الصحافة.. ومستقبلها الغامض أحمد أبو زيد

الصحافة.. ومستقبلها الغامض

ترزح (صناعة) الصحافة الآن تحت ضغوط تنافسية هائلة من وسائل الإعلام الأخرى, وبخاصة من التلفزيون والإنترنت والمحطات المتخصصة في إذاعة الأخبار.

أدت التغيرات المتلاحقة التي طرأت على أسلوب الحياة والعمل منذ السبعينيات الماضية إلى ظهور صعوبات جديدة تحد من انتشار الجرائد المسائية في كثير من الدول, بعد أن كانت هذه الجرائد تلعب دورًا تكميليا مهمًا لجرائد الصباح في ربط القارئ بأخبار العالم بشكل مستمر ومتصل. وقد أفلح التلفزيون ببرامجه الإخبارية المصورة والمتغيرة والمتواصلة في نقل الأوضاع في العالم أولاً بأول وبكفاءة عالية إلى المشاهد حيثما كان, لدرجة أن نسبة لا بأس بها من قراء الصحف اليومية في الدول المتقدمة تحولوا عنها إلى مشاهدة القنوات التلفزيونية وعانت الصحف عناء شديدا من تراجع معدلات التوزيع وفداحة الخسائر المادية المترتبة على ذلك. وقد أجرت صحيفة الواشنطن بوست منذ بعض الوقت بحثا طريفا على عينة مختارة من الأشخاص في مختلف أنحاء الولايات المتحدة حول سؤال واحد محدد هو: لماذا لا تقرأ الواشنطن بوست? أي أنها افترضت منذ البداية أن أفراد العينة لا يقرأون الجريدة. ووجدت أنه على الرغم من أن معظم الأشخاص الذين شملتهم الدراسة كانوا على معرفة جيدة بأخبار العالم والأحداث الجارية فإنهم لم يحصلوا عليها لا من الواشنطن بوست ولا من أي جريدة أخرى, بل من الراديو أو التلفزيون أو الإنترنت, بما في ذلك ما تنشره الواشنطن بوست ذاتها على موقعها الخاص على الشبكة الدولية, وأنه مادام الأمر كذلك فلن يكون هناك ما يدعو إلى شراء الجريدة (الورقية). وتذهب بعض التقديرات إلى أن توزيع الصحف اليومية في الولايات المتحدة عام 1985 كان حوالي 62.8 مليون نسخة فانخفض إلى 55.2 مليون نسخة عام 2002, وهذا انخفاض كبير يثير كثيرا من القلق حول وضع الصحافة في المستقبل غير البعيد بحيث نجد ستيف هوينيش Steve Hoenisch - وهو من كبار رجال الصحافة في أمريكا - يقول: (إن حال هذه (الصناعة) العملاقة سوف يكون أشبه بحال الديناصور الكسيح).

طبعات رقمية

وقد أدى الانصراف النسبي عن قراءة الصحف المطبوعة من ناحية ورغبة هذه الصحف ذاتها من الناحية الأخرى في متابعة أداء رسالتها على الوجه الأكمل إلى أن يصدر بعضها (طبعات) رقمية على الشبكات الدولية (الإنترنت) لنشر بعض محتوياتها من الأخبار والمعلومات الأخرى على أوسع نطاق ممكن, بقصد الانفتاح على جماهير جديدة من (القراء) الذين قد لا تكون لهم معرفة كافية سابقة بتلك الجرائد أو سياساتها واتجاهاتها الفكرية عسى أن يساعد ذلك على عودة معدلات توزيع الجرائد (الورقية) إلى الارتفاع مرة أخرى. ولكن يبدو أن ذلك الهدف لم يتحقق بالقدر الذي كانت ترجوه هذه الصحف. وقد يبدو غريبا أنه على الرغم من انتشار التعليم وارتفاع مستوياته - على الأقل في الدول المتقدمة - فإن الأجيال الشابة لم تعد تهتم كثيرا بقراءة الجرائد اليومية, وتفضل الرجوع إلى وسائل الإعلام الأخرى لمتابعة الأخبار, بل والحصول منها على كثير من المعلومات الأخرى على الرغم من أن هذه المعلومات قد لا ترتفع إلى مستوى ما تنشره الجرائد نفسه من حيث عمق التحليل والتفسير, بل وتوخي الموضوعية. ولكن الصحافة تعرف في الوقت ذاته مدى الخطر الذي يتهدد وجودها من وسائل الإعلام المختلفة وتدرك أنه لا مفر لها من أن تراجع سياستها ومنهجها وأسلوبها في التحرير وطريقة صياغة الأخبار والمعلومات وعرضها, بل وإعطاء قدر أكبر من الاهتمام لبعض الجوانب التي قد تبدو - لأول وهلة - قليلة الأهمية - مثل نوعية الورق والعناية بنشر الصور الملونة, وغير ذلك من وسائل التشويق والجذب التي تخاطب عقول الشباب الذين هم قراء المستقبل.

وقد سيطر في التسعينيات جو من التشاؤم حول مستقبل (صناعة) الصحافة نتيجة لانتشار استخدام الإنترنت بكل ما يتميز به من سرعة فائقة في نشر الأخبار أولاً بأول, وبعد أن عرفت الإعلانات أيضا طريقها إليه, وساد حينئذ الاعتقاد بأنه مع بداية القرن الحادي والعشرين سوف تكتسح (الصحافة الإلكترونية) أمامها (الصحافة الورقية) أو الجرائد المطبوعة العادية. والواقع أنه لا تكاد توجد في الوقت الحالي أي جريدة من الجرائد المهمة في معظم دول العالم دون أن يكون لها موقع على الشبكة الدولية. وقد دفع هذا الوضع - وما ينتظر له من تطورات على حساب الجرائد المطبوعة - أحد كبار رجال الصحافة الأمريكيين, وهو جون سكويارز John Squires إلى أن يقول في اجتماع مديري التوزيع الذي عقد في تورنتو بكندا في نوفمبر 2004: (لقد ماتت بالفعل الجرائد المطبوعة, ولذا ينبغي على صناعة الصحافة أن تركز تركيزا شديدا على النشر الإلكتروني). وهذا هو ما يحدث الآن بالفعل, إذ بدأت بعض كبريات الصحف في الخارج ترسل من دون مقابل رسائل إلكترونية لمن يطلبها تحتوي على رءوس الموضوعات وملخص لأهم الأخبار التي تنشرها في طبعتها الورقية, وتعتبر ذلك (خدمة) عظيمة الأهمية بالنسبة للأشخاص الذين لا يجدون لديهم الوقت الكافي لقراءة الجريدة ذاتها, أو الذين لا تصل إليهم الجريدة في الوقت المناسب. والأغلب أن يصبح هذا (النموذج الحر) أو (النموذج غير المطبوع) هو الأكثر انتشارا في المستقبل نظرا لتعقد الحياة التي لن تترك للأفراد فسحة من الوقت تسمح لهم بتصفح الجريدة كلها. ومن الطريف هنا أن نجد النيويورك تايمز تعلن في أواخر أكتوبر 2005 عن إصدار (طبعة إلكترونية) كاملة من الجريدة الورقية وتذكر صراحة أن هذه ليست مجرد موقع على الشبكة وإنما هي (صورة رقمية طبق الأصل من الجريدة المطبوعة) تحتوي على (كل المقالات والصور الملونة والإعلانات) التي ترسل أتوماتيكيا كل صباح إلى المشتركين على شاشة الكمبيوتر دون أن يحتاج الشخص إلى الاتصال عن طريق الإنترنت مع إمكان تخزينها للرجوع إليها وقت الحاجة. كذلك قامت جريدة الجارديان البريطانية بتعديل حجم صفحاتها لتكون أيسر في التناول مع الاهتمام بنشر الصور الملونة وإدخال بعض التغييرات في أسلوب التحرير. وتذكر أن حوالي نصف الذين يتصفحون طبعتها الإلكترونية على شاشة الكمبيوتر ليسوا من قراء الجريدة ذاتها بل وربما لا يكونون من قراء أي جريدة أخرى على الإطلاق, كما أعلنت أنها سوف تنشر على الشبكة الدولية كل المادة وكل المعلومات والأخبار والتحليلات والمقالات, التي تظهر في الطبعة الورقية, دون حذف أو تغيير أو اختصار, ودون مقابل مادي. بل إنها سوف تتيح الموضوعات التي تمت أرشفتها بالفعل لتكون في متناول الجميع وبخاصة خارج بريطانيا.

الإنترنت والعبء المالي

وهذه خطوة متقدمة على أي حال, وقد يصعب على كثير من الجرائد الأخرى الإقدام عليها لارتفاع التكاليف, إذ إن النشر على صفحات الإنترنت - كما هو الشأن الآن - يمثل عبئا ماليا ثقيلا على كثير من الجرائد التي تحاول تغطية جانب من هذه النفقات عن طريق (إجبار) المعلنين على دفع تكاليف نشر إعلاناتهم على الإنترنت إلى جانب دفع تكاليف الإعلان في الجريدة نفسها. وعلى أي حال فإن الكثيرين يرون أن النشر الإلكتروني هو نوع من الدفاع عن النفس تلجأ إليه الصحافة الورقية التقليدية لضمان استمرار بقائها ووجودها على الساحة بالرغم من التراجع المطرد في التوزيع.

وقد يكون ذلك صحيحًا, ولكن الذي لا شك فيه هو أن الإنترنت يتيح لأي شخص عادي فرصة زيارة جميع المواقع الخاصة بكل الجرائد, التي يود تصفحها في مختلف أنحاء العالم بحيث يجد ما يشبع رغباته وميوله واتجاهاته الفكرية الخاصة, وهو الأمر الذي لا تستطيع أي جريدة واحدة أن توفره لقرائها, كلّ منهم على حدة. فالجريدة تخضع فيما تنشره من أخبار ومعلومات للسياسة الخاصة التي يرسمها أصحاب تلك الجريدة, ورئيس التحرير- وهم الذين يتحكمون فى اختيار ونشر مايروق لهم من الأخبار والمعلومات الكثيرة المتاحة - وقد نشرت مجلة Online Journalism Review يوم 4/3/2004 على الشبكة الدولية مقالا طريفا بعنوان: (What Newspapers and Their Websites Must Do To Survive) يقول فيه المؤلف فين كروسبي Vin Crosbie إن الجريدة المطبوعة تشبه مستودعا تجاريا فيه كل أنواع السلع والبضائع, التي يمكن أن تلبي احتياجات ومطالب وأذواق جميع العملاء, ولكن أصحاب المستودع يصرون على عدم بيع سوى أشياء معينة بالذات يتحكمون هم في اختيارها وعرضها دون مراعاة لأذواق ورغبات هؤلاء العملاء, ولذا يتعين على الجرائد المطبوعة أن تراجع سياساتها وتراعي التنوع بقدر الإمكان فيما تنشره بما يشبع رغبات أكبر عدد من القراء ذوي الميول والعقليات والأمزجة والاتجاهات المختلفة والمتباينة بل والمتضاربة في كثير من الأحيان, وذلك إذا أرادت لنفسها البقاء والاستمرار في الوجود فضلا عن المحافظة على معدلات التوزيع المرتفعة وأن تنشر في الوقت ذاته على مواقعها الخاصة على الإنترنت كل ما من شأنه أن يجذب إليها جمهورا جديدا من القراء, وبخاصة من الشباب. ولكن يبقى بعد ذلك فارق مهم يرجح من كفة الصحافة الإلكترونية, وهي أن الصحيفة الرقمية هي التي (تضع نفسها) أمام الشخص في المكان الذي يوجد فيه دون أن يضطر إلى السعي إليها بنفسه والذهاب لشرائها من السوق كما هو الشأن بالنسبة للجريدة الورقية. وعلى أية حال فإنه إذا كانت نسبة كبيرة من الذين يرجعون إلى الصحف الرقمية هم من الشباب الذين لم يتعودوا على قراءة الجرائد الورقية لسبب أو آخر فإن ذلك يعتبر في حد ذاته كسبا لا يستهان به للمهنة أو الصناعة وللرسالة التي تقوم بها.

خطوات صعبة

ولكن على الرغم من الشعور المتشائم حول مستقبل الصحافة المطبوعة وتراجعها أمام الصحافة الرقمية, فإن هناك بعض الأمل الذي يراود أذهان الكثيرين حول إمكان إنقاذ هذه الصناعة العملاقة من التواري والاختفاء, بل والوصول بها إلى آفاق جديدة من النجاح والازدهار, وإن كان هذا يستلزم اتخاذ عدد من الخطوات الصعبة التي تساعدها على الصمود في وجه كل التحديات التي تلقاها من الإنترنت وبقية وسائل الإعلام ومصادر الأخبار والمعلومات الأخرى, إذ يتعين على الصحافة الورقية إزاء هذه التحديات أن (تعيد اختراع نفسها) حسب ما تقول جريدة التايمز الهندية The Times of India في عددها بتاريخ 24 مارس 2005, بمعنى أن تظهر في شكل جديد ومختلف تماما عما عهدناه خلال العقود الطويلة الماضية, بحيث تحاكي التلفزيون بقدر الإمكان في أسلوبه المشوق في تقديم مادته الإخبارية المدعمة بالصور الملونة, التي تنقلها من موقع الأحداث مع مراعاة نشر المقالات القصيرة الموجزة السهلة على الفهم والاستيعاب, وتقديم أبواب جديدة مشوقة وإضافة ملاحق متنوعة بل وإصدار طبعات عديدة مختلفة في أثناء اليوم الواحد بها آخر المستجدات من أخبار العالم, وأن تخص كل إقليم بطبعة مستقلة تتفق وظروفه بحيث ترضي جماهير قرائها العريضة في مختلف المناطق, بدلا من أن تفرض عليهم جميعا صيغة واحدة وموحدة للجريدة لا تراعي هذه الاختلافات والتنوعات. وهذا أسلوب تتبعه بعض المجلات الكبرى. ولكن هل يمكن للجريدة اليومية تطبيقه على الرغم من ارتفاع التكاليف والأعباء الثقيلة التي سوف يتحملها المحررون?

وعلى أي حال فإن هناك جهودا متواصلة من أجل التوصل إلى أساليب جديدة مبتكرة تحقق كل هذه الرغبات والآمال والتطلعات. ويدخل في هذه الأساليب خدمات الأخبار والمعلومات المصورة عن طريق التليفون وقت حدوثها, فيما يعرف باسم (النصوص السمعية audio-texts) التي يتوقع الكثيرون أن تجد لها سوقا رائجة وإقبالا شديدا على مستوى العالم, وأنها سوف تغري أعدادا غير قليلة من الأشخاص الذين يتابعونها على الرجوع إلى الجرائد الورقية للحصول على مزيد من التفاصيل, كما أنها سوف تسهم في تعميق وترسيخ التفاعل بين هذه الجرائد وجماهير قرائها عن طريق المناقشات الفورية وتبادل الآراء ووجهات النظر, بحيث يصبح هؤلاء القراء (محررين) - بشكل أو بآخر - في الجرائد التي يستمعون إلى ما بها من أخبار بآذانهم, من خلال النصوص السمعية - ويقرأون تفاصيل تلك الأخبار ذاتها في طبعاتها الورقية بعيونهم ويتبادلون الرأي حولها بعقولهم وهذه هي قمة المشاركة في التحرير.

بل المتوقع أن تتمكن الجرائد الكبرى في المستقبل غير البعيد من إرسال صفحاتها كاملة عن طريق الفاكس للمشتركين, بحيث يتسلمون الجريدة كلها كل صباح وهم في منازلهم دون أن يضطروا لشرائها بأنفسهم من السوق, وسوف يستفيد من هذه الخدمة سكان المناطق المنعزلة أو البعيدة عن موطن صدور الجريدة. وسوف يؤدي ذلك بغير شك إلى حدوث تغييرات جذرية في عادات القراءة, إذ ليس من المألوف أن يتسلم الناس جريدة كاملة بكل محتوياتها وإعلاناتها وصورها, وبالشكل الذي تعرض به في الأسواق عن طريق الفاكس. وقد يتطلب ذلك إعادة النظر فى حجم صفحات الجريدة حتى يمكن إرسالها بالفاكس. ولم تلق هذه التجربة حتى الآن كل ما كان يتوقع لها من نجاح, ولكن من يدري ماذا سيكون عليه الوضع في المستقبل إزاء تغير الظروف والتقدم الهائل المتواصل والمتسارع في مجالات العلم وتكنولوجيا الاتصال, بل وإزاء التغيرات التي سوف تطرأ بالضرورة على نوع الورق وحجم الجريدة ذاتها, بل وثقافة المتعاملين مع هذه الجرائد, ورسوخ القيم والتقاليد, والرغبة في التجديد والانسلاخ عن القديم المألوف والمتوارث.

الصمود في المنافسة

وسوف تستغرق هذه التغيرات بعض الوقت حتى تتحقق بكاملها على أرض الواقع, وتتقبلها جماهير القراء الذين اعتادوا على قراءة الجرائد المطبوعة, كما ترضى عنها جموع الشباب الذين أدمنوا على استخدام الإنترنت للبحث عما يرضي احتياجاتهم ويشبع رغباتهم المتنوعة والمتعددة في المعرفة. ويتوقع ستيف هوينيش في مقاله - الذي سبقت الإشارة إليه - أن هذه النقلة تحتاج إلى ما بين عشر سنوات إلى ثلاثين سنة, وهي ليست بالفترة الطويلة على أية حال بالنسبة لحجم التغيرات والتطورات الجذرية التي سوف تطرأ على الصحافة وتزيد من فاعليتها وتأثيرها كوسيلة مهمة من وسائل الاتصال والإعلام, يمكنها الصمود في ساحة التنافس أمام التلفزيون, مع الاستفادة من خدمات الإنترنت والفاكس والتليفون المصور أو المرئي لأداء رسالتها على وجه أكثر اكتمالا. إلا أن ذلك كله يحتاج في الوقت نفسه إلى اتخاذ إجراءات أخرى مهمة تتعلق هذه المرة بتغيير أساليب التنشئة الاجتماعية والثقافية للأفراد منذ سن مبكرة, بحيث ينشأون على حب الاستطلاع والإحساس بأنهم جزء من العالم الواسع الذي يحيط بهم, والذي يتعين عليهم دائما تعرف أخباره وأحداثه, وأن الوسيلة الأساسية لتحقيق ذلك هي القراءة, وبخاصة قراءة الجرائد اليومية سواء في شكلها التقليدي المتوارث أم في أشكالها (المعدلَة), التي تصل إليهم عبر الفاكس أو غير ذلك من وسائل التوصيل. وقد يتطلب ذلك أن تخصص الجرائد جانبا من صفحاتها لمخاطبة الأطفال في مرحلة العمر الطويلة والاهتمام بثقافة الشباب مع اعتبار الاطلاع على هذه الجرائد جزءا من سياسة التعليم العام, حتى تتعود الأجيال الناشئة والصاعدة على قراءة الجرائد, وبحيث تلازمهم هذه العادة طيلة الحياة. وهذه على أية حال بمثابة فكرة تتردد في بعض الأوساط المتحمسة لإنقاذ الصحافة في الولايات المتحدة بالذات, وقد تتحقق هذه الفكرة أو تتلاشى أمام سطوة التغييرات التي تتلاحق في مجال تكنولوجيا الإلكترونيات والاتصال وقدرة الصحافة - أو عجزها - عن ملاحقة هذه التغيرات والإفادة منها.وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجه الصحافة, والتي يعترف المهمومون بمصيرها ومستقبلها بأنها تمثل خطرا حقيقيا على وجودها وقدرتها على الصمود والبقاء والتأثير فإن روح التفاؤل لا تزال تجد لها مكانا فسيحا في تفكيرهم ونظرتهم إلى المستقبل, وللصحافة الورقية في ذلك أسوة باستمرار وجود الكتاب الورقي وتأثيره القوي في مجالات الفكر والثقافة والمعرفة المختلفة, على الرغم من ظهور الكتاب الإلكتروني, وعلى الرغم من التخوفات التي راودت أذهان بعض المفكرين والكتاب حول قدرته على الصمود والتأثير. فروح التفاؤل تفرض على أهلها الإيمان بأن الصحافة الورقية وجدت لتبقى وأن الأشكال والصور الأخرى الأكثر (تطورا) هي بمثابة تنويعات على الشكل التقليدي, الذي يؤلف الآن جزءا من التراث الثقافي للإنسانية الذي يصعب الاستغناء عنه وإسقاطه من الاعتبار, وأن الصحافة الورقية الأصيلة سوف تستمر بمساعدة تنويعاتها المكملة المختلفة في أداء رسالتها لربط أجزاء العالم بعضه ببعض مع السرعة في إنجاز هذه المهمة والإسهام بالتالي في دعم وترسيخ القواعد الأساسية للتفاهم بين الشعوب والإحساس المتبادل بوجود الآخرين, وأن هذه هي المهمة الحقيقية التي تضطلع الصحافة بأدائها, كما أنها هي الهدف النهائي من هذه الصناعة العملاقة التي يبدو على الرغم من كل ما يحيط بها من صعوبات أنها لن تتحول إلى ديناصور كسيح في يوم من الأيام.

ولكن ليس هناك فيما يتعلق بالمستقبل ما هو مضمون تماما.

 

أحمد أبو زيد