ثقافتنا.. بين التعصب والتسامح

ثقافتنا.. بين التعصب والتسامح

التسامح والتعصب مفهومان لا يذكر أحدهما إلا ويقود إلى قرينه, فالعلاقة بينهما علاقة التضاد التي يتعارض بها أولهما - التعصب - مع ثانيهما - التسامح - الذي يجاوزه إلى دور الترياق الشافي من أمراض التعصب ونواتجه الخطرة.

أتصور أن علاقة التضاد بين الاثنين لاتخلو من معنى التولد الذي تنطوي به الظاهرة على نقيضها, أو تفضي إليه, أو تستلزم حضوره الذي يواجهها بما يقاومها ويهزمها وينفيه على المستويين: النظري والعملي. ولكل من المفهومين جذور قديمة, متأصلة في تاريخ الإنسانية, قد تتنوع من ثقافة إلى ثقافة, وتتباين من مرحلة زمنية إلى أخرى. لكن يظل جوهر كلا المفهومين موجودًا قائمًا في تقابله, كما لو كان هو الوجه الموازي لثنائية الشر والخير في داخل الإنسان, أو الموازي لعنصري الثبات والتغير اللذين قرنهما أوجست كونت بالقانونين المتعارضين اللذين يحدد الصراع بينهما حركة (الظواهر الاجتماعية) وتحولاتها, وإذا كان التعصب قرين الثبات من هذا المنظور, من حيث هو نقيض التغيّر, فإن التسامح قرين التغير الذي يقلب الأوضاع, ويعيد بناء علاقات التراتب بين الظواهر والكائنات.

والحق أن التسامح واحد من المفاهيم الحديثة في ثقافتنا, وجد فيها بعد قرنين على الأقل من اكتماله في الفكر الأوربي. وهو بوضعه الحالي ترجمة عربية معاصرة للمصطلح أو المفهوم المستخدم في اللغات الأوربية التي تأثرنا بثقافاتها, وذلك اعتمادًا على أصل لاتيني له امتداداته في الثقافة الأنجلوسكسونية المقترنة باللغة الإنجليزية, وهي لغة تصل, في الاستخدام, بين الكلمتين Toleration, Tolerance للدلالة على معانٍ متداخلة, لكن من نوع من التمييز بينهما, وذلك على نحو يغدو معه الـ Tolerance قرين العموم الذي يدل على المطاوعة والمرونة والتقبّل واحترام آراء الآخرين ومعتقداتهم. وتنصرف دلالة الـ Toleration إلى التخصيص فتقترن بسياسة التسامح الديني التي تعني أمرين أولهما: تقبل المغايرة في فهم الديانة الواحدة بما يعدد طوائفها أو مللها ونحلها إذا استخدمنا مصطلح الشهرستاني القديم, وثانيهما: تقبل الديانات المختلفة واحترامها, حتى من منظور الدين الواحد الذي يقبلها جميعًا ما ظلت ديانات سماوية, فيعترف بها, ويحدد العلاقات التي تصل بين المؤمنين به وغيرهم من المؤمنين بهذه الديانات, وأتصور أن التداخل بين دلالتي العموم والخصوص في العلاقة بين الـ Tolerance والـ Toleration هو الذي جعل الاستخدام المعاصر يميل إلى استخدام كلمة Tolerance للدلالة على معنى التسامح الذي يقترن - في اللغة العربية - بدلالات قبول المختلف واللين في المعاملة وعدم التمييز بين الناس. وهي دلالات لاتزال غالبة على الاستخدامات التي غلّبت كلمة Tolerance على Toleration, وذلك لمجاوزة الكلمة الأولى للدلالة الدينية المخصوصة وإشاراتها - فضلاً عن الدلالات الدينية - إلى دلالات مدنية ذات أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية.

وقد أصبح التسامح Tolerance - في عموم دلالته - واحدًا من أهم المفاهيم الحديثة في المجتمع, خصوصًا مع تصاعد ممارسات التعصب والعنف والإرهاب, ومعاداة الأجانب, ومع كوارث القوميات العدوانية والعنصرية كالنازية والفاشية والصهيونية, وكذلك مع أشكال التمييز المعادية للأقليات القومية والعرقية والدينية والثقافية واللغوية. يضاف إلى ذلك اضطهاد اللاجئين والعمالة المهاجرة والمجموعات الهامشية في المجتمع. وأخيرًا, كثرة ممارسات العنف والترويع التي تهدد الأفراد الذين يستخدمون حقهم الإنساني في التعبير عن آرائهم وأفكارهم.وإداراكًا من منظمة الأمم المتحدة لهذه المعاناة, وبناء على توصية (اليونسكو), قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن يكون عام 1995 عامًا للتسامح. ودعا الأمين العام للمنظمة الدولية إلى إجراء مشاورات واسعة النطاق لصياغة إعلان يعرض على الجمعية العمومية لكي تعتمد وثيقته رسميًا عند الاحتفال ببدء سنة التسامح.

معنى التسامح

وقد صدر الإعلان بالفعل, ومعه وثائق أصدرتها منظمة اليونسكو, تحدد: معنى التسامح وأبعاده الاجتماعية, والدولية, ومظاهره الواجبة في التعليم والثقافة وعلاقات الأفراد والدول على السواء, وقد أكّد الجزء الخاص بمعنى التسامح النقاط التالية:

أولا: التسامح هو احترام وإقرار وتقرير التنوع الثري لثقافات عالمنا, ولأشكال تعبيرنا وأساليب ممارستنا لإنسانيتنا. ويتعزز بواسطة المعرفة والانفتاح والتواصل مع الآخرين, وحرية الفكر والعقيدة والدين. فالتسامح هو التناغم في الاختلاف, وليس واجبًا أخلاقيًا فحسب, وإنما هو مطلب سياسي وقانوني في الوقت نفسه.

ثانيًا: ليس التسامح تنازلاً أو تعطفًا أو تساهلاً, وإنما هو - في المقام الأول - إقرار بحقوق الإنسان العالمية, واحترام للحريات الأساسية للآخرين. ولذلك لا يجوز استخدامه بأي حال من الأحوال لتبرير الاعتداء على القيم المبدئية للحقوق والحريات, سواء في ممارسة الأفراد أو المجموعات أو الدول.

ثالثًا: التسامح هو المسئولية التي تتدعم بها حقوق الإنسان وأنواع التعددية, بما فيها التعددية الثقافية, كما تتدعم به الديمقراطية وسيادة القانون. ويستلزم نبذ النزعات الدوجماتية (التعصبية) والاستبدادية, وتأكيد المبادئ المنصوص عليها في مواثيق حقوق الإنسان.

وقد مرّ مفهوم التسامح بمرحلتين أساسيتين. المرحلة الأولى دينية واستمرت طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر. وقد اقترنت بحركات الإصلاح الديني الذي نهض به أمثال مارتن لوثر وكالفن. وبقدر ما أدت حركات الإصلاح هذه إلى حروب طاحنة في أوربا, نتيجة الصراع الاعتقادي بين طوائف المسيحية التي انقسمت على نفسها, فإن هذه الحروب الطاحنة أدّت إلى تأسيس مفهوم التسامح بوصفه مفهومًا يواجه التعصب الذي أدى إلى هذه الحروب, ويؤكد طبيعة التعدد الملازم لاختلاف الأذهان في فهم النصوص الدينية وتأويلها حسب منطلقات ومصالح المجموعات المئولة. والممثلون لهذه المرحلة عديدون, أهمهم - في تقديري - جون لوك برسائله عن التسامح, وفولتير بموقفه المعروف من وظيفة التسامح في علاقته بالأديان, وعلاقة الأديان به.

أما المرحلة الثانية لتطور مفهوم التسامح فهي المرحلة المدنية التي تبدأ من القرن الثامن عشر, مقترنة بالفلسفة الليبرالية ودعوات الديمقراطية, وقد تأسس مفهوم التسامح في هذه المرحلة بوصفه قيمة إنسانية أساسية, لا يمكن أن يتقدم البشر دونها, ولا تتحقق الديمقراطية إلا بها. وقد اقترن اتساع المفهوم, في هذه المرحلة, بانتقاله من الدائرة الدينية إلى الدائرة المدنية, وذلك بجهود مفكرين من أمثال جون ستيوارت التي طوّرها كارل بوير لتأكيد محتواها المعرفي الذي يقوم على أساس من تأكيد معنى النسبية, وأنه لا أحد يحتكر الحقيقة, وأن الحوار العقلاني كفيل بتصحيح أفكار البشر التي ينتجها التعصب. وأخيرًا, من الممكن أن نقترب من الحقيقة حتى لو لم نصل إلى اتفاق بشأنها, فالسبل إلى الحقيقة عديدة, وعدم إطلاقها قرين نسبيتها وتعدد طرق الوصول إليها في رأي بوير.

وقد اهتممنا نحن العرب بقضايا التسامح, قبل إعلان عام 1995 بكثير, وبعد هذا الإعلان مباشرة. وهو اهتمام أخذ شكل موجتين فكريتين, بينهما فارق زمني كبير. أما الموجة الأولى فترجع إلى أواخر القرن التاسع عشر. وكانت رد فعل على أنماط التعصب الذي اقترن بالطائفية المسيحية في لبنان على وجه الخصوص, وأغلب الظن أن فرح أنطون هو أول من أفاض في تراثنا الفكري الحديث في بسط هذا المبدأ بوصفه القاعدة الأولى للدولة المدنية الحديثة, والأساس الذي ينطلق منه الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية, ذلك الفصل الذي ينظر إليه فرح أنطون بوصفه آلة مبدأ التسامح ووسيلته معًا.

وقد قام فرح أنطون ببلورة فهمه للتسامح في مناظرة مع محمد عبده مفتي الديار المصرية, حول ما كتبه فرح أنطون عن ابن رشد في مجلة (الجامعة) في مطلع القرن العشرين, وهي مناظرة أفضت إلى ضرورة تحديد معنى الدولة المدنية, وعلاقتها بمبدأ التسامح, وبقدر ما كان فرح أنطون يؤكد هذا المبدأ في المناظرة التي تعددت أطرافها, كان محمد رشيد رضا, تلميذ محمد عبده, يكتب عن معنى التعصب في مجلة (المنار) التي أعانه محمد عبده على إصدارها.

وفي مجال الرد على رشيد رضا, يتوقف فرح أنطون طويلاً عند التسامح الذي أطلق عليه (التساهل) ويعرف المفهوم الجديد بأنه السياسة, التي يتجمل بها المرء في التعامل, مع كل ما لا يوافق عليه, ويصبر عليه, ويجادل فيه بالتي هي أحسن, ويتقبّل حضوره بوصفه حقا من حقوق الاختلاف, وركنا ركينًا من أركان الحرية التي يتقوم بها معنى المواطنة في الدولة المدنية الحديثة. وينبّه فرح أنطون إلى أن المفهوم جديد على الثقافة العربية, ويحدده في ضوء اراء الفلاسفة الذين يشير التساهل - عندهم - إلى أن الإنسان يجب ألا يدين أخاه الإنسان على أساس من المعتقد الديني, لأن الدين علاقة خصوصية بين الخالق والمخلوق. وإذا كان الله يشرق بشمسه على الأشرار والأخيار فيجب على الإنسان أن يتشبه به ولا يضيّق على غيره لكون اعتقاده مخالفًا لمعقتده. فليس على الإنسان أن يهتم بدين أخيه الإنسان أيًا كان, لأن هذا لايعنيه. والإنسان يوجد من حيث هو إنسان فحسب, بقطع النظر عن دينه ومذهبه. ولذلك فكل إنسان مواطن, بمعنى أنه صاحب حق في كل خيرات الأمة ومصالحها ووظائفها الكبرى والصغرى حتى رئاسة الأمة نفسها, وهذا الحق لا يكون من يوم أن يدين الإنسان بهذا الدين أو بذاك بل من يوم أن يولد, ذلك لأن هذا الحق من الحقوق الطبيعية. والإنسانية هي الإخاء العام الذي يجب أن يشمل جميع البشر ويقصر دون كل إخاء.

ولا يمكن للتساهل أو التسامح, بهذا المعنى, أن يوجد إلا في دولة تفصل السلطة المدنية عن السطة الدينية. ويتصل بهذا التحديد لمعنى التساهل (التسامح) على وجه الخصوص ثلاثة أفكار ملازمة يؤكدها فرح أنطون. أولاها أن السلطة الدينية (البشرية) بحكم طبيعتها لا تقدر على هذا التساهل (التسامح), لأن غرضها مناقض لغرضه على خط مستقيم, من حيث إنها تنبني على التعصب, ومن ثم تعتقد اعتقادًا جازمًا أن الحقيقة في يدها وحدها, وأن قواعدها وتعاليمها هي الحق الأبدي الذي لا يداخله أقل شك, وما عداه كفر وضلال. وذلك وضع يترتب عليه أن القائم على أمر هذه السلطة الدينية لا يكون أمامه إلا أن يضغط على غير قومه ليدخلهم في معتقده ترغيبًا أو ترهيبًا, أو أن ينظر إلى من هو خارج دائرة معتقده نظرة أقل من نظرته إلى من في داخل هذه الدائرة. وعلى ذلك تتألف في بناء الأمة فئات يفصل بينها التمييز, منها عزيزة ومنها ذليلة, فيسقط الحق الإنساني الذي تقوم عليه الدولة المدنية والمجتمع المدني على السواء.

ويؤكد فرح أنطون الفكرة الثانية الملازمة للفكرة السابقة بقوله: إن الحرية, بوصفها حقًا طبيعيًا للإنسان في أن يعتقد ما يشاء, يترتب عليها حق آخر هو حق الإنسان في أن يعتقد أو لا يعتقد ما يشاء. والسلطة الدينية التي تنبني على التعصب لا يمكن أن تقبل ذلك إلا إذا قدمت الشرع المدني.

أما الفكرة الثالثة والأخيرة فترتبط بتقديم الفكر في تكييف المعرفة والتقدم إلى آفاق باهرة. وهي آفاق لايمكن أن تتحقق إلا بالتسامح (التساهل) ابتداء, وذلك بالمعنى الذي يجعل التسامح سبيلاً إلى إنسانية المجتمع المدني وتقدمه الذي لا ينقطع. ولذلك لا تزدهر العلوم ولا تتقدم إبداعات المجتمعات إلا إذا كانت منطوية على معنى التسامح ودلالته.

هذه الأفكار الأساسية التي بسطها فرح أنطون كانت, في جانب منها, مرتبطة بمحاولته مواجهة التعصب الديني الذي أثار حربًا طائفية في لبنان في العقد السادس من القرن التاسع عشر, فدفع الكثير من المثقفين المسيحيين إلى الهجرة. خوفًا من الاضطهاد المذهبي. وكان فرح أنطون - كما كان أحمد فارس الشدياق قبله - من بين هؤلاء المهاجرين, بحثًا عن هامش أوسع من الحرية الفكرية. وفي الوقت نفسه, كانت أفكار فرح أنطون بمنزلة بذرة سرعان ما نمت وتفرعت عنها أفكار ملازمة في الثقافة العربية الحديثة, فكانت أساسًا لتأصيل مفهوم المجتمع المدني في هذه الثقافة, وتأكيدًا للترابط الوثيق بين مستقبل الثقافة العربية وممارسة أبنائها للتسامح, أو التساهل الذي استهل الحديث عنه فرح أنطون.

أما الموجة الفكرية الثانية لتأكيد حضور التسامح في ثقافتنا فترجع إلى التسعينيات من القرن الماضي وما قبلها بقليل. وفي هذا السياق, قمنا في المجلس الأعلى للثقافة بتقديم كتاب جون لوك: (رسالة في التسامح) الذي ترجمته منى أبو سنة وراجعه مراد وهبة, ونشر في القاهرة سنة 2000. وقبل ذلك, نشر المعهد العربي لحقوق الإنسان وبيت الحكمة في تونس كتابًا بعنوان (دراسات في التسامح) أعدها ناجي البكوش ومحمد الطالب وعبدالفتاح عمر.

وصدر الكتاب في تونس 1995. وكان العام العالمي للتسامح حافزًا لتقديم أطروحات جامعية عن المفهوم وتجلياته في المجالات المختلفة. ولذلك نشر مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان أطروحة هويدا عدلي عن (التسامح السياسي), وهي دراسة للمقومات الثقافية للمجتمع المدني في مصر.

التسامح وعلم النفس

ومن الإنصاف أن نذكر - في هذا السياق - دراسة مصطفى سويف التي نشرها في مطلع عام 1992. مؤكدًا معاني (التسامح) وحاجتنا الملحة إليه, مكررًا, مع إضافات الفارق الزمني, بعض أطروحات فرح أنطون. وإذا كان فرح أنطون بدأ من فلاسفة الاستنارة في القرن الثامن عشر, فإن مصطفى سويف يبدأ من إنجازات علم النفس الاجتماعي وبحوث الشخصية التي ازدهرت منذ أواسط الخمسينيات في الولايات المتحدة وأوربا. ولذلك, يتحدث مصطفى سويف عن الشروط الاجتماعية للإبداع, مؤكدًا أهمية (التسامح), ويصله بطبيعة السلوك الذي يقوم أساسًا على التقدم الإيجابي للاختلاف, أي أن أتقبل حقيقة أن (الآخر) يختلف عني في الرأي وفي الاتجاه, وأن أشكل سلوكي أخذًا في الاعتبار هذه الحقيقة التي لابد أن تقترن بحقيقة أخرى مؤداها ضرورة الحفاظ على التعاون مع هذا الآخر, لأن كلينا مضطر إلى العيش المشترك في حقل اجتماعي واحد. وإذا كان إدراك هذه الحقيقة مولدًا لما يصطلح عليه باسم (السلوك الاجتماعي التكاملي), فإن غيابها يفضي إلى نقيض هذا السلوك, أي السلوك التسلطي القمعي الذي يهدف إلى محو ما يميز الآخر, أو إلغاء ما يجعله متفردًا, ومن ثم تحويل هذا (الآخر) أو حتى (الأنا) إلى صورة مكررة من كل يوم يقوم بفعل التسلط القمعي على (الأنا) أو (الآخر) على السواء. إن التسامح - في هذا المجال - هو الشرط الأول بين الشروط الاجتماعية للإبداع, والحياة السليمة للدول, والأفراد, فيما يؤكد مصطفى سويف الذي يرى - بحق - أن أي شائبة تصيب مناخ التسامح لا تلبث آثارها أن تصيب المواطنين عامة والمبدعين خاصة بنوبات من الشعور بالتهديد, قد تكون قاضية على الدوافع الإبداعية والسلامة النفسية واستواء الحياة نفسها بكل جوانبها. وتلك نتيجة تؤدي إلى تقلص الطاقة الدافعية الملازمة للإبداع وموتها شيئًا فشيئًا في المجتمع كله. ولعل حساب الاحتمالات ينبئنا بأن حجم الإصابات التي تحيق بالبراعم, في هذه الحالة, يفوق كثيرًا حجم ما يصيب الأزهار والثمار.

ومن الأمانة التاريخية القول إنه إذا كان عام 1995 تتويجًا لقيم التسامح في العالم, بواسطة اليونسكو والأمم المتحدة, فإن الاهتمام العربي بالتسامح يسبق هذا العام, وذلك بدليل المؤتمر الذي عقدته المجموعة الأوربية العربية للبحوث الاجتماعية, وحرر بحوثه مراد وهبة في كتاب بعنوان (التسامح الثقافي) نشرته مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة سنة 1987, وذلك قبل خمس سنوات من نشر دار الساقي لكتاب (التسامح بين شرق وغرب) الذي أصدره سمير الخليل وآخرون في بيروت سنة 1992. ولا أهدف إلى تقديم إحصاء بكتب التسامح في الثقافة العربية المعاصرة, وإنما أسعى إلى بيان تزايد الاهتمام بها, خصوصًا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. ولكن لايزال هذا الاهتمام هامشيًا إلى حد كبير, ولذلك, لا نجد دراسات كثيرة عن جذور التسامح أو أصوله في ثقافتنا الإسلامية العربية, علمًا بأن هذه الثقافة أكدت بعض لوازم التسامح ومبادئه في نصوصها الدينية وسنة نبيها الكريم. ويقترن ذلك بالمبادئ التالية:

1- المجادلة بالتي هي أحسن وجادلهم بالتي هي أحسن .

2- الدعوة إلى التعارف بين الشعوب وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا .

3- عدم الإكراه في الدين وإقرار التعددية ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا .

4- الاعتراف بالديانات السماوية المغايرة, وتقدير أنبيائها والسماح لمعتنقيها بالاستمرار في عقائدهم وشعائرهم.

صحيح أن هذه المبادئ لم تكن موضع التطبيق, أو التسليم, في كل الأحوال, ولم تنطلق منها ومن غيرها حركات وفلسفات واجتهادات مؤثرة أو فاعلة, فظلت هذه المبادئ هامشية إلى أبعد حد, وبعيدة عن الممارسات الغالبة بوجه عام. ولكن هذه المبادئ تظل موجودة, وتصلح منطلقًا لإصلاحات دينية لانزال ننتظرها, ولخطاب ديني منفتح لانزال نتطلع إليه.

جذور التعصب

والحق أن سبب ذلك يرجع إلى غلبة التعصب في ثقافتنا العربية الإسلامية نتيجة عوامل كثيرة, سياسية ودينية, واجتماعية وثقافية. ومن الموجع أن يكون التعصب أكثر تجذّرًا في أبنيتنا الثقافية, وفكرنا الديني الذي هو من صنع البشر, وعاداتنا الاجتماعية, وتياراتنا الأدبية والفكرية. وأخيرًا, حياتنا السياسية التي لم يتجذّر فيها التسامح السياسي الذي يعني التعددية واحترام حق الاختلاف إلى اليوم, ولذلك لم نجد في ثقافتنا كتابات عن التسامح في وزن ما كتبه أمثال جون لوك أو جون ستيورات مل أو كارل بوير. خصوصًا في أفكار الأخير عن المجتمع المفتوح وأعدائه.

ويبدو أنه لابد لنا من أن نلاحظ - في هذا السياق - اختلاف نشأة مفهومي التسامح والتعصب ومسيرتهما في ثقافتنا العربية. فقد نشأ التعصب عند العرب نشأة اجتماعية. وليس دينية, كما حدث في أوربا, وذلك داخل المدار المغلق للقبيلة. ثم أصبح التعصب دينيًا مع الصراعات السياسية التي اتخذت الدين غطاء لها. وتزايدت ملامحه الدينية في موازاة تصاعد ظاهرتين: أولاهما: فكرية, وتتصل بمحاربة النزعات العقلانية, وإغلاق أبواب الاجتهاد التي أحكمت إغلاقها تيارات الأتباع النقلية الجامدة التي جعلت التقليد شعارًا لها وعلامة عليها.

وثانيتهما سياسية, وتتصل بطبائع الاستبداد التي لاتزال تجد ما يدعمها في بنية المجتمع البطريركي - إذا استخدمنا مصطلح هشام شرابي في كتابه المعروف.

هكذا, تجذّر التعصب في ثقافتنا, ولم تفلح محاولات الإصلاح الديني الحديثة في استئصاله, أو زعزعة أصوله الراسخة, وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على تيارات الفكر العقلاني, التي لاتزال مهمّشة محاصرة بكبت الحريات السياسية, وقمع الحريات الفكرية. والنتيجة هي الأزمات الطاحنة التي لاتزال تعصف بأمتنا العربية, واقترنت بالإرهاب الديني البشع الذي لانزال نعاني كوارثه. ويعاني معنا العالم كله جرائمه التي لن تنتهي في المدى القريب. ولن ينتهي معها التعصب الذي هو أصل الإرهاب الديني والفساد السياسي والجمود الاجتماعي. باختصار, التخلف الذي لن نبدأ في القضاء عليه جديا إلا بوعيه والتسليم به, ووضعه موضع المساءلة والكشف الذي يبدأ بتعرية لوازم التعصب, وتتبع جذوره وأصوله وتحولاته.

ومن هذا المنظور, يمكن أن نقول إن التعصب - كالتسامح - أنواع يبدأ بالتعصب الديني الذي تحتكر معه فئة من الفئات ما تراه التفسير الأصح للدين والفهم الأسلم له. فتختزل الدين في تأويلها الذي تحتكره, والذي يغدو سندا لها, سواء في دفاعها عن احتكارها له, أو الانتقاص العدائي من شأن أي تأويل مغاير. وهو الوضع الذي يدعمه التأويل النفعي للحديث النبوي: (إن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة, اثنتان وسبعون في النار, وواحدة في الجنة). وقد انبنى هذا التأويل على رفض الاختلاف عن الفرقة التي جعلت من نفسها فرقة ناجية, من حيث هي المثل الوحيد للسنة والجماعة, ويتجسّد فيها وحدها الإسلام الصحيح دون غيرها من الفرق المغايرة, التي أصبحت ضالة مضلة. مصيرها النار التي أصبحت - في هذا التأويل - عقابًا على الاختلاف, ونفيا للتعدد, حتى داخل الدين الواحد الذي اختزل في فهم واحد لفرقة بعينها وتكفير ما عداها من الفرق أو الطوائف الدينية المغايرة في طريقة فهم الدين, أو توجيه نصوصه.

وقد ظل معنى الفرقة الناجية - حسب هذا التأويل - قرين التعصب الذي ينفي إمكانات التسامح الديني الذي يعني احترام الاختلاف في التأويل والاعتراف بحق كل طائفة في الإيمان بأفكار مغايرة, داخل إطار النص الديني الذي يمكن أن تتعدد تأويلاته بتعدد العقول المؤولة ودوافعها التأويلية المختلفة. ولم يقتصر مفهوم الفرقة الناجية على الدائرة الدينية في الخلاف بين النحل والطوائف والفرق الإسلامية. بل جاوزها إلى الدائرة السياسية التي أصبحت النخبة الحاكمة في إطارها فرقة ناجية. كما أصبح المعارضون لها فرقًا ضالة مصيرها عذاب الدنيا الذي يقترن بعذاب الآخرة في التأويلات الدينية المتحالفة مع الفهم السياسي المتعصب الذي يدعي احتكار الحقيقة, ويمارس احتكار القوة والسلطة, ويستأصل أي مغاير أو مخالف له.

التعصب والتسلط

ويقودنا ذلك إلى التعصب السياسي الذي يقترن بالدولة التسلطية, وهي الدولة التي تحتكر مصادر القوة والسلطة في المجتمع لمصلحة الطبقة أو النخبة الحاكمة. وتخترق المجتمع المدني لتحيل مؤسساته التضامنية إلى مؤسسات تابعة. تعمل بوصفها امتدادا لأجهزة الدولة. وتخترق النظام الاقتصادي, وتؤممه لمصلحتها بما يحقق الهيمنة البيروقراطية على الحياة الاقتصادية. أقصد إلى الهيمنة التي تصل الاقتصاد الوطني بتقلبات السوق العالمي, لكن بما يجعل من هذه الدولة خاضعة لتقلبات هذا السوق في أسباب معاشها, وفي وضع التبعية الذي لا تفارقه في علاقاته غير المتكافئة. سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيًا, مع دول العالم الكبرى, وطبيعي أن تنبني شرعية الحكم في هذه الدولة على استعمال العنف والإرهاب أكثر عن الاعتماد على الوسائل الشرعية والمعايير الدستورية. ولذلك تغيب الانتخابات أو تفقد مصداقيتها. ولا توجد تنظيمات مستقلة عن الدولة, وتنتفي إمكانات وجود دساتير فاعلة. وتتجمد الحقوق المدنية بالقدر الذي يتقلص فيه حضور المجتمع المدني وفاعليته إلى أبعد حد. وتتحول أعلى نسب الدخل القومي إلى الإنفاق على الأجهزة القمعية والأيديولوجية لهذه الدولة. إبقاء على مبدأ الولاء لها, والإجماع على الإيمان بشعاراتها, والتصديق المذعن لها, فضلاً عن تقديس زعيمها, أو رأس السلطة فيها.

وإذا كان التعصب السياسي سمة أساسية لهذه الدولة, وعنصرًا تكوينيًا أساسيًا من عناصر تكوينها. والمحور الأول الذي تدور حوله أجهزتها القمعية والأيديولوجية, فضلاً عن مؤسساتها التضامنية, فإن التسامح هو الخطر الذي يهدد هذه الدولة. ويفضي إلى نقضها. ولذلك يقترن التعصب بالحزب الواحد في هذه الدولة, والصوت الوحيد الذي يهيمن على أجهزتها الأيديولوجية, والحاكم الواحد الذي لا يفارق كرسيه إلا بالموت, وذلك بما ينقل ثبات موضعه إلى المسئولين المحيطين له, والمؤكدين حضوره الأعلى, فلا يحدث حراك في النخب السياسية التي تجمد على ما هي عليه, وتتشبث بمواقعها بما يسد الأبواب أمام الأجيال الجديدة, ويمنع تدوير النخب السياسية, ولا ينفصل عن ذلك العداء لإمكانات التعددية السياسية واستئصال حضورها, وذلك بما يقمع الاختلاف أو التنوع أو المغايرة.وحتى عندما تسمع هذه الدولة بوجود أحزاب فيها, تظاهرا أو ادعاء أو استجابة إلى نواهي أولي الأمر في الدول الكبرى, فإن الشروط التي تؤصلها في المجتمع تحيل هذه الأحزاب إلى تجمعات شكلية, مهمّشة, خالية من الفاعلية الحقيقية. وفي الوقت نفسه, تحويل هذه الأحزاب إلى تجليات أخرى لبطريركية الدولة التسلطية. سواء في العلاقات التراتبية, أو العلاقات بين الأجيال, أو هيمنة الصوت الواحد, أو كراهية الاختلاف واستئصال إمكانات التعدد, وأخيرًا, تحويل رأس الحزب إلى زعيم أوحد, هو الوجه المقابل للبطريرك الأعلى الذي يستقر في قمة الهرم التنظيمي الذي تتطلع إليه كل مستويات الدولة والشعب, وتستمد منه الإلهام والرأي, ويطلب منها الطاعة والإذعان والتصديق بكل ما يراه, هكذا, ينتقل مبدأ التعصب السياسي من الدولة إلى الأحزاب التي تتبعها. أو تكون على شاكلتها, ومرآة لحضورها الذي يتكرر في كل بناء هرمي يوازي الهرم الأكبر للدولة التسلطية. أو يستنسخ حضوره لعوامل عدة. ليس من بينها - بالقطع - النشأة الطبيعية التي تنبثق بها الأحزاب من إرادة الناس, وإصرار طوائف المجتمع على تحدي شروط الضرورة, فالأحزاب لا يمكن أن تكون منحة من الحاكم أو تنازلاً منه لرعيته.

التعصب الاجتماعي

وهناك التعصب الاجتماعي الذي يجمد معه المجتمع على العلاقات التي تربط كل فئة من فئاته وتمايزها عن غيرها من الفئات, داخل البناء الاجتماعي الهرمي الشكل, وفي إطار ترتبه الصارم الذي ينفي (الحراك الاجتماعي) ويستأصله. فتغدو العلاقات ثابتة بين الفئات المتراتبة, جامدة, لا سبيل إلى تغييرها. يحمي ثباتها حراس القيم والأعراف المقترنة بالتراتب والمبقية عليه. وذلك في نوع من الصرامة التي تشبه مفهوم العدل الأفلاطوني في جمهوريته الشهيرة, حيث يعني العدل بقاء كل فرد من فئات الجمهورية داخل الطائفة التي ينتسب إليها في علاقات التراتب, لا ينتقل منها إلى غيرها, حتى لا يختل البناء, أو ترتبك العلاقات بما يؤذن بالدمار. وإذا كانت جمهورية أفلاطون نموذجًا تصوريا لثبات علاقات مجتمع التراتب, حيث يغدو الحراك الاجتماعي نوعًا من أنواع المحرمات. فإن المجتمعات التقليدية المتخلفة تنبني على المبدأ نفسه, فتبقي على التراتب الذي تقوى به وتبقى, وتمحو الحراك الذي يهدد علاقاتها, فترد كل الفئات إلى (العصب) الذي يغدو (عصبية) صارمة, تتراتب على أساس من العرق أو الثروة أو السطوة, أو الوراثة, وذاك بمعنى غير بعيد عن تمييزات النوع التي تجعل الأكبر سنا (العَوْد) الأكثر حكمة وخبرة ومعرفة. والأعلى من الأصغر سنا الذي يظل في الوضع الاجتماعي المعرفي الأدنى بالقياس إلى الأكبر منه سنًا, داخل الفئة التي ينتمي إليها كلاهما. ولا ينفصل عن ذلك تمييز النوع أو اللون الذي يجعل المرأة أدنى من الرجل في كل الأحوال. وذلك بالقياس إلى ذكورته التي تتراكم حولها المحاسن بقدر تراكم المساوئ في المرأة التي تغدو (عورة) ناقصة عقل ودين, شأنها في التدني شأن اللون الأسود في علاقته باللون الأبيض الذي يعلو على غيره ويتميز, تمامًا كما يتميز السيد الأبيض على الأسود الذي لم يفارق - في تراثنا - موضع العبودية المقرون بالقبح والشؤم اللذين جعلا من السود (أغربة العرب). وأخيرًا, هناك التعصب الفكري الذي يغدو حالا معرفيًا, تتصلب فيه الذات العارفة على ما أدركته, وترفض أن ترى سواه, أو تنفتح على ما غايره, أو حتى تمنحه حق الوجود, فوجود ما يؤمن به الوعي المتعصب هو وجود مطلق, ثابت, في مداره المغلق. وبقدر ما ينبني الوعي المتعصب على ما يراه, في الأحوال الفكرية أو الأوضاع الثقافية بوجه عام, فإن إيمان هذا الوعي بما ينبني عليه إيمان جامد مطلق, تلازمه صفات الإطلاق التي تنفي نسبية المعرفة وإمكان الخطأ, فالمحتوى المعرفي الذي يحتويه الوعي المتعصب لا يفارق اليقين الذي لا يقبل الخطأ, ولا يعترف بالشك, أو حتى وضع حضوره - من حيث هو محتوى معرفي - موضع الشك أو المساءلة. ولذلك, فالسؤال منهي عنه في وعي المتعصب, والتصديق والإذعان والتسليم صفات ملازمة لعلاقة هذا المحتوى بمن يتلقاه, شأنها في ذلك شأن علاقة الأعلى بالأدنى, التي تصل ما بين المصدر المعرفي ومن يتلقاه أو يستقبله. والنتيجة هي ما تتمايز به ثقافة التعصب من أنها معرفة النهايات المغلقة والمدار المغلق على ما فيه, والبعد الواحد, والصوت الواحد الذي لا يعرف الحوار أو التفاعل أو تبادل الأثر والتأثير. وثقافة التعصب, من منظور مواز, هي ثقافة الإجماع والتشابه والاتحاد. وغير ذلك من الصفات الملازمة التقليد والنقل والاتباع, والمعادية - في الوقت نفسه - للخروج على الإجماع, والابتكار والابتداع, ومغامرة التجريب, أو تجريب الممكن غير المعروف.

التعصب الثقافي

ولا تفارق لوازم التعصب الثقافي لوازم النزعة الماضوية, وهي صفات تجعل من الإنسان المتعصب ذا بعد واحد, لا يتوقف عن محاربة المخالفين له, ويعد كل اختلاف معه أوعنه عداء, يستوجب استئصال الفاعلين له, مؤمنًا في أعماقه أنه يدافع عن الحق المطلق الذي يزعم احتكاره. وعن الحقيقة التي يتوهم حضوره تجسيدًا لها, فيقمع مخالفيه, ويقاتلهم بحماسة الإيمان الذي يتحول إلى دوجما مقدسة. ولذلك يغدو المتعصب شبيها بشخصية بورجي في رواية إمبرتو إيكو (اسم الوردة) وهو سيد الدير, خازن المعرفة الذي يحتكرها, ويؤكد احتكارها بتحريمها على غيره, ويصل إلى درجة الاستئصال المادي لكل مَن اقترب منها, فكانت النتيجة حرق الدير الذي أراد أن يحميه من الهراطقة الضالين. لكنه قبل أن يموت, يواجه بشاعة ما اقترفه من البطل النقيض, رمز التسامح في الرواية, وهو دي باسكارفيل الذي يقوله له: (الشيطان ليس أمير المادة, الشيطان هو صلف الفكرة, هو الإيمان دون ابتسام, هو الحقيقة التي لا يعتورها شك, الشيطان قائم لأنه يعرف أين يذهب, ويذهب دائمًا إلى المكان الذي انطلق منه).ويلفت الانتباه أن التعصب لا يزدهر وحده, ولا يقوى في عزلة عن غيره, فهو سبب ونتيجة لعدد من العوامل المتفاعلة, التي تؤدي إلى ظهوره واستفحال أخطار التعصب, سواء في المجال الذي يقترن به, دينيًا أو سياسيًا أو اجتماعيًا أو فكريًا. أو المجال الذي لا يقوى إلا بغيره في المجالات التي يفضي كل منها إلى غيره, ويتبادل معها التأثر والتأثير. ولذلك لا يقوى التعصب الديني إلا في ظل هيمنة أنواع الاستبداد السياسي, استنادًا إلى القاعدة التي تقول: الملك بالدين يقوى, والدين بالملك يبقى, وما أكثر شواهد التاريخ التي تتضافر فيها نوازع التعصب الديني والثقافي والفكري والاجتماعي مع غيرها من النوازع المتماثلة في الآلية, والمتشابهة في العقلية, الأمر الذي يجعل من التعصب الديني لازمة من لوازم الاستبداد السياسي, ويقرن الاستبداد السياسي بالعصبية الاجتماعية والتعصب الفكري أو الثقافي, حيث العلاقة وثيقة بين الجميع إلى الدرجة التي تدنى بأطرافها إلى حال من الاتحاد, فيتبادل كل طرف وغيره التأثر والتأثير.

إلام الخلف بينكم إلاما?   وهذي الضجة الكبرى علاما?
وفيم يكيد بعضكم لبعض   وتبدون العداوة والخصاما?


(أحمد شوقي)

 

جابر عصفور