إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي

الأديب والضابط

منذ أكثر من عشر سنوات, كنت في زيارة ابني الطبيب بهولندا, وفوجئت - عند الفحص الطبي الدوري الذي أمارسه كل عام أثناء هذه الزيارات - بأن قلبي قد أرهقته مطامحه ويحتاج إلى عملية تجديد بتغيير عاجل لشرايينه.

وعبثاً حاولت أن أؤجل إجراء العملية بحجة التزامي بارتباطات عليّ أن أؤديها أولاً, وربما - بيني وبينك - بسبب خوف لا أجرؤ على الإعلان عنه - حتى لنفسي - من المجهول. غير أن الأطباء الذين أخافوني من ناحية من عواقب عدم إجراء العملية, طمأنوني من ناحية أخرى حين ذكروا أن نسبة الخطورة في مثل هذه العمليات أصبحت توازي - إن لم تكن أقل - نسبة الخطورة عندما أسير في الطريق العام أو أقود سيارة أو أركب طائرة. فرغم ما يقع من حوادث السير والسيارات والطائرات, فإن هذا لم يمنع أحداً من النزول إلى الشارع أو استخدام وسائل المواصلات, وإمعاناً في طمأنتي - وربما طبقاً لتقاليدهم العلاجية - أحضر طبيبي رسماً توضيحياً للقلب وشرايينه, ومضى يشرح لي بدقة - ولأكون على بيّنة - خطوات العملية .

وأذكر أنني استسلمت لنصيحة الأطباء, وربما للسرعة التي تمت بها الإجراءات التي أنقذتني من طابور الانتظار بحجة أنني في إجازة محددة المدة, ولست مواطناً مقيماً, لم تكن هناك فرصة للانزعاج والتفكير في شبح الموت, حتى أنني لم أدرك تماماً ما كان يمكن أن أعانيه إلا حين روت لي زوجتي مبلغ معاناتها هي, لاسيما حين أقبلت قسيسة كاثوليكية - وأنا إنجيلي المذهب, لكنهم لم يسألوني وأنا لم أتشدد, فلا فرق ولا وقت - في ثوبها الديني الداكن الفضفاض يكاد يلامس الأرض, وملامحها الجديّة الصارمة, لتناولني الخبز المقدس, وهو ما يعني أن أكون مستعداً للانتقال إلى العالم الآخر لملاقاة الله, مما اعتبرته زوجتي فألا سيئاً.

وقد حرص ابني أن يكون كل الطاقم الطبي الذي قام بجميع خطوات العملية بدءاً من رسم القلب, فإجراء القسطرة (إدخال أنبوبة للكشف عن الشرايين المصابة), فالعملية نفسها, أطباء مصريين من زملائه كانوا يعملون في معهد القلب بالقاهرة, وذلك بهدف ألا يشعرني بالغربة. المهم أنه بفضل المخدر, فإن مريض اليوم محظوظ لأنه لا يشعر بشيء سواء توقفت رحلة حياته أو أفاق ليستأنف مشواره ويعود إلى ما كان فيه.

وكان من الطبيعي أن تطول إقامتي - بسبب هذه العملية - عن المدة المقررة في جواز سفري.لهذا - وبمجرد أن أصبحت قادراً على مغادرة الفراش - اصطحبني ابني إلى شرطة الجوازات بعد أن نصحني بأن تكون معي إحدى مجموعاتي القصصية المترجمة إلى اللغة الإنجليزية, فكل الهولنديين يجيدونها حيث إنهم يتعلمونها في مدارسهم كلغة ثانية, وحين قابلنا الضابط وأطلعناه على سبب تجاوزي مدة الإقامة, قام ابني بتعريفه بشخصي وقدّم له الكتاب, وما إن لمح الضابط اسمي على الغلاف وأدرك أنني أديب, حتى رأيته يقف فجأة ويشد على يدي في احترام شديد, ثم يعلن إعفائي من أي رسوم إضافية. مما دفعني إلى التساؤل كم ضابط شرطة في الجوازات أو غير الجوازات في شرقنا العربي يقف احتراماً لأديب من أدبائنا لم يعرفه من وسائل الإعلام, بل من مجرد كتاب لم يقرأه بعد?!

 

يوسف الشاروني