واحة العربي

واحة العربي

الجَـمْـر

ظلت الجمرة المتقدة ـ والتي كان فرن الخبيز الريفي مغرماً بالمحافظة عليها في أحشائه تحمل الإنذار الدائم لي بالنهاية المؤكدة خلال عالم الشرور الصبيانية في القرون الأولى من عمري, وكانت أصابع أمي شديدة المرونة حينما تزيح هذا الجمر تمهيداً لخروج الإناء الفخاري (البرام) المفعم بالعدس الملتهب كي نبدأ صباح الشتاء القارس, وبين جمر الفرن وجمار النخيل استمرت عصافير البطن ـ أي الجوع, وعصافير السماء ـ أي الخيال: تصنع عالما متداخلاً في كل أنسجتي بين المدرسة والبحث عن عمل والسفر والكمون والإشراق والشجن والرؤى وانسياب الموسيقى والقلق والصمت والهياج الأحمق, وجمّار النّخلة هو قلبها وموضع الطلع وبوادر خروج الجريد والسباطات من المكمن, تكوين أبيض غض له حلاوة خفيفة, سهل القضم علاجا لأوجاع الصدر والسعال, وفي كتب الطب القديم أن جمار النخيل يدفع ضرر الأنبذة (الجمع المخفف للخمور) وهزال الكلى, ثم إن هذا الجمار يولد الرياح في البطن فلا يساعد على الهضم, ويؤدي ـ آخر الأمر ـ إلى نوع من الوسن أو التكاسل أو استمرار التثاؤب وفقدان النشاط, الجملة الأخيرة من عندي, ربما يكون وراءها ما كان يصدر من إرشادات ذوي الخبرة للعرسان الجدد ألا يقربوا ـ ليلة الفرح الميمون ـ السمسم والباذنجان المخلل والغضب ـ أي الانفعال الشديد ـ والجميز وجمار النخيل والديون ونعيب الغربان.

لكن الجمر يعود فيثير الالتهاب المتوقد في (القمين), والقمين ـ كما أنك تعرف بالطبع ـ وكما جاء في المعجم: الموضع الذي يرص فيه الطوب النيء ـ أي اللبن ـ ويحرق ليصير آجراً, والآجر هو الطوب الأحمر, وما كان للقمين أن يرد هنا ونحن مشغولون بالجمر, لولا أن الناس في قريتنا يطلقون على هذا القمين: القمير, ولما كانت القاف والجيم لهما اشتباك معروف في اللهجات العربية, فقد اعتقدت أن المقصود بالقمير: الجمير, أي الملتهب بالجمر الكثيف, والذي يشاهد هذا التكوين الجمري الضخم, والذي يفح بحرارة تنذرك برائحة جهنم, سوف يستبعد ـ بالإحساس على الأقل ـ أي اسم سوى القمير أو الجمير دون القمين, مع أن ذلك لم يرد في أي كتاب لغوي - معجما كان أو بحثا ـ على الإطلاق, فهل يمكن أن يؤدي بنا ذلك إلى اعتبار أن العيش المقمر الريفي الشهير جاء من الجمر أيضا..??

وعندما يتفتت الجمر ليصبح جمرات فسوف يكون غير مريح أن نتذكر تلك الجمرة ذات الالتهاب الحاد والتي تصيب الأنسجة التي تحت الجلد ـ ثم تظهر في الجلد ذاته مسببة ألما لا يطاق, ويكثر حدوثها في الظهر وخلف الرقبة والأفخاذ, وعند ظهورها يجب أن يعطى علاجها اهتماماً مكثفاً بسبب خطورتها المعروفة بأنواعها الثلاثة: الخبيثة (وتحدث عادة ـ كما ورد في الموسوعة العربية بين الجزارين ـ أي القصابين ـ والفلاحين والبيطريين والدباغين ـ أي العاملين في مجال دباغة الجلود ـ وقد تنتج هذه الجمرة الخبيثة من استعمال فرش الحلاقة المصنوعة من شعر الحيوانات الملوثة بالجراثيم), ثم الجمرة الرئوية والتي تنتج الإصابة بها من السبب السالف بالإضافة إلى استعمال الجلة الشهيرة في الريف المصنوعة من إفرازات البهائم, والجمرة الثالثة هي تلك التي يلتهب بها دماغ بعض الموهوبين في الأدب والفن: سعياً للشهرة والذيوع بأي وسيلة, ويمكن التماس ظواهرها في اقتحام مجالات إبداع لا يجيدونها, والتصميم على نقل مقعد من الخلف كي يجلسوا ـ عنوة وقسراً ـ في الصفوف الأولى للمؤتمرات واللقاءات والحوارات, والمجاملات المادية الفاضحة لمن يرون فيهم فرصة أن يشيروا إليهم في الصحف والمجلات والأحاديث المذاعة, ومن شدة التهاب هذه الجمرة في جماجمهم يطالبونك ـ علناً ـ بأن تذكرهم في مقالاتك ولو من مدخل انتقادهم والهجوم عليهم.

إلا أن الجمر يسبقه الحمر ـ بالحاء ـ في تكويناتنا اللغوية الشعبية: حمري جمري في صيغة الأمر بالإنجاز السريع, أي بالعجل, وبسرعة ـ تتجاوز الدقة الواجبة ـ أو دون مراعاتها, كما أن الزواج المتعجل الذي يداهمه الفشل السريع يوصف عادة: زواج حمري جمري, وكأن الزواج المتأني ـ فيما يزعم الحكماء الذين يبدون ذوي تجارب ـ يؤدي إلى الفردوس الرومانسي المأمول, مع أن العروس ـ فور أي نوع من الزواج المتمهل أو الحمري جمري ـ لا تلبث أن تجمر شعرها, أي تجمع شعر رأسها الذي كان ـ قبل هذا الأمر المشار إليه ـ منساباً هفهافاً, حيث تعقده في قفاها ولا ترسله, دون مبالاة بأن الإنسان ـ أو الحيوان ـ حين يجمر فإنه يسرع سيراً, لكن الليلة إذا أجمرت فإنها تتلألأ عندما تطول فيها مدة ظهور قمرها, وأخطر ما يمكن أن يواجهك ـ في ليلة جمراء قمراء ـ أن تقضيها وحدك.

والجمار ـ بكسر الجيم ـ موضع رمي الجمرات الثلاث بمنى كما هو معروف في مناسك الحج, أما الجمر البركاني فهو المقذوفات البركانية الملتهبة ذات الأحجام الصغيرة جدا, فإن تضخمت وتداخلت في درجات السيولة أو الانصهار فإنها تصبح الحمم, غير أن أموراً غامضة حدثت فأحالت للجمرة معنى الظلمة الشديدة, وما بين الالتهاب والظلمة أصابني اضطراب حين اتضح لي ـ في المعجم الكبير ـ أن جمرات العرب ثلاث: بنو الحارث بن كعب, وبنو ثمير بن عامر, وبنو عبس (أهل عنترة الشهير), وزاد عليها بعض مؤرخي القبائل جمرتين, ولو كنت منهم لأضفت قرناً من الجمرات في العصور الحديثة حيث أصبحت قبائل ومناطق وأقاليم في عدد واسع من بلادنا العربية مجامر ملتهبة بالقلق, مما يدفعنا للهروب إلى الجمارك بصفتها ترفع لواء الضغوط المعاصرة في الموانيء, والتي تعج بجمرات التهاب العصر: أي الممنوع والمصادر من بضائع نعرفها ولا نميل إلى توضيحها, وإن كانت جمرات الأفران ـ أو حتى البراكين ـ تثير الخيال الممتع بها لتحمل ـ في الأفق ـ إشارات الرغبة العارمة للرجوع إلى برام العدس المجمور في الفرن القديم, الذي لا يزال يفح بحمم ـ أو جمرات ـ الذكريات

 

محمد مستجاب