسية تحاول أن تشمل العالم كله. العجوز يستعيد قلمه لكي يضع خطا منكسراً تحت البسملة. ليس في هذا الخط أي دفق فني. أتراه يريد بذلك أن يفصح عن قرفه وبرمه بما يسمع? ذلك أمر ممكن. أنا أختزل القاعة كلها في الحركات المتباطئة التي يأتيها هذا العجوز. تصريحات تنبعث من أعضاء الوفود. يبدو عليها أنها تعالج موضوعاً لا علاقة له البتة بعالم الثقافة. صاحب العجوز جالس إلى يمينه. لكأنه عقاب يوشك أن ينقض على فريسته. لا تند عنه أي حركة عصبية مع أن الأمر يتعلق ببلاده وبحريتها. أنا أتحرك في مساحة ضيقة جداً. مساحة تمتد ما بين الخط الجميل الممدود على الورق والنظرة الهادئة الغريبة التي يلقيها المندوب الشاب على من في القاعة. لم يسبق لي أن رأيت عن قرب أمثال أولئك الرجال القادمين من سهوب آسيا الوسطى. وعليه, فأنا لا أستطيع قراءة ما يرتسم على وجوههم. الأمر يتعلق بحضارة أخرى,حضارة يقال عنها بأنها قائمة على فن الحركات المختزلة أساساً. ينبغي علينا أن نعرف كيفية قراءة الحركات التي يأتيها الإنسان في كل صقع من أصقاع الدنيا. اللغة وحدها لا تكفي. يستحيل أن تكون وسيلة الاتصال الوحيدة في هذه الحياة.

الخطاط العجوز يبدو الآن مهتماً بما قال في الجانب الآخر من القاعة الفسيحة. يستحيل عليه أن يبقى على الحياد. بلده يوجد في هذه اللحظة بين شدقي خطيب سوفييتي ألقى الروع في قلوب الحاضرين. ما قاله هذا الخطيب على التو ينضح كذباً ونفاقاً. في مقدور كل واحد منا أن يرى لون الكذب نفسه. آه, هاهو يتجرأ على القول بأن قوات بلده العسكرية موجودة لدى الجار لكي تعينه, أجل, لكي تعينه فحسب! يا لهذه الكوميديا التي يتفرّج عليها العالم الحديث! الخطاط العجوز يميل على صاحبه ويوشوش في أذنه بعض الكلمات. صاحبه لا يعـلق على كـلامه لأنه في حالة عجز حسبما يبدو لي. آه لهذه الشعوب التي لاتذهب أبداً للقاء شعوب أخرى! ولكن, كيف خطر لبورودين أن يقولب فكرة اللقاء هذه في معزوفة سيمفونية?

أرتحل لبضع ثوان عن القاعة وعمّا يجري فيها. أرى سهوب آسيا تنداح أمامي ذات أصيل صارخ الألوان. كلا, هذه السهوب ما عادت تنتظر جنكيز خان ولا تيمورلنك. لقد حكم التاريخ على هذين الرجلين منذ قرون بأنهما من قوم همج يخربون كل شكل من أشكال الحضارة. هوذا صوت يرتفع في قلب القاعة الفسيحة. يبدو على المندوبين أنهم مشدودون إلى هذا الصوت الذي يعيد بعض الهدوء إلى القاعة دون أن يصحح مسيرة التاريخ. الخطاط يميل مرة ثانية على صاحبه. وصاحبه لا يبدو عليه أنه يوافق آخر من تناول الكلمة في القاعة. إنه لنفاق كبير! أوليست السياسة هي النفاق عينه?

المندوب القادم من أنغولا يفرك يديه إلى يساري. أعجبه ما جاء في الخطاب الأخير. شيوعيون يساندون شيوعيين آخرين ولو على حساب بلدانهم وحرياتهم. بلده هو الآخر استغاث بالدولة السوفييتية لكي تحميه من غزو غربي محتمل. يا للمفارقات! بلد يتخلص من ربقة الاستعمار لكي يقع تحت وطأة استعمار آخر! الخطاط إلى يميني يعدل جلسته استعداداً لتدوين بعض الكلمات. لكنه يظل جامداً مثل شجيرة صبار في قلب فلاة صخرية. صاحبه يرفع يده طالباً الكلمة.

هي لغة سهبية فيها الكثير من المخارج المتقطعة المختنقة. انتهى به الأمر إلى أن يصوغ فكرته في بضع كلمات ليس إلا. المترجم أراد أن يعكس نبرات صوته إلى أقصى حد. أتراه أفلح في ذلك? لست أدري! الموقع الذي أوجد فيه يجعلني في مكانة استراتيجية محظوظة. وأنا أجد فرقاً حقيقياً واضحاً بين الطريقتين كلتيهما في التعبير عن الفكرة نفسها. أدركت الآن أن صاحب الخطاط العجوز هو الناطق الرسمي باسم بلاده في هذا المجمع الموقر. وهو يرى أن بلده لم يقع تحت وطأة أي غزو من أي قوة أجنبية كانت. المترجم اقتصر على تأدية المعنى, وتلك هي مهتمة. غير أنني أحسّ بأن هناك شيئاً ناقصاً لم يتوصل أحد إلى اكتشافه. الطريقة التي ألقى بها هذا المندوب كلماته هي التي تستثيرني وتدفعني إلى مثل هذا التخمين.

بورودين يروقه أن يجمع بين شعوب متصارعة تحت وقع الرصاص وأزيز الطائرات ودوي المدافع! والسهوب على ما يبدو لم تعد قادرة على إنجاب جنس أصيل من الرجال القادرين على الدفاع عن أنفسهم وعلى قول الحقيقة في وجه العالم أجمع. يخيّل إلي في هذه اللحظة أن الدنيا كلها تضج بالحزن. يد خطاطنا تنبتر وهو يحدق فيها بعينيه الغائرتين الكليلتين. لقد أدرك أنه لن يقوى بعدها على الإمساك بأي قلم. يا الله! ألا ما أقدر الإنسان على التنكيل بأخيه الإنسان!

لم يبق من موسيقى بورودين إلا صورة تمثل قافلة تنزلق في ظلام صفيق الحجب. ضوء الأصيل يتراقص وراء هذه القافلة. أتساءل غضبان حيران عن حاجة هذه القافلة إلى أن تضرب خيامها في مكان ما من السهوب المترامية أمامها. لا قبيلة توجد في انتظارها, ولا طبل ولا صنوج ولا تهاليل! هي قافلة تائهة في سهوب يملؤها الطمي والحشرات.

أظل جالساً في مقعدي وعقلي يقفز فوق مراحل التاريخ الآسيوي. أريد تبرير أمر يرفض التبرير. في القاعة الفسيحة جعجعة مفتعلة على إثر الرد الذي صدر عن المندوب الأفغاني الجالس إلى يميني. مَن يدري, لعل السلوك السياسي في مثل هذه الحالات يقضي بضرورة إسكات سورة الغضب. أجل, أولسنا في محفل ثقافي بالدرجة الأولى? بلى!

أتوقف عند هذا الحد من معايشة الواقع ومن التهويم أيضاً.

هامش سياسي..

انفضت أشغال مجلسنا الموقر منذ شهر وعدت إلى بلادي.

اقرأ في الأخبار أن جريدة ألمانية نشرت تصريحاً مذهلاً صدر عن المندوب الأفغاني القادم من سهوب وجبالات آسيا الوسطى.

صاحبنا هذا يندد تنديداً عنيفاً بالقوة العسكرية السوفييتية التي جاءت تحتل بلاده متذرّعة ببسط غطاء استراتيجي.

ولا ينسى هذا المندوب أن يطلب حق اللجوء السياسي من ألمانيا.

أقرأ هذا الخبر السار وأجدني مدفوعاً إلى الاعتراف لبورودين بعبقريته الموسيقية وبصواب الفكرة التي قولبها في معزوفته السيمفونية!

وأقول في نفسي: الفن لا يخطئ لأن الشعوب محكوم عليها بأن تتعارف وتتلاقى فيما بينها أيّا ما كانت الغواشي والمحن.

(1) ألكسندر بورودين (1833-1887) موسيقار روسي, من أشهر مؤلفاته: في سهوب آسيا الوسطى والأمير إيجور.

 

مرزاق بقطاش