أمـريـكا والإسلام السياسي: صدام الحضارات أم صراع المصالح؟
أمـريـكا والإسلام السياسي: صدام الحضارات أم صراع المصالح؟
من المكتبة الأجنبية تأليف: فواز ما هي المناقشات التي تدور في الولايات المتحدة بشأن السياسات التي يجب اتخاذها إزاء النزعة الإسلامية? وما هي أصول هذه السياسات? ثم ما هي العوامل الإقليمية والدولية العديدة التي تشكل الإطار المحدد للسياسة الأمريكية تجاه الإسلام السياسي في الشرق الأوسط? من المفارقات, أن الولايات المتحدة كانت في الخمسينيات والستينيات, تأمل في إقامة حلف للدول الإسلامية لمواجهة الشيوعية المحلية, والقوى العلمانية. وفي منتصف الستينيات, كان أحد أسباب تدهور العلاقات الأمريكية ـ المصرية, اعتقاد ناصر برعاية أمريكا لتحالف إسلامي لعزل مصر عن العالم العربي. في تلك الاثناء اتخذت الولايات المتحدة موقفاً عدائيا من القومية العربية, بينما اعتبرت السياسة الإسلامية تعمل في خدمة المصالح الغربية, وكانت السياسة الأمريكية مدفوعة باعتبارات الحرب الباردة, ولم يكن هناك أي تخوف من الإسلام. لكن الأوضاع تغيرت في السبعينيات, حيث خاض (أنور السادات), الحرب ضد إسرائيل تحت راية (الإسلام), وفي تلك الأثناء, كان الحظر النفطي, ثم استخدام الرئيس (معمر القذافي), رموزاً إسلامية, وأعلن أن (الإسلام دين الرجل الأسود في إفريقيا, في وقت قامت فيه الثورة الإيرانية. التي كان لها أكبر الأثر من بين مختلف التطورات التي شهدتها المنطقة في السبعينيات. ولعبت دوراً بارزاً في تشكيل التفكير الأمريكي نحو الطبيعة العنيفة للإسلام المعادي لأمريكا. خاصة بعد أزمة الرهائن الأمريكيين الذين احتجزتهم إيران 444 يوماً وأثارت عداء حاداً لدى الأمريكيين وإحساساً بالعجز. واشتد قلق المسئولين الأمريكيين من تصدير الأصولية الإيرانية بعد اغتيال الرئيس المصري (أنور السادات) عام 1981, والاعتداءات الدامية على الأفراد والمنشآت الأمريكية في لبنان والكويت وغيرهما من دول المنطقة. في هذا الإطار, اعتبر وارين كريستوفر, وزير الخارجية الأمريكية, أن إيران هي الراعي الأول للإرهاب في العالم. وتفاقم الأمر في التسعينيات بنسف مركز التجارة العالمي عام 1993 في فبراير, وأدين فيه عشرة من المسلمين بتهمة شن حرب المدن ضد أمريكا. وكشف استطلاع للرأي على أثر ذلك, أن المسلمين يحتلون رأس قائمة الجماعات غير المقبولة, المعادية لأمريكا وللغرب. انهيار المساعي ويعد هذا التفجير أيضا, نكسة لجهود حكومة (كلينتون) لوضع سياسة إيجابية توافقية مع العالم الإسلامي.. وارتبط ذلك بظهور (حماس) في الضفة الغربية و (حزب الله) في لبنان, والجماعات الإسلامية المتطرفة في الجزائر والسودان. كما أتاح الفرصة لدعاة المواجهة في داخل أمريكا وخارجها للدعوة لاتباع سياسة عنيفة ضد الإسلاميين. وأصبح المسلمون في الولايات المتحدة أهدافا للتحرش بعد الانفجار في مدينة أوكلاهوما عام 1995. أما عن دور إسرائيل وأصدقائها, فيشير الكتاب الذي بين أيدينا والصادر باللغة الإنجليزية سنة 1999 في الولايات المتحدة إلى قول الكاتب الإسرائيلي حاييم بارام, إنه منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط الشيوعية, حاول زعماء إسرائيل حشد الولايات المتحدة وأوربا في المعركة ضد الأصولية الإسلامية وصوروها على أنها أكبر عدو للحياة, لإقناع الرأي العام وصانعي السياسة الأمريكية بالقيمة الإستراتيجية المستمرة لإسرائيل. ويؤكد ذلك قول الرئيس الإسرائيلي الأسبق هرتزوج, أمام البرلمان البولندي عام 1992 إن وباء الأصولية الإسلامية ينتشر بسرعة ولا يمثل خطرا على الشعب اليهودي فحسب, بل وعلى البشرية جمعاء. وقال شيمون بيريز, رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق, لقد أصبحت الأصولية الخطر الأعظم في عصر ما بعد انهيار الشيوعية. في هذا الصدد, يقول أحد كبار المسئولين في وزارة الخارجية الأمريكية إننا نتأثر بشكل كبير بتعريف الإسرائيليين للإسلاميين. كما يؤكد آرثر لوري, الموظف بالخارجية, أن سياسة كلينتون القائمة على الاحتواء المزدوج لإيران والعراق, وإعلانه عام 1995 عن حظر تجاري تام على إيران, تأثرت بجهود اللوبي الصهيوني وضغوط أصدقاء إسرائيل. قال الرئيس الأسبق (رونالد ريجان), إننا نشاهد احتمالات وقوع حرب دينية, بعد أن عاد المسلمون إلى الفكرة القائلة بأن الطريق إلى الجنة هو الاستشهاد في حرب ضد اليهود. في هذا الإطار يشير المؤلف إلى أنه عند صعود الحركة الإسلامية للحكم في إيران, لم يكن لأي من كارتر, وريجان سياسة واضحة نحو الإسلام السياسي. فقد كانا منهمكين في التنافس مع الاتحاد السوفييتي وفي سياسات الحرب الباردة, وكانت الشيوعية هي العدو وليست الصحوة الإسلامية. بل كانا يتحالفان مع الإسلاميين ضد السوفييت. والدليل على ذلك, التعاون المشترك مع المجاهدين الأفغان. إن سقوط الشاه كان كارثة استراتيجية للولايات المتحدة, وكارثة سياسية لكارتر نفسه, لولاه لكان التعاون بين الإسلاميين وأمريكا اتخذ مسارا أكثر ارتباطا. وجاءت أزمة الرهائن الأمريكيين, فزادت الطين بلة. ودق سايروس فانس وزير الخارجية الأمريكية آنذاك ناقوس الخطر عندما قال: يجب أن نكون حذرين وحازمين في التعامل مع هؤلاء المتعصبين الذين لا يمكن التنبؤ بأفعالهم. رغم كل ذلك, أدى الغزو السوفييتي لأفغانستان في ديسمبر 1979 إلى القول بأن الصدام مع المعسكر الشيوعي يمثل الأولوية الأكبر. وقال كارتر, إن غزو السوفييت لأفغانستان أخطر تطور يشهده العالم منذ أن تولى الرئاسة, وأن السياسيين الأمريكيين انشغلوا في كيفية استخدام الصحوة الإسلامية وتوظيفها ضد الخطر الشيوعي كما استخدموا الإسلاميين ضد القومية العربية والعلمانية في الستينيات. هذا في عهد كارتر.. أما في عهد ريجان فقد أصبحت التصريحات الرسمية أكثر شدة وعداء ضد الإسلام السياسي, فشبه وزير الخارجية جورج شولتز, الأصولية الإسلامية بـ (التطرف الراديكالي), ووصف وزير الدفاع كاسبر واينبرجر الشيعة بأنهم أشد الطوائف الإسلامية تعصبا وعداء للغرب. وفي البيان الذي ألقاه ريجان, عقب قصف الولايات المتحدة لليبيا عام 1986, وصف الرئيس الليبي معمر القذافي بأنه بربري, وزعم أن الإرهاب الليبي جزء من الحركة الأصولية الإسلامية العالمية. ورغم ذلك, كان ريجان يعتبر الشيوعية السوفييتية العدو الحقيقي. وساند المجاهدين الأفغان ضد الاتحاد السوفييتي, ولكن بعد هزيمة النظام السوفييتي والنظام التابع في كابول, انفجر غضب الأفغان وأثاروا القلاقل ضد بعضهم البعض, وضد أهداف أخرى في الشرق الأوسط. ووجه أصدقاء الولايات المتحدة اللوم لها لأنها وضعت أساسا لشبكة ارهابية في المنطقة من خلال تأييدها للمجاهدين الإسلاميين, وإقامتها تحالفا من بعض الجماعات والبلدان الإسلامية من أجل محاربة ما أسماه بـ (إمبراطورية الشر). كما تبادلت الولايات المتحدة السلاح مع إيران في مقابل إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين في لبنان, حيث كانت حكومة ريجان ترى ضرورة تحسين العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية في اطار تطويق النفوذ السوفييتي. وقد أدت فضيحة إيران جيت إلى اضطرار ادارة ريجان, لوقف التعاون مع إيران والتحول باتجاه العراق في حربها ضد إيران. من الخطرالسوفييتي إلى الإسلامي على خلاف كارتر وريجان جاء بوش عام 1989, عام بداية انهيار دول شرق أوربا والاتحاد السوفييتي من بعدها. وتصاعد مخاطر الجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط, وخاصة في مصر وتونس والأردن, وقيام انقلاب عسكري ديني في السودان عام 1989, ثم تصاعد نشاط جبهة الإنقاذ في الجزائر أواخر 1991, مما أغرق البلاد في حرب دموية. وشرعت حكومة بوش في وضع رؤية وسياسة إزاء التعامل مع الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط, تجسدت في انتهاء الوفاق الإسلامي ـ الأمريكي في مواجهة الشر الشيوعي, والشروع في مواجهة شر الجماعات الإسلامية والإسلام السياسي في الشرق الأوسط, ولو تم ذلك على حساب دعم الانقلاب العسكري في الجزائر والتخلي عن نتائج الانتخابات التي أفرزت الأغلبية لجبهة الإنقاذ الإسلامية. ووجدت مخرجها ومبررها في أن أولئك الإسلاميين يتخذون الديموقراطية مطية للوصول إلى الحكم, ثم ينقلبون عليها. وبناء عليه آثرت الحفاظ على حلفائها في المنطقة والتعاون معهم عن المغامرة بقبول حكم إسلامي في بلدان مثل الجزائر أو تونس أو مصر. والأهم أن بوش وبيكر تركا نظرة سياسية شاملة للشرق الأوسط تبشر بالكثير من الأمل. فالتحالف الدولي الذي أقامه بوش حرر الكويت, وأنزل هزيمة كبيرة بـ (صدام حسين), ونجح بوش وبيكر في الرد على النقد الموجه من العرب والعالم الثالث إلى الموقف الأمريكي الذي يميل نحو إسرائيل ودفع حكومة الليكود برئاسة إسحق شامير للمشاركة في مؤتمر مدريد عام 1991, فضلا عن مساعي تخفيف حدة التوتر مع إيران. رغم ذلك ظلت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط محكومة بالتناقض بين الحاجة الضرورية للاستقرار والحاجة الأقل للتغيير. فإذا كانت الولايات المتحدة ترغب في التغيير إلا أنها تخشى احتمالات سيطرة قوة راديكالية جديدة تكون معادية للولايات المتحدة. في هذا الإطار, أطلت المشكلة الإسلامية برأسها من جديد لتواجه كلينتون. وعبر كل من أنتوني ليك, وروبرت بيلترو عن السياسة الأمريكية. بوضوح في عهد كلينتون باعتبارهما مسئولين في الخارجية الأمريكية وحدد ليك عام 1994 الخطوط بوضوح فهناك دول رجعية متشددة: إيران, والسودان, والعراق, وليبيا لابد من احتوائها وعزلها لأنها ترعى الإرهاب, وهناك دول معتدلة تسعى لتشييد اقتصادات السوق وتوسيع الديموقراطية ووقف انتشار اسلحة الدمار الشامل. لقد ردد كلينتون القول بأن عدونا في الشرق الأوسط هو التطرف ورفض فكرة صراع الحضارات, كما قال إن الصراع الجاري لا صلة له بالإسلام, لكنه صراع مع القوى المتطرفة التي تتستر بالدين وبالقومية. وأضاف أن ذلك يتعارض مع تعاليم الإسلام. وأكد أن الإسلام قوة كبيرة للتسامح والاعتدال في العالم. وفي هذا الإطار أشاد أكثر من مرة بباكستان وتوجهاتها المعتدلة, وبتركيا وإندونيسيا. على الطرف الآخر, وقف مارتن إنديك المسئول عن شئون الشرق الأوسط في البيت الأبيض, وقف يدعو إلى أن التحدي الذي يواجه أمريكا في الشرق هو مساعدة الدول الصديقة على احتواء التطرف. وقد سبق له أن ابتكر مفهوم الاحتواء المزدوج, لإيران والعراق كوسيلة لعزل المتطرفين الدينيين وهزيمتهم. ويقول ويليام كوهين إن انديك أحد المسئولين القلائل الذين يعتبرون الإسلام السياسي خطراً. وقد أدى وجوده إلى تشدد موقف الإدارة الأمريكية ضد الإسلاميين. وإن كانت هناك أصوات سائدة في إدارة كلينتون تقول: نحن على استعداد للتعايش مع النظم الإسلامية مادامت لا تهدد أو تعادي مصالحنا الحيوية, وليس لدينا اهتمام حقيقي بحقوق الإنسان في الشرق الأوسط. وهكذا يبقى الشرق الأوسط بالنسبة للأمريكيين, خلافا لمناطق أخرى, خارج دائرة الديموقراطيات. وقبلت حكومة كلينتون مقولة الانتقال البطيء والمتدرج والحذر للديموقراطية في الشرق الأوسط. بدعوى أن الديموقراطية قد تفتح الطريق للإسلاميين المتطرفين للوصول للسلطة. خيبة الأمل والفقر في أواخر 1994 قال كلينتون إن خيبة الأمل والفقر والعزلة, أرض خصبة لإذكاء نار العنف في الشرق الأوسط. ودعا لنشر الرخاء والأمن, لنزع فتيل احتمالات الصدام بين الغرب والعالم الإسلامي. وإن كانت إدارته لم تتوقف عن إدانة الحركات الإسلامية المتطرفة, أي أنها رسمت خطوطا فاصلة بين الإسلاميين المعتدلين والإسلاميين المتطرفين. وفي هذا الإطار, يقدم الكتاب دراسات عن سياسات إدارة كلينتون إزاء إيران والجزائر ومصر وتركيا. فإدارة كلينتون كانت الإدارة الأمريكية الوحيدة التي قررت مجابهة إيران بدلا من محاولات استمالتها. وشنت منذ عام 1995 حربا اقتصادية وسياسية ضد النظام الإيراني. واتهم الرئيس الأمريكي إيران بلعب دور نشيط ضد عملية السلام بين العرب وإسرائيل, وأنها تؤيد الإرهاب الدولي, وتسعى للحصول على أسلحة نووية, وبذلك أصبحت, على حد قوله, خطراً يهدد العالم برمته. هذا بينما كانت الصادرات الأمريكية إلى إيران قد ازدادت بشكل مطرد في أوائل التسعينيات, وبلغت بليون دولار في 1993. وكانت الشركات الأمريكية أكبر مشتر للنفط الإيراني. واحتلت أمريكا المركز الثامن لأكبر المصدرين إلى إيران. ولهذا السبب اتهم الأوربيون الولايات المتحدة بالنفاق في تعاملها مع إيران. لكن كلينتون أعلن في أبريل 1995 الحظر الكامل على التجارة وعلى الاستثمارات الأمريكية في إيران, ثم أصدر قوانين عقوبات شاملة في أغسطس 1996 لمعاقبة الشركات الأجنبية التي تستثمر في إيران أكثر من 40 مليون دولار. وفي الكونجرس, دعا كريستوفر في يناير 1995 إلى عزل العراق وإيران إلى أن يتم تغيير حكومتيهما. ويؤكد الكتاب أن الخطر الإيراني, ليس أكثر من خرافة ومبالغات تتجاوز الحقيقة. فالواقع أن اللغة الثورية للجمهورية الإسلامية لم تجد تعاطفا لدى الشيعة في المنطقة, ولم تحقق نفوذاً سياسيا واضحا في المنطقة. بل خفت بريق رجال الدين داخل إيران نفسها. ومع انتخاب محمد خاتمي رئيساً في مايو 1997, تقدم بمبادرات تصالحية مع الولايات المتحدة, وأعلن احترامه لشعب الولايات المتحدة العظيم. وعمل خاتمي ببطء على إعادة السياسة الخارجية الإيرانية إلى طبيعتها, وعلى إعادة الروابط القوية بجيران إيران العرب, وخاصة المملكة العربية السعودية ومصر. ووصف كلينتون انتخاب خاتمي بأنه مشجع للآمال. هذا في الوقت الذي يشكو فيه حزب الله اللبناني من انخفاض الدعم المادي الإيراني, بينما تعتمد حماس, في تمويلها على الفلسطينيين انفسهم. كما صرح الرئيس السابق رافسنجاني عام 1996 بأن إيران تعارض الإرهاب ولو كان من حماس. الجزائر والهوية لم تحتل الجزائر من قبل مكانة بارزة في التفكير الأمريكي, لكن الأزمة الجزائرية الراهنة تؤثر في المصالح الأمريكية في شمال إفريقيا, فضلا عن هواجس أخرى تتعلق بالأمن الأوربي, بسبب طوفان اللاجئين الجزائريين إلى أوربا, وزيادة نفوذ الحركات الإسلامية في شمال إفريقيا. وعلى خلاف بوش, تبنى كلينتون استراتيجية توافق واعتدال إزاء المعارضة الإسلامية في الجزائر, كما كانت تمثلها جبهة الإنقاذ. فقد كان بوش يتخذ موقف فرنسا المؤيد للحكومة العسكرية التي استبعدت الأصوليين الراديكاليين. بينما سعى كلينتون وإدارته للموازنة بين الطرفين الحكومي والإسلامي في الجزائر وحاولا دفعهما للبحث عن حل وسط. فضغطت على الحكومة بهدوء للمضي قدماً في الانتخابات الملغاة, ومن أجل إصلاح اقتصادها, والبدء في مفاوضات مع غالبية المعارضة الإسلامية. وفي أواخر 1993, بدأت الحكومة الأمريكية محادثات حذرة مع ممثل جبهة الإنقاذ الجزائرية أنور هدام, وسمحت له بالإقامة في أمريكا. وأيدت واشنطن العناصر الإسلامية المعتدلة في المعارضة الجزائرية بهدف ترتيب لمشاركتهم في السلطة. وفرقت أمريكا دائما بين العناصر المعتدلة والعناصر المتطرفة المسلحة, ودعت للحوار مع الجبهة, وأكدت أكثر من مرة أن البدائل المناسبة لاحتواء العنف هي بدء حوار بين مختلف قطاعات المجتمع, وفتح أبواب الساحة السياسية, من خلال قبول البرنامج الوطني الذي قدمته أحزاب المعارضة الرئيسية التي اجتمعت في روما عام 1995. وإن كانت أمريكا اعتبرت الأزمة الجزائرية شأنا أوربيا, إلا أنها خشيت تأثيرها في دول الجوار, ولذلك بذلت المساعي لدعم أنظمة دول الجوار حتى لا تمتد إليها الأزمة. ومن جانبها, حافظت جبهة الإنقاذ الوطني على عدم التعرض للرعايا الأمريكيين في الجزائر, والحفاظ على الحوار الدائم بينهم وبين واشنطن. خاصة أن غالبيتهم تربوا في أفغانستان تحت الرعاية المباشرة للمخابرات المركزية الأمريكية, وقت أن كانت تكافح السوفييت بواسطة المجاهدين المسلمين. واضطرت أمريكا إلى أن تحزم أمرها عام 1996, وانحازت إلى حكومة الرئيس زروال, ونفضت يديها من جبهة الإنقاذ, واستمالوا فرنسا لسياستهم. ولم يعد المسئولون الأمريكيون يخشون من احتمالات تحقيق الإسلاميين لنصر في الجزائر. فقد خسرت أشد الجبهات عنفا التأييد الشعبي, ونال منها الضعف, ليس فقط نتيجة للقمع, ولكن أيضا نتيجة تصاعد حدة المنازعات في صفوفها. كذلك مع مجيء زروال, أبرمت شركات بريطانية وفرنسية وأمريكية مع الحكومة الجزائرية صفقات في مجال الطاقة ببلايين الدولارات. ولا يمكن أن تنفق 330 مليون دولار كل عام على مدار سبع سنوات في بلد, إلا إذا كنت تثق في استقرار حكومتها. مصر والمواجهة أما في مصر, فقد نجحت حكومة الرئيس مبارك في احتواء خطر العناصر الإسلامية المتطرفة, مثل الجماعة الإسلامية والجهاد. وحققت الحكومة نجاحا كبيرا في إخماد حملة العنف التي تقوم بها الجماعة وراح ضحيته 68 من الأجانب والمصريين, استبعد مبارك حدوث حوار مع الإسلاميين المتشددين, وقال: دخلنا معهم في حوار طوال أربعة عشر عاما, وفي كل مرة كنا نتعامل معهم, كانوا يزدادون قوة. واتهم مبارك كلا من ايران والسودان والمجاهدين الأفغان برعاية الإرهاب في مصر وغيرها من بلدان المنطقة. كما حمل بغضب على بريطانيا ودول أوربية أخرى لمنحها اللجوء السياسي لإرهابيين مصريين, وأعرب عن اعتقاده بأنه لو تعاون العالم ضد الإرهاب, لما وقع حادث الأقصر. واتهم أمريكا بإجراء اتصالات سرية مع إرهابيين من الإخوان المسلمين. والحقيقة أنه بينما كانت الحكومة المصرية تقاتل الجهاد والجماعات المتطرفة الأخرى, كان الإخوان المسلمون يقدمون أنفسهم كقوة سياسية بديلة وصوت معتدل. وهم الطرف الرئيسي المستفيد من المواجهة بين الدولة والجماعات. وبسرعة تبنت الإدارة الأمريكية موقف مبارك, وأكدت واشنطن أن مصر نجحت في معركتها مع الإرهاب. وعلى خلاف إيران والجزائر ومصر, تمثل تركيا حالة فريدة في محاولة بلد إسلامي علماني للتوفيق بين الدين والعلمانية في نطاق ديموقراطي, إذ قام الإسلاميون والصفوة الحاكمة العلمانية المسيطرة بمحاولة قصيرة الأجل للتعايش سياسيا والمشاركة في السلطة أيضا. والمدلولات مهمة جدا بالنسبة لتركيا والدول الإسلامية الأخرى على المستويين العملي والنظري, فهذا ينطوي على إيجاد توازن بين الدين والعلمانية وتحديد العلاقة المناسبة بين المنشآت العسكرية والمدينية في مجتمعات ديموقراطية, وفحص التوافق بين الإسلام والديموقراطية, وموازنة الايديولوجيا في العلاقات المحلية والدولية. ويطرح قيام حزب إسلامي (الرفاه الإسلامي) أسئلة مهمة بالنسبة لعلاقات تركيا مع الدول الغربية, والولايات المتحدة على نحو خاص.. يعيد الكتاب طرحها ويسعى للإجابة عنها, وتتعلق بنظرة الحكومة الأمريكية للظاهرة الإسلامية في تركيا, ورد الفعل الأمريكي تجاه حكومة في أنقرة يأتلف فيها الإسلاميون, واختلاف الموقف الأمريكي بشكل بيّن عن موقفها تجاه الإسلاميين في مصر والجزائر. ويخلص إلى أن العسكريين يشكلون رادعا أساسيا ضد أي محاولة لإقامة دولة إسلامية في تركيا, فضلا عن القيود المفروضة على حزب الرفاه, لوجوده ضمن ائتلاف حكومي يحد من حريته, ذلك ما دفع أمريكا للاطمئنان والإعلان عن تأييدها لمجيء الإسلاميين للحكم بوسائل ديموقراطية. بعيدا عن الديموقراطية في النهاية, يرى المؤلف أن الولايات المتحدة تفتقر إلى وجود سياسة شاملة منطقية بالنسبة لدور الإسلام في السياسة, وهناك ثلاثة عوامل تفسر عدم وجود هذه السياسة, الأول غياب الرؤية الشاملة للسياسة الخارجية لدى حكومتي بوش وكلينتون. يضاف إلى ذلك, أن وزيري خارجيتهما, يفضلان معالجة المشكلات وفقا للظروف دونما الانطلاق من مفاهيم ومباديء مسبقة وعامة. ومن ناحية ثالثة, يدرك المسئولون الأمريكيون أن الحركات الإسلامية ليست موحدة, بل منقسمة بصورة عميقة. وبالتالي تتعامل الولايات المتحدة مع الإسلاميين على أساس كل حالة بحالتها. وطبقا لأقوال وأفعال كل منهم. هذا فضلا عن أن الإسلاميين أثبتوا أنهم ألد أعداء أنفسهم, باتخاذهم مواقف غامضة إزاء مباديء الديموقراطية والعلاقات مع الغرب واستخدامهم الترويع لتحقيق أهداف سياسية داخلية. مما أتاح الفرصة لمن يسعون إلى اعتبار الخطر الإسلامي هو العدو الجديد. بالإضافة إلى أن بعض الإسلاميين مثلهم مثل نظرائهم الغربيين يدقون طبول حرب حضارية بين الشرق والغرب. لكن ذلك يتناقض مع قول المؤلف السابق بأن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تتغاضى عادة عن مباديء الديموقراطية وحقوق الإنسان.
|