الأب.. والصحة النفسية لأطفاله

الأب.. والصحة النفسية لأطفاله

كلما تقدم العمر بالطفل, يصبح من الضروري تعليمه توزيع حبه على كل من الأب والأم والأشقاء بدلاً من قصر تلك الدائرة على الأم وحدها

في السابق كان ينظر للأب باعتباره العضو الذي يقوم بإنزال العقاب على الأطفال كلما أخطأوا, ولكن مع تقدم الأساليب التربوية الحديثة, فإن وجود الأب في حياة الطفل أخذ اهتماما أكبر وأعمق من كونه المتولي شئون الإنفاق على الأسرة وبالأخص على أطفاله.

وقد تنتاب الطفل بعض المظاهر السلبية تجاه أبيه, عندها تتدخل الأم في محاولة لمنع هـذه المظاهر السلبية حينما تحاول إفهام الطفل بقـولها: (يجب أن تحب أباك.. فهو الذي أحضر لك الحلوى), ولكن هذه المحاولة وغيرها قد تبوء بالفشل.

على أنه إذا دققنا النظر بحثا عن الأسباب التي تكمن وراء هذه المظاهر السلبية تجاه الأب, لوجدنا أن الأم قد تتحمل بعض التبعات, فعندما تقول الأم لطفلها: (عليك أن تكون هادئاً وإلا فإن والدك سيغضب), أو حينما تهدده بقولها: (سوف أقول كل ما يحدث منك لأبيك حتى يعاقبك).. وغير ذلك, كل هذه العبارات تكون في عقل الطفل فكرة سلبية عن والده بوصفه شخصا غير مستقر, غضوبا, عصبي المزاج, يقوم في النهاية بتوقيع العقاب (بدنيا أو معنويا).

على أي حال هناك مظاهر أصدق لتصوير الأبوة الحقيقية يمكن أن يكشفها الأب لطفله, فعندما يشارك الأب في رؤيته وإبداء رأيه للأشياء الجديدة التي جلبها للطفل, وعندما يشارك الطفل أمه في إعداد الشاي لوالده, وعندما تطلب الأم من زوجها إصلاح بعض الأشياء التالفة في المنزل بمشاركة الطفل نفسه, فإن مداومة هذا السلوك في مثل هذه الاتجاهات أو المسارات من شأنها أن تخفف من قلق الطفل نحو والده, وتجعله قريباً منه, متحمسا للبحث عنه أينما ذهب.

هناك اتجاهات والدية تنعكس بصورة أو بأخرى على تربية الطفل وتنشئته, بعضها ذو مردود إيجابي, والآخر ذو مردود سلبي. سوف نلقي الضوء على بعض هذه الاتجاهات التي تشكل في النهاية مردودا سلبيا على تربية الطفل, وهو ما ينعكس بالسوء على صحة الطفل النفسية لنتجنبه ونتحاشاه:

أولا ـ إغفال قدرات الطفل:

قد يكون الأب مولعا بدراسة الطب ولكن ظروفه لم تمكنه من تحقيق ما كان يأمله, ومن ثم فإنه يزيح طموحه هذا نحو أحد أبنائه, فيجبره على أن يلتحق بكلية الطب حتى يستطيع أن يحقق في حياته ما كان يتوق إلى تحقيقه, وقد تكون ميول هذا الابن واستعداداته العقلية والشخصية أدعى إلى توجيهه لدراسة أخرى في الفنون مثلا أو الآداب, ولكن الأب يغفل كل ذلك ويندفع إلى تجاهله, عندها يكون الفشل من نصيب ذلك الابن, ونحن نعلم أن الفشل يؤدي إلى اعتلال الصحة النفسية.

إنه ليس من شيء أبعث إلى الأسى من ابن شاء حظه العاثر أن يرث أهلاً لا يسمحون له بالنمو الطبيعي ويحرمونه فرصة تكوين شخصيته تبعاً للخصائص العقلية والنفسية التي وهبها الله له.

ثانيا ـ التساهل والإهمال:

قد يقاسي بعض الآباء في مطلع حياتهم من الأساليب اللاتربوية التي كانوا يعاملون بها في أسرهم, من ظلمٍ واستبداد, الأمر الذي يؤلمهم فيكبتونه كخبرة سيئة, عندها يتشكك هؤلاء الآباء في قيمة النظام والسلطة, فيتركون أطفالهم يفعلون ما يشاءون بلا ضابط أو رابط, فيؤدي هذا إلى تنشئة أطفال لا يحفلون بمراعاة القواعد والأصول سواء داخل المنزل أو خارجه.

أما الإهمال فهو يتمثل في ترك الطفل دون تشجيع من والديه, وخاصة الأب, على أي سلوك مرغوب فيه أتى به, أو دون محاسبة على أي سلوك غير مرغوب فيه فعله وقام به, هذا بالإضافة إلى تركه دون توجيه إلى ما يجب أن يفعله من سلوكيات أو ما لا يفعله.

ثالثا ـ التدليل وفرط الحماية:

يتمثل التدليل في تشجيع الطفل على تحقيق معظم رغباته الملحة وغير الملحة في التو واللحظة دون تأجيل. وقد يتضمن التـدليل تشجيع الطفل على القيام بألوان من السلوك قد نعتـبرها معيبة, أو من الأساليب السلوكية غير المرغوب فيها اجتماعياً, وقد يتضمن أيضا دفاع الأب عن هذه الأنماط السلوكية غير المرغوب فيها ضد أي توجيه أو نقد يصدر إلى الطفل من الداخل أو الخارج.

والطفل المدلل ينمو ضعيف الشخصية, يعتمد على الغير, وغالبا ما يسهل استثارته واستمالته للفساد, كما يتسم بعدم الاستقرار على حال, وعدم النضج الانفعالي, ويتسم أيضا بانخفاض قوة (الأنا), وتقبل الإحباط, وهذه بالطبع مؤشرات دالة على انخفاض الصحة النفسية.

رابعاً ـ التفرقة في المعاملة:

يتمثل أسلوب القسوة في استخدام أساليب العقاب البدنية, وهذا الأسلوب الذي يقوم به الأب ـ عادة ـ تجاه أطفاله يترتب عليه اعتلال خطير في صحتهم النفسية, والطفل الذي يعتاد الضرب المبرح هو طفل ينزع إلى التمرد والعدوانية كوسيلة للتنفيس والتعويض فهو يخرب مثلاً ممتلكات الآخرين ويتلف حاجياتهم دون أي إحساس بالذنب.

أما التفرقة في المعاملة بين الأبناء فهو أسلوب لا تربوي, يعتمد على عدم المساواة بين الأطفال, والتفضيل بينهم حسب الجنس, أو ترتيب المولود, أو السن, فقد تفضل الأسرة الذكور على الإناث. عموما فالطفل الذي يحابي على حساب أخوته أيا كان نوعه أو ترتيبه بين أخوته, هو طفلٌ يشب أناني الشخصية, حقودا, يحب أن يستحوذ على كل شيء غير عابئ بالآخرين, شخصية تعرف حقوقها ولا تعرف واجباتها, تعرف ما لها ولا تعرف ما عليها.

دور الأب ووظائفه

صار من المؤكد في مجال الدراسات التربوية والنفسية الخاصة بتنشئة الأطفال ومراعاة صحتهم النفسية, أن علاقة الطفل بأمه في السنوات الأولى من العمر المتوطدة على أساس من الحنان والرعاية وإشباع الحاجات البيولوجية والسيكولوجية وغيرها, تمهد السبيل له بالثقة بالنفس, والتعرف على ذاتيته, وتحقيق الشعور بالانتماء والطمأنينة.

وعلى هذا.. فقد نسلم بأن مهمة تربية الأطفال في سنيهم الأولى, مهمة تقع على عاتق الأم أكثر ما تقع على عاتق الأب, ولكن أساليب التنشئة الحديثة ترى أنه لابد أن يشارك الأب في مثل هذه التربية. طبيعي أن يختلف دور الأب عن دور الأم كما وكيفا وفقا لمراحل النمو التي يمر بها الطفل, ولكنه دور حيوي بلا شك.

إن مشاركة الزوج زوجته بشأن تربية الأطفال ـ سواء كانت الزوجة تعمل أو لا تعمل ـ هي في المقام الأول ضمان لصحة الطفل النفسية, فرعاية الآباء لأبنائهم تجعلهم يحسون بمتعة شديدة لأن وجود الأب وسط أولاده يهييء دفئاً عاطفياً حميماً, وهو من شأنه أيضاً أن يدعم مفهوم المشاركة من أجل خلق مناخ صحي وسليم في العلاقات بين أفراد الأسرة جميعاً, وفي مثل هذا المنـاخ يكـون للأب دوره الفعال والمؤثر في مساعدة أبنائه على تحقيق أهداف التنشئة السليـمة, وهي تنمية ما لديهم من إمكانات ذهنية ووجدانية إلى أقصى حد ممكن.

كما أن وجـود الأب بين أطفاله في المنزل أساسي وجوهري إذا كنا نبغي تربيـة سوية لأطفالنا, لأنه من خلال هذا الوجـود يتعرف الصغار على صفاته ومميزاته وثقافاته وخبراته فالأطفال بطبيعة الحال يأخذون عن والدهم الشيء الكثير.

والأبناء ينظرون إلى والدهم على أنه المثل الأعلى والقدوة الصالحة, بل ويأخذ بعض الصغار كلام الأب على أنه كلام مصدق لا يقبل النقاش, وينفذونه كما لو كان قانوناً.

وهناك بعض المواقف التي تستدعي من الأب أن يقف منها موقفاً حازماً قوياً, ويمكننا القول إن الطفل في مراحل نموه المختلفة يخشى الأب ويهابه, والطفل على أي حال يحتاج نفسياً إلى هذه السلطة, حتى يتبين المواقف التي تحظى بتأييده والأخرى التي ينهى عنها ويمنعها. إن عدم وجود هذه السلطة أو ممارستها زيادة أو نقصا بطرق خاطئة, تعد من أهم العوامل التي تبعد الطفل عن الطمأنينة, وتبذر في نفسه بذور الفزع والخوف وهو ما ننهاه ونحذر منه.

ومن واجبـات الأب تجـاه أطفاله إقامة حوار معهم في مشـاركة حمـيمة, بحيث تكون حياته مسخرة لهم, يشاركونه فيها بكل الحـب والود والصراحة, فلا تكون حياته منـغلقة. والمشاركة من وجهة نظرنا هي التي تعـني أن يكون هناك تبادل وجداني وفكـري ما بين الأب وأطفاله.

وكثير من الآباء لا يكترثون بأهمية المشاركة بينهم وبين أبنائهم, وكثير منهم أيضا يهضمون هذا الحق فهم منشـغلون ـ دائماً ـ بمطالب الحياة وتبعاتها, يعملون ليل نهار لكسب قوتهم اليومي, حتى تمتليء بطـون أطـفالهم وتكتـسي أجسادهم, ولكنا نقول: أيها الآباء الوجبة ناقصة, والرعاية مبتسرة, فمازال هناك خواءً معنوي وفكري.

إن تشجيع الأب وتقديره هو إحدى اللبنات المهمة في بناء صرح الصحة النفسية للأطفال, إن الحب العملي الذي يمكن أن يقدمه الأب هو أن يثني على أطفاله في حنو ومودة, هذا الثناء الذي يبعث فيهم الدفء, ويفتق بداخلهم ينابيع الخير, ويضيء لهم طريق الحياة.

وإذا كنا إلى عهد قريب نمر بمحنة اجتماعية قوامها إيثار الذكور على الإناث, فإننا الآن نجد أن هذه الظاهرة المخيبة للآمال على وشك الزوال, إن لم تكن زالت بالفعل, ولكن مازلنا نذكر أن هذا التمييز من شأنه أن يجعل جو الأسرة مشحوناً بالصراعات بين الجنسين, يمور بالعداء والكراهية.

 

 

وفيق صفوت مختار