جمال العربية

جمال العربية

(المسافر) لعبدالمنعم الرفاعي
بكائية يمتزجُ فيها الفَقْدُ والكبرياء

حين استمعت إلى الموسيقار محمد عبدالوهاب - منذ أكثر من عشرين عامًا - يشدو ببعض أبياتها, مدندنًا بها على عوده, من غير فرقة موسيقية تصاحبه, أيقنت أن الأبيات مُنتزعة من عمل شعري كبير, وأنّ وراءها شاعرًا كبير الموهبة, راسخ القدم في لغته الشعرية, متمرّسًا - كل التمرّس - بالقصيدة العمودية, ورحلتها الحافلة عبر العصور.

كان اسم عبدالمنعم الرفاعي, يقترن في ذاكرتي بالعمل السياسي والدبلوماسي: وزيرًا للخارجية, ونائبًا لرئيس الوزراء, ورئيسًا للوزراء, ومستشارًا سياسيًا لملك الأردن, وممثلاً شخصيًا له. وطغى هذا الوجه السياسي, فغطى على وجهه الأدبي والإبداعي, شاعرًا كبيرًا, وصوتًا شعريًا بارزًا في ديوان الشعر الأردني عبر عقود متتابعة من القرن العشرين.

الطريف أن هذا الشاعر (العروبي) النزعة والتوجّه, ولد في لبنان ونشأ في فلسطين وعاش في الأردن, وسرت في عروقه دماء الانتماء إلى هذه الأقاليم, من قبل أن تكون دولاً وأقطارًا متعددة. يقول تاريخه الأدبي إنه ولد في مدينة (صور) بلبنان عام 1917, ونشأ في فلسطين, ثم عاش في الأردن, حيث كانت حياته الأدبية والسياسية. وبعد تخرجه في الجامعة الأمريكية ببيروت, أتيح له العمل في ديوان الملك عبدالله - أول ملوك الأردن - حيث توطدت علاقته به, وأصبح من رفقائه في رحلاته وأسفاره, ومن جلسائه في السياسة والأدب والشعر, ثم امتدت علاقته الوثيقة بعد ذلك بحفيده الملك حسين.

والتحق بالسلك السياسي الأردني, سفيرًا لبلاده في بلدان كثيرة, ومندوبًا دائمًا للأردن في الأمم المتحدة, مرات عدة, كما ترأس وفد بلاده في المنظمة الدولية طويلاً, الأمر الذي أتاح له القيام بدور رئيسي في طرح القضايا العربية والدفاع عنها, والتعبير عن مواقفه القومية, التي أصبح من خلالها أحد دعاة الوحدة العربية, وبخاصة وحدة بلاد الشام. وبسبب هذه النزعة القومية, أتيح له أرفع وسام يناله مناضل, حين أصيب - وهو في سورية - برصاص الاستعمار الفرنسي عام 1945 عندما هب الشعب العربي السوري في وجه المستعمرين في شهر مايو من ذلك العام, وكان الرفاعي في طليعة الثوار, فكانت إصابته في جسده وسامًا رفيعًا يعتز به, بين أوسمة عدة نالها خلال حياته الحافلة, من بينها أوسمة أدبية واكبت بروز وجهه الإبداعي, الذي أفصح عنه ديوانه (المسافر), والذي سمّاه باسم واحدة من أجمل قصائده وأهمها. تقول سيرته إنه نظمها في لندن عام 1958, على مدار ستة أشهر, وإنه سكب فيها خلاصة مراحل حياته, بكل اهتزازاتها وأحداثها العاطفية, مناجيًا ولده الوحيد - عمر - سفير الأردن في القاهرة الآن, بعد أن قدّر لهما: الأب والابن أن يعيشا وحيدين طويلاً, وكان طبيعيًا أن يرى الشاعر في وحيده تجسيد أحلامه ورؤاه, ورهان زمانه القادم, ومتكأه في مهب العواصف والأعاصير, فجاءت قصيدته فيه طراًزا نادرًا من الشعر الوجداني الأصيل, وبكائية حافلة بالدمع والأشجان والذكريات والحسرة والتأوّهات, يضمّها نسيج شعري ينبض بالاقتدار والعنفوان, والصور التي تتوهج فيها الألوان والظلال, ويتدفق جيشان الإيقاع والأنغام.

يقول عبدالمنعم الرفاعي في مستهل قصيدته (المسافر):

إيه يا طاويَ الرّبى والبيدِ هل لمسراكَ في الدجى من مُعيدِ?
الطريق الطويل هدّم جَنبيْكَ وعَدْو الهوى وشَدْوُ القصيد
سفرٌ شاسعٌ كأنّ مداهُ رحلة الفكر في الفضاءِ البعيدِ
كلما جُزْتُ في نواحيهِ شأْوًا كشف الشوق عن خيالٍ جديدِ
فكتبْتُ الهوى سطورًا سطورًا هائماتٍ, شجيّة الترديدِ
وحملْتَ الشقاءَ جُرْحًا فجُرْحًا فقوافيكَ دامياتُ النشيدِ
هل تذكّرْتَ والزمان غريرٌ وحواشيك يانعاتُ البُرودِ
والمُنى تذرعُ الصَّب بين نَهْدٍ مُشرئبٍّ وناعمٍ أُملودِ
واندفاعُ الشبابِ غيرُ وئيدِ طارَحتْني الهوى فسرْنا وئيدًا
بُرعمٌ هزّ بُرعمًا وتلاقى غزلُ الطلِّ واخضرارُ العُودِ
ما قطفْنا الجنى ولكن رشفْنا من رحيق الحياة خمْرَ الوجودِ
رُبّ ذكرى تعودُ حتى تراها خَلقَتْ شِبْههَا من التجديدِ
شادنٌ مرّ في حمايَ وحيّا سائلاً عن غراميَ المفقودِ
قلتُ: ولّى, وفاح فيك شذاهُ يا نجيَّ المُولّهِ المعمودِ
فانثنى يلثمُ الجراحَ ويأسو والهوى بين طيّعٍ وعنيدِ
وافترقْنا وباعَد الوصْلَ عنّا هَذرُ الناسِ وافتراءُ الحسودِ
في سكونٍ من الصّدى وخُفوتٍ أَيقظتْني تهزُّ أوتار عُوديِ
تسألُ الشعر مابِه ليس يشدو والهوى مالهُ حبيسَ الجمُودِ
واحتسيْنا الطّلا رويْدًا رويْدًا وشربنا على انسيابِ القصيدِ
وتلاقت شفاهُنا وتلظّى شغفُ الشوقِ بين خَصْرٍ وجيِد
ومضَتْ دربها وسرْتُ بدربي والنّوى ينْتشي على التجديدِ


هذا النّفَس الشعري الحار, وهذه اللغة الشعرية الباذخة, وهذا الفضاء الشعريّ المزدحم بالصور والظلال والألوان والإيقاعات, كلّها بعض قسمات هذا العالم الشعري لعبدالمنعم الرفاعي, الذي انتهبت السياسة والعمل الدبلوماسي الطويل حياته وشواغله, ولم تترك لإبداعه الشعري إلا أقل القليل من وقته وجهده وعكوفه على ذاته ومكنوناته. لكنه بالرغم من هذا كله, استطاع أن يحقق لشاعريته - في كلّ تجلياتها - مكانها المتقدم والمتميز في ديوان الشعر الأردني والعربي, وأن تشير قصيدته (المسافر) إلى كل من يقترب من تخوم هذا الشعر - قارئًا أو متأملاً أو دارسًا - بما يحويه هذا الشعر من كنوز اللغة والصورة والفكر العميق, وبما يفيض عنه من أسى الملتاع ومواجع المتوحد وأنين المصدوم ممزوجة بكبرياء الفارس العنيد, الصامد - وهو ينزف - في مواجهة النصال التي تتكسّر على النضال, والليالي الطويلة التي تمتلئ بالبرودة والفقد والاحتياج.

يقول عبدالمنعم الرفاعي في قصيدته الطويلة (المسافر), مصورا فرحته بقدوم وليده ووحيده (عمر):

يا هوى النفس حين يغمرني الشوْقُ إلى الملتقى البهيج السعيدِ
وهُدى الفكر حين أبحث في الكونِ عن اللهِ في مقامِ الخلودِ
وبقائي إذا فنيتُ مع العمرِ وأُودعتُ في مهاوي اللحودِ
ياسنا النور حين أُدلجُ في الليل وأصبو إلى الصّباحِ الجديدِ
وانطلاقي الغداة في الفلكِ الرّحْبِ إذا ضِقْتُ في الورى بقيودي
وانسيابي مع الغدير إلى المرْجِ وعدْوى مع الغزالِ الشّرودِ
ليتني إن بكيْتَ أمنحُكَ الدمْعَ وجفْني ومُقلتي وخُدودي
أو تأوّهت أسكبُ الحبَّ آهًا لك, من ذوْب قلبي المعهودِ
يا نعيمي وهدْأتي وحنيني وادّكاري الهوى وأنُسي وعيدي
جئْتنا والحياةُ تظمأ للخصبِ فأحييْتَ ذابلاتِ الورودِ
فالعبيرُ الذي تضوّع في الدارِ شذى عبْقِكَ النديِّ النديدِ
ما غفا جفْنُنا, كأنّ خيالاً راع أحلامَنا بهولٍ شديدِ
تتمطّى عليه أجنحةُ الجنِّ وتُلْقى من الظلالِ السُّودِ
تحسبُ القُبلةَ الرضيّة تهمي بالمآسي على الزمانِ الفقيد
وترى النظرةَ الغضوبَ سرابًا ذاب فيه الهوى بلفح الصّدودِ
فترنّحْتُ بين يقظة ملهوفٍ ودُنيا أذيً ورؤيا جُحودِ
هاربٌ من يديّ مُنتثرُ الزهرِ وقلّدْته الشذى من ورودي
شارد من حماي منطلقُ الظبيِ غوي النوى عصي الشرود
آه يا ظبْيتي سرحْتِ إلى الغيبِ إلى مهمه الضلالِ الأكيدِ
حيثما الناس ثعلبٌ عند أفعى عند ذئب بزيّ خلٍّ ودودِ
ما ظلمْتُ الورى, ولكنّ سهْمًا منكِ أَدْمى الرِّضى بِجُرحٍ حقودِ
لا أرى حولي الغداةَ سوى الإثْمِ وشكّي بمعدني ووُجودي
والتحامي مع التقى في عراكٍ يهزأُ الكفرُ فيه بالتوحيد
أين يمّمْتِ والطريق مخوف ولياليكِ فيه سودٌ بسُودِ?
تسْتبيكِ البروقُ مؤتلقاتٍ خُلّبَ الوسْمِ كاذباتِ الوعودِ
لهْفَ نفسي عليكِ جرّحكِ الشوْكُ وأدمى الهجيرُ رطْبَ الخدودِ
كنتُ عوّدْتُكِ الحنانَ قديمًا ما على القلب لو حنا من جديد
هل تجنيْتُ علّني, غير أني كنتُ أوْلى لديْكِ بالتضميد
لِمَ لَمْ تسقِني حنانك صِرْفًا وتشدّى من عزميَ المكدودِ?
فهبني أفرغتُ أقداحَ ذنبي لمَ أترعتِ كأسَها بالمزيدِ?
أين يممتِ? ما سألْتِ هوانا فهو مازال عند عهدٍ عهيدِ
ما سألْتِ السنين مُزدهراتٍ بالمصابيح من عُلا وسُعودِ
ما سألْتِ الوفاءَ والحبَّ والعطفَ وطبْع النّدى وفيْضَ الجُحود
لا, ولا جؤذرًا ترعرع في النُّعْمى صفر الكرى, حفّى المُهود
كنتِ عوّدْتهِ الجناحَ, فألفى سائلاً عن جناحكِ المفقود
فأداري شكواهُ أصطنعُ اللهوَ فيرهو بطرْفهِ المعمودِ
في غدٍ تُورقُ الغُصونُ فأروي عن شبابي وقصّتي لوحيدي
في غدٍ تسمع الملائكُ هَمسيْنَا وحيديْن: والدٍ ووليدِ
تتدلّى النجومُ حول ليالينا ويشدو الزمان لحْنَ الخلودِ
وتُطلّين من كُويً نائياتٍ تتمنّيْنَ دونها أن تعودي
آهِ يا ساكن الهواجس والهمّ وحيدًا مع الخيالِ المديد
يمرحُ الشعرُ في رحابكَ والمجدُ ووهْجُ المُنَى, ووهْجُ القصيدِ
ويمرُّ النسيم حولكَ خِلْوًا من حديث الورى وهمْسِ الحسودِ
ويُغشي الضبابُ أمْسَك حتى لا ترى غير يومكَ المنشودِ
رُبّ حريةٍ يُعانقها القيْدُ فتحيا على عناقِ القيودِ
فسلامٌ عليكَ, وقّعكَ الشّجْوُ فأصغى إليكَ سمْعُ الوجودِ!


 

فاروق شوشة