أين توجد الذاكرة؟!

أين توجد الذاكرة؟!

في حياة كل إنسان ذكريات, بعضها حلو وبعضها مر. وفي حياة كل إنسان لحظات يخلو فيها إلى نفسه, ويجتر ذكرياته, فيفرح بالحلو منها, ويستنبط العبر من مرها. أين تختزن الذكريات?! أين يوجد ذلك الحشد الهائل من بصمات الماضي وعلامات الزمن?! وكيف يستطيع مخزن الذكريات أن يستوعب ذلك السجل الحافل من الأحداث والتجارب والمرائي والمشاهدات?! هذه الأسئلة تشغل الإنسان من قديم الزمان. فهل وجد لها جوابا?! وهل أتى العلم الحديث بجديد في هذا الحقل?! هذا ما ننظر إليه على السطور التالية.

أقدم النظريات المعروفة لتفسير الذاكرة, تلك التي وضع أصولها الفيلسوف الأشهر (أرسطوطاليس) Aristotle والتي تعرف باسم (نظرية الأثر) Trace Theory هذه النظرية تقول إن المخ هو مخزن الذكريات, وأن الأحداث والتجارب والمشاهدات اليومية تحدث (أخاديد) في المخ, فتبقى محفوظة هناك! ولتبسيط ذلك الافتراض, صنع (أرسطو) قطعة من الشمع على هيئة مخ الإنسان, وراح يمر بآلة حادة مرورا خفيفا على الشمع, فرسم (أخاديد) (ميازيب أو تجاويف طولية رفيعة) على المخ الشمعي, في محاولة لتقريب فكرته إلى أذهان مستمعيه!

وبلغة اليوم, فيمكن تقريب افتراض (أرسطو) إلى الأذهان باستحضار صورة أسطوانة (الجرامفون) (أو الحاكي). فالأخاديد على الأسطوانة تختزن الصوت المسجل. وعندما تمر إبرة الجهاز في الأخاديد يمكن استرجاع المادة المسجلة! ويمكن تكرار ذلك في كل مرة يراد فيها استرجاع المادة المسجلة والاستماع إليها!

هذا تبسيط زائد للأمور. وعلى الرغم من ذلك, فإن (نظرية الأثر) لاتزال أكثر نظريات تفسير الذاكرة قبولا! كيف تحدث الأخاديد في المخ?! لا أحد يدري! كيف تختزن الذكريات في تلك الأخاديد?! لا أحد يعرف الإجابة! أين تحدث تلك الأخاديد في المخ?! لا جواب!

إذا كانت نظرية (أرسطو) لا تفسر أمورا كثيرة, فلماذا تعد مقبولة ومستساغة?! ولماذا تبقى صامدة عبر مئات السنين كتفسير محتمل للغز الذاكرة?! السبب وراء ذلك هو وجود أدلة من واقع الحياة تؤكد صحة ذلك ـ على الأقل من وجهة نظر معينة. مثال ذلك, أن إصابات المخ تؤدي في أغلب الحالات إلى فقدان الذاكرة. الأمر الذي يعني أن المخ هو مخزن الذاكرة. وقد تذهب محاولة التفسير إلى أبعد من ذلك, فتزعم أن الإصابة التي أدت إلى تلف في المخ, قد محت الأخاديد التي تختزن فيها الذكريات! أما إذا لم تتلف الإصابة أخاديد الذكريات في المخ, فإن المصاب يحتفظ بذاكرته. والدليل على ذلك أنه ليست كل إصابات المخ تؤدي إلى فقدان الذاكرة!

من الأدلة الأخرى التي تساق على صحة (نظرية الأثر), ما أمكن جمعه من دراسة نشاط المخ الكهربي عند المصابين بـ (الصرع) epilepsy. فعند توصيل رأس شخص مصاب بالصرع بمصدر للتيار الكهربي, وتمرير تيار ضعيف في الأسلاك, فإن المريض يستطيع استرجاع أحداث وذكريات معينة من ماضي حياته بوضوح تام. وتختلف الأحداث والذكريات باختلاف المنطقة من المخ التي يجرى تنبيهها بالتيار الكهربي! هذه النتيجة دعمت الافتراض القائل بأن الذكريات تختزن في أخاديد في المخ, بدليل أنه أمكن استرجاعها عندما جرى تنبيه (أو حث) تلك المناطق بالتيار الكهربي!

تحور الاشتباكات العصبية

ليست (نظرية الأثر) الوحيدة التي وضعت لتفسير كيفية حدوث الذكريات واختزانها في المخ. فهناك عدد آخر من النظريات الحديثة نوعا ما وضع لنفس الغرض. والقاسم المشترك بينها جميعا أنها تدور حول المخ.

ومن الطريف أن فيلسوفا آخر قدم نظرية مختلفة للذاكرة. ففي القرن السابع عشر قدم الفيلسوف الشهير (رينيه ديكارت) (1596 ـ 1650) نظريته المعروفة باسم (النظرية المائية) hydraulic theory لتفسير الذاكرة. وقد اكتسبت نظرية (ديكارت) التي تعرف كذلك باسم (نظرية السوائل المتحركة) قبولا واسعا في حينها, استنادا من ناحية إلى أن الماء يكوِّن أكثر كتلة (أو وزن) الجسم الحي, واستنادا من ناحية أخرى إلى أن السوائل في حركة مستمرة داخل الجسم الحي. (يكوِّن الماء ما بين 55% إلى 60% من إجمالي وزن الجسم الحي البالغ).

تقول نظرية (ديكارت) إن تأثر الإنسان بموقف أو تجربة أو مشاهدة معينة, يؤدي إلى زيادة نشاط حركة السوائل بين خلايا المخ في اتجاه معين, عبر ثقوب دقيقة في جدران الخلايا. وحركة السوائل المذكورة ليست إلا محاولة من خلايا المخ لتسجيل ذلك الموقف أو التجربة أو المشاهدة الذي ولد النشاط في الأصل! وربما كان مرور السوائل بين خلايا المخ في نفس اتجاه حركة السوائل أثناء عملية التسجيل, هو المسئول عن استرجاع نفس الذكريات!

هذه النظرية لـ (ديكارت) لم تصمد طويلا. إذ المعروف أن السوائل, بما فيها الماء, أوساط مائعة توجد في تركيب كيميائي ثابت حتى عند دخولها في أنشطة خلوية! بتعبير آخر, فإن الماء يبقى ماء لا يتغير تركيبه الكيميائي, حتى بعد مروره بين خلايا المخ. وكان يعتقد أن تسجيل الذكريات يصاحبه تغير في الطبيعة الكيميائية تكون هي الأثر الناتج عن عملية التسجيل.

الطريف عن نظرية (ديكارت) أنها مهدت السبل لنظرية أخرى, تحتضن فكرة مشابهة. تلك هي نظرية (تحور الاشتباكات العصبية) synaptic modification, التي بقيت رائجة إلى مطلع السبعينيات من هذا القرن تقريبا. (الاشتباكات العصبية synapses هي النقاط التي تتقابل عندها أطراف الخلايا العصبية).

هذه النظرية تقول من جديد إن مؤثرات الحياة اليومية من مواقف وتجارب ومشاهدات, تؤدي إلى حدوث تحور من نوع ما في الاشتباكات العصبية, وأن بقاء هذا التحور هو السبب وراء إمكان استرجاع السجل اليومي في وقت لاحق! ومما جعل تلك النظرية مقبولة أن مخ الإنسان يحوي تقريبا ألف مليون خلية عصبية, الأمر الذي يعني وجود عدد هائل من الاشتباكات العصبية يمكن أن يستوعب سجل الأحداث في حياة أي إنسان, خصوصا أن الاشتباكات العصبية توجد بين أكثر من خليتين في وقت واحد.

في مطلع السبعينيات, وبعد اكتشاف الحامض النووي (نسبة إلى نواة الخلية) المعروف اختصارا بالحروف (DNA), والذي يحمل في طياته الشفرة الوراثية في جميع الخلايا الحية, ولدت نظرية حديثة تقوم على تصور مقبول منطقيا. ففي أنوية (جمع نواة) الخلايا الحية يوجد حامض نووي آخر, يعرف اختصارا بالحروف (RNA), جنبا إلى جنب مع الحامض النووي (DNA). ودراسة هذه الأحماض النووية كشفت أن الحامض النووي (DNA) هو مركز التوجيه وإصدار الأوامر, وفقا للشفرة الوراثية التي يحملها. أما الحامض النووي الآخر (RNA) فيقوم بدور الرسول الذي ينقل أوامر الحامض الموجه إلى باقي أجزاء الخلية الحية, لتتصرف في أنشطتها المختلفة وفقا للأوامر الصادرة!

بناء على ذلك, ولدت (نظرية الحامض النووي) rucleic acid theory, التي تقول إن الحامض (RNA) في خلايا المخ هو المسئول عن تسجيل الذكريات, وأن عملية التسجيل تتم من خلال تغييرات كيميائية في تركيب الحامض. وهذه التغييرات الكيميائية دائمة, ولذلك تبقى الذكريات مخزونة في خلايا المخ!

ربما تكون هذه النظرية أقرب النظريات إلى الصحة. بيد أن دراسة كيمياء المخ لم تكشـف عن وجود أي جـزيء للحامض النووي (RNA), له طبيعة كيميائية مختـلفة عن تلك المعروفة في باقي خلايا الجسم! وانعدام الدليل أدى إلى هدم النظرية برمتها.

وجهة نظر أخرى

لعل عدم وجود نظرية مرضية لتفسير الذاكرة يرجع إلى العجز عن إقامة الدليل على أي من النظريات المطروحة. وهناك دراسات أجريت في محاولة للعثور على مفتاح للغز, بيد أن هذه الدراسات زادت الأمور تعقيدا. إذ لم تعثر على مفتاح اللغز, وإنما عثرت على ما يهدم النظريات المطروحة! فضلا عن ذلك, فهناك آراء معارضة لنظريات تفسير الذاكرة. وربما يكون ذكر مقتطفات من تلك الدراسات والآراء مفيدا في معرفة وجهة النظر الأخرى.

إذا افترضنا جدلا أن جهاز التلفاز يشبه مخ الإنسان فيمكن فهم وجهة النظر التالية: المعروف أن دوائر كهربية وتوصيلات سلكية في تركيب التلفاز, تمكن الجهاز من استقبال ما تبثه محطة الإذاعة على القنوات المختلفة. فإذا أزيلت بعض الدوائر والأسلاك من الجهاز بحيث لا يتمكن من استقبال برامج قناة بعينها, فإن ذلك لا يعني ببساطة أن خلل الدوائر الكهربية في جهاز التلفاز جعله عاجزا عن (استقبال) البرامج المبثوثة على تلك القناة بعينها!

أصحاب هذا التصور يقولون إن ذلك ينطبق على مخ الإنسان. بمعنى أن تلف جزء من المخ, نتيجة حادث أو خلافه, مما يترتب عليه فقدان الذاكرة, لا يعني ضمنا أن الذاكرة كانت مخزونة في المخ وإنما أدى التلف إلى عجز المخ عن استرجاع الذكريات! بتعبير آخر, فإن الذاكرة لا توجد في المخ, وإنما المخ جهاز لاسترجاع الذكريات, مثلما التلفاز جهاز لاستقبال الإرسال الإذاعي المرئي!

من جهة أخرى, هناك دراسة أجريت على مخ الكلاب بهدف معرفة تأثير تلف المخ على الذاكرة. وفي تلك الدراسة استأصل الباحث (وهو أمريكي يدعى (لاشلي) (k.s.Lashley) أجزاء مختلفة من المخ, لمعرفة أيها يختزن الذاكرة. ولم يمكن بالمرة إثبات أي جزء من المخ بوصفه مخزن الذاكرة. ما أمكن إثباته هو أن حجم الذاكرة المفقودة يتناسب طرديا مع الأجزاء المبتورة من المخ. أي أنه كلما زاد حجم النسيج المقطوع من المخ, زاد فقدان الذاكرة! وقد أعاد الدارس نفس الدراسة على الفئران, ووصل إلى نفس النتيجة!

أما المعترضون على نتائج دراسة نشاط المخ الكهربي عند المصابين بالصرع, فيذهبون مرة أخرى إلى تمثيل المخ بجهاز التلفاز, حيث يؤدي إثارة الدوائر الكهربية ـ بإدخال تيار كهربي إضافي, إلى ظهور أشكال غريبة على شـاشة الجهاز. والاستنتاج مرة أخرى أن تلك الأشكال الغريبة لم تكن مختزنة داخل الجهاز. وبالمثل فإن تنبيه واسترجاع ذكريات بتسليط تيار كهربي ضعيف على المخ, لا يعد دليلا دامغا على وجود تلك الذكريات في المخ!

بعيداً عن المخ

إذا وصلت الأمور إلى هذا الحد, فأين توجد الذاكرة إذن?! الافتراض الباقي, والذي لم يسبق أن تقدم به أحد, هو أن الذاكرة غير موجودة في المخ! وهذا ما تقول به أحدث نظريات تفسير الذاكرة والتي تعرف باسم نظرية (المجال التكويني) Theory of Morphogenic Field.

صاحب هذه النظرية أمريكي يدعى (روبرت شيلدريك). وقد تقدم بنظريته العجيبة أخيرا, فقوبل بهجوم عنيف من قبل الصحافة العلمية! ماذا في النظرية يجعلها جديرة بالاستقبال بخصومة سافرة? تفترض النظرية أن نمو وتطور الكائنات الحية لا يخضع لمؤثرات من داخلها, وإنما لمؤثرات خارجية! وهذه المؤثرات الخارجية خاصة بكل جنس من الأحياء, بمعنى أن هناك مؤثرا للجنس البشري, وآخر للسلاحف والزواحف, وثالثا للأسماك.. وهكذا!

المؤثرات الخارجية ـ من وجهة نظر صاحب النظرية ـ موجودة في الطبيعة على هيئة مجالات ذات درجات قوة مختلفة. والتأثر بهذه المجالات موروث في الخلقة, وهو المسئول عن النمو والتطور في أفراد جنس بعينه!

لكي يمكن فهم هذا الكلام نسوق التشبيه التالي: محطات الإذاعة تبث برامجها على أطوال موجات مختلفة. وأطوال الموجات الإذاعية المختلفة مسجلة دوليا ومقسمة بين محطات الإذاعة بحيث أن كل إذاعة تبث برامجها على أطوال محددة خاصة بها. وعند ضبط مؤشر المذياع على طول موجة معينة, فإن المذياع يلتقط البرامج المبثوثة على تلك الموجة, بغض النظر عن مكان محطة الإذاعة.

هذا بالضبط ما تقوله نظرية المجال التكويني. ففي أفراد كل جنس, ولنقصر كلامنا على الجنس البشري, يوجد جهاز استقبال موروث (هو في هذا التشبيه (المخ)). وهذا الجهاز يتناغم تلقائيا مع مجال تكويني معين, فيلتقط مؤثرات ذلك المجال, تماما كما يلتقط المذياع برامج إذاعة معينة عند تثبيت المؤشر عند طول موجة معين!

وتمضي نظرية المجال التكويني خطوة أبعد من ذلك, فتقول إن جهاز الاستقبال في الإنسان, وهو المخ, يعمل كذلك كمرسل! وبدلا من الاحتفاظ بالذكريات, فإن المخ يرسلها إلى فلك معين في المجال التكويني, تماما كما يحمل الأثير الموجات الإذاعية إلى الفضاء البعيد! وكما لا تتبـدد الأصوات التي تبثها محطات الإذاعة (أي لا تتحول إلى عدم) فكذا لا تتبدد ذكريات الإنسان في الفضاء!

لو جاءت نظرية (المجال التكويني) قبل مائة عام, لأمكن قبولها لما فيها من طرافة. أما وقد أثبت العلم الحديث أن مؤثرات النمو والتطور هي (الجينات) (genes) (أو حاملات الصفات الوراثية) الموجودة داخل الخلايا الحية, فإن نظرية (المجال التكويني) تصبح مرفوضة من جذورها!

الطرافة الحقيقية في هذه النظرية الخارجة على دلائل العلم الحديث, أنها الوحيدة التي يمكن على أساسها تفسير ظواهر عقلية مثل (الاستبصار) (clairvoyance) (رؤية ما هو واقع وراء نطاق البصر) و(التخاطر) telepathy (مخاطبة عقل لعقل آخر في مكان بعيد)! ومبدأ التفسير في هذه الحالة أنه كما يحدث أن تختلط الموجات الإذاعية في بعض الأحيان فليتقط مؤشـر المذيـاع محطة غير مقصودة, فكذا تختلط موجات الأفكار البشمية, في (المجال التكويني) فيلتقط مخ إنسان في مكان ما الأفكار في مخ إنسان آخر في مكان بعيد!

المؤكد أن لغز الذاكرة ليس بالبساطة التي يتصورها الإنسان. وبالمقاييس العلمية في النصف الأول من القرن العشـرين لا يوجد دليل مادي قاطع على أن المخ هو مركـز تخـزين الذاكرة, ولا يوجد دليل واحد دامغ على مكان اختزان الذاكرة في المخ!

أين توجد الذاكرة?! سؤال ملح, يبقى بغير إجابة يقينية منذ حاول (أرسطو) الإجابة عنه قبل أكثر من ألفي عام, إلى يومنا هذا!

 

 

عبدالرحمن عبداللطيف النمر