الشعر الفكاهي

 الشعر الفكاهي

إن أكثر الشعر العربي فكاهة وسخرية, إنما يقوم على خرق المحظورات الثلاثة: الجنس والدين والسياسة. ومن اللافت للنظر أن كتب التراث العربي قد حفلت ـ أكثر ما حفلت ـ بالشعر القائم على تناول المحظور الجنـسي, فيما عرف باسم شعر الخلاعة والمجـون. ويبدو أن القدماء كانوا من السماحة واتساع الأفق مما جعلهم يبررون ذلك تبريرا منطقيا وواقعيا, يقول ابن قتيبة (ت 276 هـ):

(وسينتهي بك كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة, وما روي عن الأشراف والأئمة فيهما, فإذا مر بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تضحك منه أو له, فاعرف المذهب فيه وما أردنا به.. وإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعر خدك وتعرض بوجهك, فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم, وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب). وهو ما يؤيده فيه الحصري القيرواني والثعالبي والنويري وغيرهم كثير.

وضروب الشعر الفكاهي التراثي متنوعة, تبدأ بالسخرية من الذات أو التهكم على حالها, وتنتهي بنقد المجتمع وفضح المسكوت عنه من وراء قناع (كوميدي), مروراً بفنون الهزل والعبث ومنطق اللا منطق, إلى جانب فنون أخرى كالدعابات والمعارضات الشعرية الساخرة, ونسوق إن شاء الله في هذه الحلقة شيئا من هذا كله.

من دعابات أبي دلامة

خرج الخليفة المهدي وعليّ بن سليمان في رحلة صيد, فلما أجريت الخيل وأرسلت الكلاب رمى المهدي سهما فأصاب ظبيا, ورمى على بن سليمان سهما فأصاب بعض كلابه فقتله, فقال أبو دلامة, مضحك الخليفة:

قد رمى المهدي ظبيا شك بالسهم فؤاده
وعلى بن سليمان رمى كلبا فصاده
فهنيئا لهما, كل امريء يأكل زاده

فضحك المهدي حتـى كـاد يسـقط عن سرجه

من فكاهات الأعراب:

قال الأصمعي: أتيت البادية, فإذا أعرابي قد زرع برا فلما استوى وقام على سنبله مر به رِجْل (فوج هائل) من جراد وتضيفوا به فأتوا على الأخضر واليابـس, فجعـل الأعرابي ينظر إليه ولا حيلة له. فأنشأ يقول:

مرَّ الجراد على زرعي فقلتُ له ألمم بخير ولا تلمم بإفساد
فقال منهم زعيم فوق سنبله إنا على سفر لابد من زاد

من غريب اللغة

قال الخليفة المتوكل لمضحكه أبي العنبس الصيمري (وكان قد أنشده قصيدة طريفة في رثاء حماره) مستفسراً عن سبب موته, وما كان من شعره في الرؤيا التي رآها. قال الصيمري متظاهرا بالحزن على موت حماره: نعم يا أمير المؤمنين, كان أعقل من القضاة, ولم يكن له جريرة ولا زلة, فاعتل علة على غفلة فمات منها, فرأيته فيما يرى النائم فقلت له, يا حماري ألم أبرد لك الماء, وأنقل لك الشعير, وأحسن إليك جهدي? فلم مت على غفلة? وما خبرك? قال: نعم, لما كان في اليوم الذي وقفت على فلان الصيدلاني تكلمه في كذا وكذا, مرت بي أتان حسناء, فرأيتها فأخذت بمجامع قلبي, فعشقتها واشتد وجدي بها, فمت كمدا متأسفا. فقلت له: يا حماري, فهل قلت في ذلك شعراً? قال: نعم, وأنشدني:

هام قلبي بأتانِ عند بابِ الصيدلاني
تيمتني يوم رُحنا بثناياها الحسان
ويخدين أسيليـ ن كلونِ الشنقراني
فبها متُّ ولو عشتـ تُ إذن طال هواني

قال: قلت يا حمار, فما الشنقراني? فقال: هذا غريب الحمـير (أي من غريب اللغة عندهم). فطرب المتوكل وأمر الملهين والمغنين أن يغنوا في ذلك اليوم بشعـر الحمـار, وفرح في ذلك اليوم فرحاً شديداً, وسـر سروراً لم ير مثله. (والشنقراني: كلمة لا معنى لها. والأتان أنثى الحمار).

وبمناسبة موت هـذا الحمار (شهيد الهوى) فما أكثر ما قيل في تراثنا من شعر في (رثاء الحمير), لأسباب مختلفة, شكلـت في مجموعها غرضا شعريا طريفا, مشبـعا بالمضامين الإنسانية, ومفعما بالدلالات الرمزية في آن.

من الوصايا الضاحكة

كثيرة هي الوصايا الشعرية الهزلية في تراثنا الضاحك, نذكر منها على سبيل المثال قصيدة طفيل العرائس ـ رأس الطفيليين وإليه ينسبون ـ في التطفيل, وقد اشار إليها الجاحظ, وفيها يوصي ابنه وسائر الطفيليين عندما حضرته الوفاة, حتى يحافظوا على سنن التطفيل وتقاليده المرعية. ومنها أيضا قصيدة أبي الأحنف العكبري (ت 365 هـ) شاعر المكدين وظريفهم, يوصي فيها بالحفاظ على (دستورهم) في السؤال والاحتيال, ويفصح لهم عن أساليب الخداع من أجل تحصيل المال الوفير بلا كد ولا عمل. ومنها أيضا قصيدة أبي دلف الخزرجي (390 هـ) الشهيرة في الكدية أيضا وأنواعها وأساليبها ومصطلحاتها ورموزها ولغتها السرية. ومثل هذه القصائد الطريفة ـ على طولها ـ وغيرها كثير, تشكل كل واحدة منها مشهدا فكاهيا (كوميديا) متكاملا يصعب نقله أو ابتساره هنا, ولكن يمكن العودة إليها في مظانها ولاسيما يتيمة الدهر للثعالبي (ت 429هـ) باعتبارها درة كتب الشعر الفكاهي في تراثنا الضاحك.

من المعارضات الساخرة

أدب المعارضات الشعرية فن قديم في التراث العربي, يقوم ـ في عصوره الأولى ـ على المحاكاة الجادة في معظم الأحيان, لكنه مع بداية عصور المماليك تحول إلى المحاكاة الهزلية, حتى أصبحت المعارضات الساخرة فنا قائما بذاته, ليس عماده (التناص) مع الوزن والقافية فحسب, فهذا أمر مفروغ منه, ولكن أصبح شعراؤه يتوسلون في بنية النص الأسلوبية بمستويين من مستويات اللغة هما المستوى الفصيح الذي يحاكي فيه النص الأصلي بلغته الرفيعة, وتضمين مفرداته وتراكيبه الموروثة, والمستوى الآخر الذي يستخدم المفردات والتراكيب والألفاظ السوقية الدارجة ـ على فصاحتها ـ في لغة الحياة اليومية, وعندئذ تبدو المفارقة ـ جوهر فن المعارضات ـ قائمة جلية بين النص الأصلي والنص الزائف. وشـتان بين نص (جليل) اكتسب قدرا كبيرا من قداسة الموروث ووقاره, ونص هازل معارض, مستحدث. ومثل هذه المفارقة بينهما ـ الأصيل والزائف ـ من شأنها أن تثير الضحك والفكاهة والسخـرية جميعا. ومن أشهر الشعراء في هذا المجال أبو الحسين الجزار, والسراج الوراق, وابن دانيال الكحال, وابن المعمار وغيرهم. مثال ذلك معارضة الجزار لمعلقة امريء القيس الشهيرة في قصيدة طويلة على غرار المعلقة, يصور فيها حـاله, ومطلعها:

قفا نبك من ذكرى قميص وسروال ودراعة لي قد عفا رسمها البالي

ومن المعارضات الشهيرة التي تغني بها أبطال مسرح خيال الظل تلك التي عارض فيها ابن دانيال معلقة طرفة, ومطلعها:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

فقال ابن دانيال على لسان أحد أبطاله قصيدة طويلة, مطلعها:

أمسيت أفقر من يروح ويغتدى ما في يدي من فاقتي إلا يدي
في منزل لم يحو غيري قاعداً فإذا رقدت رقدت غير ممدد

هذا تيار آخـر شـديد الطرافة, قوامه التحامق والعبث ومنطق اللا منطق وادعاء المعرفة الزائفة, وكأنها كشف الكشوف, وقد ولد هذا التيار على يد الشاعر المعروف صريع الغواني (265 هـ) الذي اشـتهر بمعارضته الهزلية لمقصورة ابن دريد, ثم ذاع في العصر المملوكي, وبلغ أوجـه عنـد ابن سـودون المصري (810 ـ 868 هـ) وله ديوان كامل في هذا الباب الذي كان يسميه (فن الخراع) ولنقرأ مطلع بعض قصائده التي كان ينشدها بشكل تمثيلي أمام الجمهور:

الأرض أرض والسماء سماء والماء ماءٌ والهواء هواء
والبحرُ بحرٌ والجبالُ رواسخ والنور نورٌ والظلام عماءُ
والحرُّ ضد البرد قولٌ صادق والصيفُ صيفٌ والشتاء شتاءُ.. إلخ

وفي ختام الحديث عن تراثنا الضاحك, نقول مع القائلين بحق: إن الفكاهة مرآة النفوس وحكمة الشعوب وروح الأمم الحية.

ملحة الوداع

قال ابن قتيبة: سمع كسرى الأعشي وهو ينشد, فقال: من هذا? فقالوا مغني العرب, فأمره أن يغني, فأنشد:

أرقتُ وما هذا السهاد المؤرّق وما بي من سُقم وما بي معشق

فقال كسرى: فسروا لنا كلامه, فقـالوا: إنه سهر من غير من مرض ولا عشـق. فقال كسرى: إن كان قد سهر من غير مرض ولا عشق, فهو لص!

 

محمد رجب النجار