صحة ولياقة

صحة ولياقة

غذاء فلسطين والبوسنة

في لحظات الشدة يبتكر البشر وسائل لمواصلة الحياة, قد تكون هي أكثر ما يناسب الحياة, حتى في ظروف الرخاء!

عندما اعتليت قمة (فراتنك) رأيت سراييفو بشكل (بانورامي) مدهش وبديع, كانت رائعة الجمال في الوادي المحاط بالجبال من كل الجهات, لكن هذا الجمال أثار في النفس كثيراً من الإكبار والشجن عندما طفت على سطح الذاكرة صور الحصار الطويل الأليم, وقد كنت أطل على سراييفو في الأيام الأولى بعد فك ذلك الحصار عنها. كانت مدافع المتعصبين الصرب وبنادق قناصتهم تتسلط على المدينة من فوق قمم الجبال المحدقة, خاصة جبل (إجمان) الشهير الذي ينبع من جوفه نهر (فرولا بوسنا), وكان إدخال الطعام إلى المدينة عصيا كتهريب السلاح إلى المقاومين المحاصرين. راحت المجاعة تزحف كأفعى سوداء عملاقة, تهدد بالابتلاع والسحق كل من صمدوا في المدينة البطلة, أطفالاً ونساء وشيوخا وشباباً, لكن حلاوة الروح الإنسانية انتفضت لترد هذه الأفعى إلى جحرها المظلم تحت مرابض مدافع المتعصبين القتلة.

خضرة تحت القصف

ماذا حدث لينجو سكان سراييفو من الموت جوعاً في تلك الأيام العصيبة?

شيء مدهش.. زرعوا, وحصدوا, وأطعموا أطفالهم وعجائزهم, وأسكتوا صراخ معدهم التي اعتصرها الجوع الطويل. كـيف والمـديـنة مدينة, لا حقول فيها ولا محاريث ولا آلات حصاد?!

ببساطة خارقة, زرعوا كل ما أتيح لهم من أماكن تصلح, أو جعلوها تصلح للزراعة: أسطح البيوت, الشرفات, أصص الزهور, حدائق المنازل, الأرصفة, باحات المدارس, الصناديق, ملاعب الأطفال. واشرأب القمح, وطالت أشجار البقول, وتألقت بين الخضرة حمرة حبات الطماطم وثمار الفراولة, وكانت ثمار البطاطس والبطاطا الحلوة والجزر تنتظر من يخرجها من الأرض الرقيقة, بينما هنا وهناك يكبر ويتفتح الملفوف. لكن هذه الحقول المبتكرة لم تكن تنجو دائما من القصف الخسيس من أعلى, وكان الكثيرون من زارعيها يقضون تحت القصف, لكن الناجين من البشر وهذه الحقول تآزروا معا لتستمر الحياة وينهار الحصار, وتتحرر سراييفو أخيراً.

الشيء نفسه حدث على أرض فلسطين ضمن آليات المقاومة في الانتفاضة الأولى, ولعله يحدث الآن في مواجهة حصار التجويع والحرب القذرة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي وقطعان المستعمرين المسلحين ـ الذين يطلق عليهم اسم (المستوطنين) زيفاً ومخاتلة ـ ضد أبناء الشعب العربي الفلسطيني.

لقد تداعت إلى الخاطر مأثرة سكان سراييفو وأبناء الأرض الفلسطينية المحتلة, عند قراءة تحقيق رئيسي نشرته مجلة الصحة الأمريكية (HEALTH) تحت عنوان: (حصاد الزراعة المنزلية), وتصدرته عبارة لبطلة التحقيق أستاذة التغذية (جوان جوساو) تقول: (البستنة هي أبهج الطرق إلى صحة جيدة).

وبرغم أن بستنة الفلسطينيين والبوسنيين لم تكن اختيارا تحوطه البهجة, إلا أنها تمثل ريادة حقيقية لإنجاز زراعة بيتية بجد, وتحت أسوأ الظروف, مما يوجب علينا أن نمعن في الأمر بجدية.

فلاحة المساحات الصغيرة

في مكان على ضفاف نهر (هدسون) بولاية نيويورك, وفي الحديقة الخلفية الصغيرة لبيت البروفيسورة (جوان جوساو) أستاذة التغذية بكلية المعلمين بجامعة كولومبيا, كانت أشعة الشمس تغسل أوراق الخضراوات اليانعة في الحوض الصغير, والبازلاء والذرة تطلبان الحصاد, أما شجيرات الطماطم التي بلغ طولها خمسة أقدام فكانت تنوء بحملها من الثمار الحمراء الناضجة.. تدعو البروفيسورة زائرها لتذوق الطماطم, إنها حبات مليئة دافئة, لامعة وقانية, ومع أول قضمة يملأ طعمها الحلو الفم, وينساب عصيرها الطازج سخياً.

(هكذا ينبغي أن تكون الطماطم) ـ يقول الزائر, وتعلق (جوساو) مزهوة بإنجازها: (وهكذا ينبغي أن تكون الأفنية في بيوتنا), لقد كرست عقودا من حياتها ناقدة للسياسة الزراعية, وداعية إلى الرجوع لأسلوب فلاحة المساحات الصغيرة واستخدام الطرق التقليدية والعضوية في زراعتها, إذ تعتبرها (ذات أهمية قصوى لصحة النظام الغذائي على المدى الطويل). ومنذ سنوات عديدة, بعد أن تحولت إلى أستاذة متفرغة وبروفيسورة شرفية للتغذية بالجامعة, حاولت أن تطبق عمليا المقولة البيئية: (فكر عالميا وتصرف محلياً), وبمساعدة زوجها حولت الفناء الخلفي لبيتها إلى مزرعة صغيرة بهدف أن يكون طعامهما ـ قدر الإمكان ـ مما تنتجه مزرعتهما الصغيرة تلك. وبالفعل لم يحدث منذ سنوات أن اشتريا ولو حبة بطاطس أو خس أو بصل أو أيا مما يبيعه قسم الخضراوات في السوبر ماركت. وباستثناء بعض الخبز المصنوع محلياً ومنتجات الألبان الطازجة والقهوة العضوية ـ أي التي لم تدخل في زراعتها وإعدادها أي كيماويات ـ نجحا في أن يأكلا بالفعل, وإجمالاً, مما تمنحه أمتار مزرعتهما الصغيرة في الفناء الخلفي.

تقول البروفيسورة (جوساو) وهي تقدم لزائرها حفنة من الفراولة: (الناس يظنون أننا نحرم أنفسنا بالاقتصار على ما تنتجه مزرعتنا الصغيرة, ولكن كل من يأتون إلينا يستمتعون بما يتذوقونه, فدائما وعلى مدار العام يكون لدينا شيء ناضج يحلو تذوقه في موسمه). وعندما يزيد انتاج محصول معين فإن جوساو وزوجها يركزان عليه, فالطماطم كانت وفيرة هذا العام, صنعا منها صلصة وابتكرا أطباقا وساندوتشات عديدة الأنواع, تدخل في تركيبها جميعاً الطماطم. وأثبتا أن اعتماد الإنسان على بعض مما تسخو به الطبيعة في وقت من الأوقات يمكن أن يعيله على مدار العام.

قرب السبعين والصحة أفضل

تضيف أستاذة التغذية التي بلغت الثامنة والستين من عمرها في حيوية وثقة: (إنني الآن أكثر صحة مما كنت في أي وقت من حياتي). وفلسفتها الغذائية من خلال تجربة مزرعة البيت الصغيرة تلخصها بالقول: (كل ما في الأمرأنني آكل الآن طعاماً حقيقياً.. طعاما كاملاً حقيقياً), ولوضع ذلك موضع التطبيق توجه النصيحة التالية: (لا تأكل أي شيء لا يتعرف عليه أسلافك لو أنه قدم لهم. وهذا يعني أن تأكل مزيداً من الخضراوات والبقول والفواكه وقليلا من اللحم والجبن). لكن هذا يعني أيضا وبوضوح ـ وهو ما لم تصرح به وإن ألمحت إليه ـ ألا يأكل الناس تلك الأطعمة مجهولة الهوية التي تقدمها مطاعم (التيك أواي)!

تزكى البروفيسورة الأمريكية كثيرا (الأطعمة العضوية), وهي تلك الأطعمة التي لم تدخل في زراعتها أو تربيتها أو إعدادها أي كيماويات أو وسائل مفرطة التصنيع, أي التي تنعم بالطرق التقليدية وتعتمد كل ما هو طبيعي في توافرها, وليس السبب ـ كما يعتقد عامة الناس ـ أن تلك الأطعمة العضوية مغذية وآمنة أكثر, فالقيمة الغذائية في النباتات تعتمد على عوامل عديدة منها نوعية البذور, والتربة, والظروف المناخية. أما السلامة من تسلل الكيماويات أو الميكروبات فهي ليست مطلقة, لأنها قد تأتي من مياه ملوثة أو أي بقايا في التربة أو حتى الأسمدة والمخصبات العضوية. وتقول: (إن المبادرة الأهم في أن نأكل عضويا ومحلياً, وتبعاً للمواسم هي مبادرة بيئية, تدفع للحفاظ على المزارع العضوية وتعقب الآثار الكيماوية في مياهنا, ومن ثم الحفاظ بشكل ما على الحياة البرية, وفي النهاية القناعة بأن ما نأكله متوافر في عالمنا).

أما عن الفائدة الصحية, تحديداً, والتي تقدمها الزراعة المنزلية فترى جوساو أنها تكمن في أننا سنجد أنفسنا نلتهم منها الكثير, وتبعاً للمواسم, حيث لا وجه للمقارنة بين تلك الخضراوات التي تباع في السوبر ماركت والخضراوات التي تقطف من الحديقة, فالخضراوات الطازجة التي تعتبرها (خضراوات حقيقية), لها مذاق وعبق يغنيان عن إضافة الملح أو السكر أو السمن وغير ذلك من الإضافات التي نثقل بها أطعمتنا حتى تبدو شهية, ومن يتعود على الطعم المميز للخضراوات الطازجة لن يكون في حاجة إلى أي إضافات, وهذا يعلمنا ألا نأكل شيئاً في غير موسمه, لأننا لن نستسيغ بعد ذلك شيئا في غير موسمه.

الرؤية والحركة والوجدان

لقد اقتصر حديث الدكتورة جوساو في مجلة (الصحة) الأمريكية على الجانب الغذائي في العطاء الصحي للزراعة المنزلية, لكن هناك جوانب أخرى جسدية ونفسية, بل وروحية أيضا في هذه التجربة. فالجهد البدني المبذول في إعـداد ورعاية وحصاد هذه المزروعات هو نوع من رياضة الجهاز الحـركي ذات المردود الصحي الإيجابي على الجهاز الحركي نفسه, وعلى القلب والشـرايين والدورة الدموية, ومن ثم على المخ والجهاز المناعي. وإذا أضفنا إلى ذلك أبعاد الارتباط بالإيقـاع الحيـوي الطبيعي اللازم لهذا النشاط, وانعكاسات ألوان المزروعات وتأمل نمائها البكر, لقطعنا بالمردود النفسي الإيجابي, بل الروحي كذلك, لهذا الفعل الجميل والمؤازر لنقاء الفطرة.إنها تجربة جديرة بالانتشار والتحول إلى سلوك صحي وجمالي معتاد, فهي لا تتطلب الكثير. وقد رأيتهم في ألمانيا يصنعون صناديق محكمة, تجمع فيها الأسرة بقايا الأطعمة المتخلفة عن المطبخ والمائدة على مدى شهور, وهي دقيقة الإحكام, تتخمر فيها الفضلات وتتحلل حتى تصير تربة شديدة الخصوبة, يخرجونها ساخنة وقد ذهبت التفاعلات بكل رائحة كريهة فيها, يفرشونها على ألواح في الشرفات أو في الأصص أو في الصناديق أو على أي رقعة متاحة من الأرض, ويزرعونها بالخضر, فتمدهم ـ على الأقل ـ بكل ما يلزم لأطباق السلطة الطازجة الغنية بالفيتامينات والمعادن التي تحتاج إليها الأجسام.

وفي روسيا وما حولها, حيث لا يسمح الشتاء ذو الصقيع والثلوج بزراعة ما يكفي من الخضر, رأيتهم يستنبتون بضع بصلات في أكواب وعلب صفيحية على أرفف المطبخ أو داخل إطار النافذة, ليحصلوا يومياً على (شيء أخضر) يضيفونه إلى طعامهم.

أما نحن, وفي دول عربية معظمها يستورد الكثير من غذائه, فإن حاجتنا إلى نشر الزراعة المنزلية هي حاجة ماسة, صحياً واقتصادياً وأمنياً, ولسنا في حاجة إلى حصار كحصار سراييفو أو حرب قذرة كتلك التي يشنها الكيان العسكري الإسرائيلي على الفلسطينيين, حتى نزرع كل ما يتاح لنا في منازلنا من أماكن, لأننا واقعون بالفعل تحت الحصار وفي مرمى نيران حرب قذرة, غذائيا, تحاصرنا كل هذه الأغذية اللقيطة في مطاعم الوجبات العولمية السريعة, وتقصفنا نفايات الطعام المصنع حتى الموات والملوث بما نعلم وما نجهل من ميكروبات وإشعاع وسموم كيميائية. فهل نبدأ? وهل تبدأ قبلنا السياسات العربية في مجالات الزراعة, والبيئة, والصحة بالطبع?

نأمل ذلك.

تحت الطلب

في الولايات المتحدة ينتشر أكثر من ثلاثة آلاف متجر مكرسة لبيع مستلزمات الزراعة المنزلية من بذور وتربة وصناديق ومخصبات زراعية طبيعية. ويستطيع كل من يشاء أن يحصل على الكتيب الإرشادي لهذه الزراعة مجاناً بمجرد طلب ذلك بالهاتف أو بالبريد.

أما نحن فنكتفي بالهامبورجر, والحبوب المحفوظة بالإشعاع, والقمح الملعوب بمورثاته!

 

محمد المخزنجي

 
 




احرق المتعصبون سراييفو فزرعها المحاصرون





من يتذوق الأطعمة الطازجة يستغن عن الإضافات كالسكر والملح وغيرهما





البروفيسورة جوساو.. تزهو بثمار حقلها الصغير الصحية





تحت وطأة العدم زرع الصامدون طعامهم العضوي





في الامتداد الرأسي تتعلق ثمار الزراعة المنزلية مضاعفة المساحة المزروعة





في أسواق القرى أو البلدات نتعرف على ثمار الموسم، وهذا لا يحدث في السوبر ماركت