(حرائق بغداد) في أعمال كريم رسن مي مظفر

(حرائق بغداد) في أعمال كريم رسن

مع مطلع حقبة التسعينيات من القرن العشرين, وتحت كثافة الغمامة السوداء التي لفّت أجواء العراق, وأسقطت ناسه بين قوتين ضاغطتين جبّارتين: بطش الداخل وظلم الخارج, تسارعت وتيرة عمليات الهروب من الوطن, واشتد نزيف العقول المبدعة, وانقسم العراقيون إلى داخل وخارج, حتى ذهب الظن بالكثيرين إلى أنه لم يعد في الداخل من يستحق الالتفات إليه, وأن الفنانين عامة أصبحوا سخرة يتكسبون من مشاريع الدولة, وينتجون فنا أيديولوجيا بائسا. وفي أحسن الأحوال, ظن الكثيرون بأن الطاقات الشابة على وجه التخصيص فقدت القدرة على اللحاق بالزمن, كما فقدت الكثير من حيوية الإبداع تحت ركام رماد الحروب وغُمّة الضغط السياسي والاقتصادي, وتردي المستوى العلمي. لكن واقع الأمر لم يكن إلى هذا الحد من الخواء. فقد ظهر جيل من المبدعين عرف بجيل الثمانينيات تبلورت تجارب فناناته وفنانيه في حقبة التسعينيات, منهم من غادر العراق إلى مهاجر بعيدة, أو أقام في دول عربية قريبة, بينما ظل البعض في الداخل محافظين على نقائهم, واستطاعوا من خلال ضباب العتمة الحالكة أن يفتحوا نافذة مشرقة, ويبنوا جسور التواصل مع المستقبل. ومن أبرز هؤلاء, على سبيل المثال لا الحصر, كريم رسن وهناء مال الله (كلاهما مقيم في بغداد), وغسان غائب ونزار يحيى (في عمان), (نديم محسن وصادق كويش (في هولندا) وغيرهم من الذين وقفوا في منأى عن كل ما ينحيهم عن طريق الفن الجاد, وقدموا أعمالا تنطوي على التجربة الشخصية متوسلة بوسائل تقنية تضعهم في طليعة فناني الحداثة وما بعدها. بل إن ظاهرة تنوع التجارب الفنية, ووفرة الأعمال في بغداد على وجه التحديد, دفعت الكثيرين من الفنانين أو المشتغلين في هذا الميدان إلى فتح قاعات فنية خاصة لاستيعاب التجارب على اختلاف أساليبها ومستوياتها. ولعل كريم رسن وتجربته الفذة خير دليل على أنه من الممكن أن ينسحق كل شيء إلا جذوة الروح, فهي أبدا متقدة.

تراب العراق

منذ مشاركاته الأولى في المعارض الجماعية في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي بدت أعمال كريم رسن (1960م ) لافتة للأنظار. لكن سلسلة معارضه الشخصية بدءا من عام 1992م في بغداد, حتى معرضه الأخير الذي أقامه في عمان (دار الأندى. مارس 2004م), ثم معرضه في البحرين (قاعة الرواق. سبتمبر 2005م), أسفرت عن منحيً جدي لفنان يغمس يده في تراب العراق ليصور واقعا مضطربا, يحاول الفنان أن يمسح عن معالمه ذرات الدخان الأسود ليكشف ما يخفيه الركام من لغة فنية مؤثرة في عمقها وآسرة في جمالها. وهو إذ يبتكر رموزه وأشكاله, فإنه يحيلنا إلى ما يوحي بأنه نابع من قلب تاريخ هذه الأرض المعذبة على امتداد الزمن. فما يقدمه لمشاهديه من أعمال تجريدية مشحونة بحس تراجيدي عميق, توحي بالتعبير عن وضع راهن بقدر ما تحمل من مدلولات الماضي بكل امتداداته. إنه فنان وقع, وما يزال, تحت سحر تاريخ وادي الرافدين, وعاش في هاجس وقائعه وأساطيره ليصنع منها خميرة يعيد بها بناء رؤية للحاضر, ويستنبط من كنوزها جماليات يستوحي منها عوالمه المبتكرة, ويكّون من عناصرها لغته الفنية. فكيف بدأ هذا الفنان, وكيف تطور?

يقول كريم رسن إنه عشق في طفولته الشخصيات التاريخية التي جسدتها الأفلام السينمائية, وكان يعيد تصويرها على جدران بيته ويمعن في إبراز عضلات الجسم. وحين كان في رحلة مدرسية إلى آثار بابل, وهو مازال طالبا في الابتدائية, شعر لدى ملامسة اللقى الأثرية وأحجار المكان, بخيط دافئ يسري في دمه. وهو إحساس تعمق مع زياراته المتكررة إلى المتحف العراقي, في المرحلة الابتدائية, ووجد نفسه وجها لوجه أمام حضارة متمثلة بشخصيات ملوكها, ومسلات حروبها, وتفاصيل حياتها اليومية وإبداع فنانيها. لعل تلك البداية كانت الأبجدية الأولى التي تعلّم منها كيف يتهجّى خطوطه, ويكوّن ذاكرته, ويحفّز خياله, قبل أن تدفعه الصدف أولا, وإرادته ثانيا, إلى بلورة تجاربه الأولى, ثم التعرف إلى الحركة الفنية وارتياد المعارض الفنية التي تعلم منها قبل أن يلتحق بأكاديمية الفنون الجميلة في بغداد, ويتلقى تعليمه النظامي.

مواكبة تجربة كريم رسن تكشف عن خط تصاعدي متواصل يبدأ من تلك الطفولة المولعة بالبطولة والتاريخ, وافتتانه بكنوز المتحف العراقي وشواهده من تاريخ العراق القديم, إلى جانب كتاباته التصويرية الرمزية, ورقمه الطينية, وصولا إلى تدوين حيّ لتاريخ معاصر ما فتئ يتكوّن من أطنان بارود الصواريخ, وتمزق المدن وحصد آلاف الأرواح. وفي لقاء لي معه (مايو 2004م) حدثني الفنان عن آخر اهتماماته, وهي الولع بالتراث العربي الإسلامي, وما توصل إليه الكتاب العربي من إتقان وروعة وما وصل إليه من صناعة راقية مهيبة.

تجربة الحرب

عرف كريم تجربة الحرب منذ أن كان طالبا في الإعدادية حين زُج به وبزملائه في واحدة من أشرس معارك الحرب العراقية الإيرانية عام 1981م, كما شهد حربين ضاريتين, وما بينهما من اعتداءات متواصلة على العراق, سقط ضحيتها الكثير من الأبرياء. كريم رسن لم يغادر العراق قط. واستثمر الوقت بكل مشاكله ومآسيه في الرسم, والبحث عن معادلات فنية لتوثيق الحاضر, وذلك ما دفعه للتوغل أكثر في مدونات التاريخ وآثاره, والحفر في طبقاته الجلية والخفية.

بدأ اهتمام كريم رسن بتاريخ العراق القديم ورموزه يتجلى في أعماله الفنية عندما كان لم يزل طالبا في سنته الثالثة في أكاديمية الفنون الجميلة, وما إن حلّت السنة التالية حتى كانت التجربة قد تبلورت, وأصبحت أعماله جديرة بالالتفات فرشح للاشتراك في بينالي القاهرة الدولي للرسم (1988م), وحصل على جائزة المحكمين. وفي عام ( 1989م) شارك في معرض دجلة والفرات الذي أقيم في معهد العالم العربي في باريس. وبالإمكان القول إن تجربة كريم رسن استقرت, وتوصلت إلى نهج واضح مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. يقول كريم: (حاولت التوصل إلى رؤية فنية, وتقديم تجربة متميزة من خلال قراءاتي ومشاهداتي لصور أعمال فنانين استهوتني أعمالهم مثل (دوبوفيه) و(بول كلي) و(تريفي). لقد توصلت من خلال متابعاتي إلى الصلة العميقة ما بين السطح والأسطورة, والكتابة الرمزية القديمة, وإعادة إنتاجها بأسلوب حديث).

فما بين تأثره بما شاهد في المتحف العراقي, أو ما اكتسب من معرفة خلال قراءاته في الموضوعات التراثية, وبين متابعته للتجارب الفنية في العالم, كما تيسر له الاطلاع عليها في الكتب والمجلات, ظهرت أعمال كريم, في مطلع التسعينيات, تحمل ملامح شخصية فنية محلية وعالمية في آن واحد.

اعتمد كريم في تكويناته رموزا واستعارات مستوحاة من الكتابات السومرية ولكن بأشكال مبتكرة, توحي بالمصدر ولكنها تختلف في التكوين. وسرعان ما امتلك كريم لغة بصرية تعكس سحر اللقى والطلاسم والتعاويذ, وتعيد إنتاج الأساطير كما وردت في ملاحم التراث الأدبي لوادي الرافدين. في هذه الأعمال استخدم الفنان النص والصورة معا من أجل أن يعيد كتابة الأسطورة المحلية بلغة فنية عالمية حديثة. ومع تواصل التجربة, أصبحت الإشارة والرمز لدى كريم مسألة جوهرية في العمل, ولم تعد مجرد نص مساعد للصورة, وذلك ما جعلها تكتسب فاعلية أقوى وتأثيرا أشد.

في المرحلة التالية, ومن أجل خلق توافق أعمق بين الشكل والمضمون, بدأ كريم يتعامل مع سطح اللوحة تعامل الزمن مع الأثر. لم يعد السطح مجرد أرضية تحمل لغتها الفنية, بل اتخذ السطح دلالاته الخاصة الموحية بالقدم ليتحول إلى أثر, وشاهد على مجريات الزمن. ومع تطور التجربة بدأت أعمال كريم, من خلال معارضه المتتابعة خلال التسعينيات, تكشف عن نزعة خبير بالآثار يحاول أن يمد يده في باطن الزمن ليستخرج مكنون ما خزنت وتخزن. وأصبح سطح اللوحة في هذه المرحلة يكشف عن طبقات وتراكم لابد من القيام بتعريتها وكشطها لإظهار الأثر الفني.

اهتمام كريم رسن بالخامة لا يقل عن اهتمامه بلغة التعبير, بل الخامة مكوّن ملازم من مكونات التعبير. من أجل ذلك فإن بحثه البصري وجد لنفسه مجالا رحبا في الرسم على الورق. فقد أصبحت الورقة, كما هو سطح اللوحة, قماشا كان أم خشبا, تكتسب قيمة أخرى, وتتجلى بشكل يوحي بأنها مخطوطة قديمة تحمل أثر الزمن متمثلا بتآكل أجزاء من الورقة أو ما لحق بحروف النص من محو وتلف, فضلا عن آثار أخرى كالحروق والثقوب. ذلك مايوحي به التكوين في البداية قبل أن يكتشف المشاهد أن المخطوطة لا تنتمي إلا لصاحبها الذي أعاد إنتاجها, وقدم مخطوطاته التي ضمنها لغته السرية, وطلاسمه السحرية. فلا الحروف مقروءة ولا الرموز معروفة, وإن بدت مألوفة للعين. كما أن الكتاب, الذي يوحي بالقدم, ما هو إلا عمل فنان حداثي, يتوسع بلغته المحلية ليخاطب بها العالم برمته.

مع فن الكتاب

ومع التوغل في المعرفة والبحث, توصل كريم إلى معرفة فن الكتاب كما شاع في الثقافة العربية الإسلامية على إثر إدخال صناعة الورق إلى بغداد وانتشارها في أوربا من خلال الأندلس. ومع ذلك فإن تجربة (الدفاتر الفنية) عند كريم ما زالت في ريعان عطائها, وهي تبشر بسلسلة أعمال مثقلة بعنف التجربة, تتمثل الدمار برصد الفكرة وتصويرها من خلال تكوينات وأشكال غاية في الجمال والإتقان. هذه الدفاتر تعبر عن رؤية الفنان لسنوات الحصار وما تلاها من مآسٍ إنسانية ناتجة عن التلوث وتفشي السرطانات والأوبئة, فضلا عن الدمار الذي أُنزل بحضارة كان لها الفضل على الإنسانية جمعاء, فقد لخصها الفنان في دفاتره التي أطلق عليها(حرائق بغداد).

في غمرة واقع تفوق تفاصيله كل خيال, لا بد من إيجاد معادل فني يستخلص جوهر الحدث ويرتقي به إلى مستوى جمالي رفيع, لكي يصبح وثيقة فنية شاملة تمتد بالحدث إلى ما دون حدوده المكانية والزمانية. ولا شك أن فكرة الكتاب, وتوثيق المشاهد من خلال استخدام التقنيات المتعددة كالكولاج والأحبار المختلفة, وتمثل الأثر بإدخال الحروق وتمزيق الورق, إلى جانب الخطوط والأشكال التجريدية الإشارية, من شأنها أن تجعل من هذه الوثيقة صياغة بليغة لحدث إنساني فاق بوحشيته كل اعتبار لإنسانية هذا العالم وحضارته, (حضارة اليورانيوم) كما يتمثلها الفنان في واحدة من دفاتره ذات الصفحات المشربة بالأحمر العنيف.

في صيف عام 2003م ذهب كريم رسن إلى لندن في أول رحلة له إلى أوربا, بل أول رحلة له من العراق إلى أي مكان في العالم باستثناء الأردن. والغريب أنه من خلال تأمله المتأني في أروقة المتاحف الكبيرة, وقاعات العرض وما تعكسه أرضها وجدرانها من عجائب وغرائب الفن الحديث وصرعاته, وما يحمله اللقاء الأول عادة من انبهار وإكبار للمنجز الثقافي, عاد كريم بصورة واحدة غازلت مخيلته, وألحت عليه إلحاحا كبيرا, فعاش أبعاد جمالياتها الأخاذة, وبرودها العلمي, وقسوتها الباذخة, وهي صورة قصف بغداد, كما ظهرت أمام الطيّار المقاتل على شاشة الكمبيوتر من موقعه المحلق بعيدا في السماء. فمن خلال تلك المسافة تضمحل معالم الحياة, وتغدو المدينة مجرد هدف يتمثل بخطوط ودوائر, مجرد صور طوبوغرافية لا أكثر. وحين يطلق الطيار قذائفه نحو هذه النقطة أو تلك, تنبعث من جراء ذلك كتل من الألوان البراقة الزاهية, وتبدو له المسألة مثل لعبة يمارسها الأطفال على شاشة الكمبيوتر, ويحاربون فيها أشباحا ذات أسماء وهمية. هكذا بدت بغداد ومدن العراق للمحلّق في السماء, مجرد لعبة يمارسها من موقعه المتسلط, وتفوقه المادي والمعنوي. هذه السموم الجميلة التي يرميها المقاتل على مربعات ودوائر وخطوط, تنعكس على الشاشة, قبل انقضاضها على الهدف, كتلا من ألوان أخّاذة, كالبرتقالي والأصفر والأحمر, هي ألوان الموت بكل تجلياته. أما على أرض الواقع فلأثر الدمار تجليات أخرى: دخان أسود كثيف يغطي الجدران, وثقوب تحدثها القذائف, وآثار دماء يبست, وأشلاء تفحمت, وأرواح حصدت, هي الصورة الفنية للدمار الخلاّق الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ بكل ثقل مأساته.

أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس
وطني لو شُغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني شخصه ساعة ولم يخل حسي


(أحمد شوقي)

 

مي مظفر  




تجربة تمثل خطا تصاعديا من طفولة مولعة بالتاريخ إلى كيان تمزق مدينته الحروب





استعارات مستوحاة من الكتابات السومرية