شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

صراع الأشقاء... وأول ملكة في الهند

لم يكن الفلاح الهندي الفقير يطمع في الاعتداء على تلك المرأة المتعبّدة التي لجأت إليه تلتمس كسرة خبز, ولكنه بعد أن جلست أمامه القرفصاء وهي تتناول ما أستطاع أن يقدمه لها من الطعام, انحسر جزء من ردائها عن ساقيها. وفتح الفتى عينيه بشدة على الخلخال الذهبي حول معصم قدمها. ولفت نظره بشدة أطراف سروالها الحريري المرصع بالأحجار الكريمة, وإذن فهي ليست متسوّلة فقيرة ألجأها الجوع للتسوّل في الصحراء, بل هي - بغير شك - امرأة من علية القوم تاهت في الصحراء, ولعب الشر برأسه فطمع في سرقة ملابسها الثرية وسوارها الذهبي, وانقض عليها فجأة بقوة وأحاط رقبتها بكفيه يحاول خنقها حتى فقدت الوعي, ثم راح يخلع عنها ملابسها الثمينة وخلخالها الذهبي, ولم يكد يفعل حتى أحسّ بجنود يحيطون به ويقبضون عليه ويحملون جسد المرأة إلى القصر.

الملكة رضيّة

كانت المرأة هي الملكة السابقة رضية شقيقة الملك ناصر الدين الابن الأصغر الذي يجلس على عرش أبيه (شمس الدين ألتمسن) ملك دلهي, وكانت هي الوصية عليه حتى بلغ سن الرشد حيث عاش تحت وصايتها لمدة أربع سنوات بين عامي 1235 و1239م.

وقد حدث ذلك في أعقاب الحكم على أخيها الأكبر الملك ركن الدين بالموت بعد أن قتل أخاه الثاني بالسيف حقداً عليه وحتى لا يطمع في العرش الذي جلس عليه بعد وفاة أبيهم الملك شمس الدين.

ويحكي التاريخ أن ركن الدين لم يكن هو ولي عهد أبيه. فقد أوصى شمس الدين بأن يتولى ملك دلهي من بعده ابنته رضية دون شقيقها الأكبر الذي لم يثق فيه قـط, ورأى أنـه لا يصلح للحكم لظلمه وحقده وعدم تحلّيه بما يجب أن يكون عليه ملك.

وكان ذلك يزيد من حقده على شقيقته والتآمر عليها, فلما مات شمس الدين واجتمع القادة وأهل الرأي للاتفاق على تنفيذ وصية الملك الراحل. فوجئ الجميع بأن رضية ترفض أن تتولى الأمر وتعلن أمام الجميع أن الاختيار متروك لهم, فهم الأحق باختيار مَن يتولى شئون مملكة دلهي. وتعددت الآراء وأبى الجميع أن يوافقوا على ذلك الأمر حفاظاً على وصية ملكهم الراحل. فقد كانوا يعلمون أنها تشرّبت كل أصول الحكم والعدل من أبيها الذي كان يعتمد عليها في كثير من أمور الدولة المهمة. ولخوفهم أن يتولى الأمر ركن الدين المشهور بقسوته وحمقه, فقد اجتمعت كلمتهم على رضية ملكة على البلاد. ولكن البعض في المجلس حاول أن يقر بركن الدين, بينما طالب آخرون بتولية الأخ الثاني معز الدين ليضعوا حداً للصراع الذي استفحل وازداد حدّة. واتجهت الأنظار إلى رضية لتقول الكلمة الأخيرة الفاصلة, فكان جوابها:

- تعلمون كراهيتي للتحزّب والانقسام وإيماني بوحدة الرأي, لهذا فإني أرى أن أصلح الناس للحكم وتولي عرش دلهي هو ركن الدين...!

الحقد الأسود

تولى ركن الدين عرش دلهي التي جثم على أهلها سكون مريب, وإذا كان هو قد حاول لفترة أن يثبت للناس أنه قادر على الحكم وإرساء أركان العدالة, إلا أن الأمر لم يستمر طويلاً, فقد عاد إلى أفكاره السوداء في الحكم وأنزل بالناس المظالم والمهانات التي أثارت في نفوسهم المرارة والغضب والثورة. واتجهت أفكار ركن الدين إلى أن رضية كانت وراء كل ذلك, وراح يضع خطته للتخلص منها. وأسرع الشقيق الحاقد يدبّر للمؤامرة, فأوحى لبعض رجاله الذين يصاحبون رحلة الصيد التي يشارك فيها الأمراء ومعهم رضية أن يدفعها عن ظهر جوادها الذي يجمح هارباً, بينما يكون أحد الضواري على استعداد للفتك بها. وإذ كان يعمل حساب أن يدرك شقيقه الثاني معز الدين أبعاد المؤامرة حاول أن يغريه بعدم المشاركة في رحلة الصيد ذلك اليوم. فقد راح يتقرّب إليه ودعاه ذات ليلة إلى مائدة شراب دارت فيها الكئوس وانطلق خلالها لسان الملك, وانفلت بذكر أسباب طلبه من أخيه بعدم المشاركة في رحلة الصيد. ولكن معز الدين أفاق على ذكر المؤامرة, فنهض ثائراً مهدداً مقسماً إلا أن يكشف لشقيقته ما يدبّر لها, واندفع في ثورته إلى الخارج, وإذ خشي ركن الدين أن تصل الأنباء إلى رضية فتكون الثورة ضده من أجلها, فقد أسرع خلف شقيقه مجرداً سيفه وطعنه في ظهره طعنة أردته قتيلاً, ولكن بعد أن خرجت من بين شفتيه كلمات مبهمة عمّا يدبره أخوه ضد رضية للتخلص منها.

حكم الله

خرج الشعب في دلهي بعد أن فقد الملك ركن الدين اتزانه وراح يقسم أن ينزل أشد الفظائع والعقاب بكل مَن يقف في طريقه. واضطرت رضية إلى الهرب بعيداً عن القصر واختفت بعد أن أقسمت لتثأرن لأخيها القتيل من قاتله. ومع استفحال مظالم ركن الدين ضد الشعب ازدادت غضبته على القاتل وأحاط برضية لحمايتها من طغيان أخيها القاتل مطالباً بالثأر. وهاجمت جموع الشعب الثائر قصر الملك وأمسكت به وسحبته أمام رضية لتنزل به العقوبة التي لابد منها, بصفتها ولية دم أخيها القتيل. إلا أنها أبت أن تستخدم حقها وتركت الأمر لله ولحكم القضاة لينفذوا حكم الشرع. وحكم القضاء بموت الطاغية القاتل.

أطلت رضية حولها فإذا هي وحدها وليس معها سوى الشقيق الأصغر ناصر الدين الذي لم تكن سنه لتسمح له بأن يحكم دلهي ويقيم ميزان العدالة, وأمام مطالب الشعب والظروف القاهرة اضطرت للنزول على رغبة الشعب بأن تتولى الملك, ولكن باسم أخيها الأصغر حتى يبلغ سن الرشد.كانت السنوات الأربع التي حكمت فيها رضية البلاد خير فترة تمتع فيها الشعب بحكم عادل قوي لا ظلم فيه. واستمرت على طريق أبيها في تعجيل انصاف المظلومين وأصحاب الشكايات الذين يجذبون أجراس القصر. وحين أتمت دورها وسلمت الأمر لصاحبه بعد السنوات الأربع, أقسمت أن تعتزل الناس وبخاصة بعد أن كانت تبلغها الوشايات والاتهامات الباطلة التي كان يطلقها بعض مَن كانوا على صلة بركن الدين. فانطلقت إلى الصحراء بعيداً عن المدينة متعبّدة قانتة حتى لم يعد معها ما تقيت به نفسها, ومضت بها الأيام حتى حدث لها ما كان من أمر الفقير الهندي الذي كاد يقتلها حتى قبضوا عليه واقتادوه إلى الملك ناصر الدين وألقوا به بين يديه. وحين أفاقت رضية وأطلت حولها, تعرّفت على الفتى في سلاسله. وسألها الملك ناصر الدين في الحكم الذي تراه, فأجابته في صوت خفيض: لقد سقاني وأطعمني وأنقذني من الموت وأنا أحتضر, أفلا أرد له الدين فأنقذه من الموت?

وعكفت رضية بعد ذلك على خلوتها وتعبّدها في جو روحي خلصت نفسها فيه إلى الله وعبادة الله وحبّ الله.

 

سليمان مظهر