واحة العربي

الغراب
رمز الحذر والتوجس والتشاؤم
والليل الحالك

أول ما عرفناه فور هبوطنا إلى الأرض بعد تجربتنا المؤلمة مع إبليس والثعبان والتفاحة في الجنة، ولا يزال الدرس الذي ألقاه على قابيل ( كي يحفر حفرة يدفن فيها أخاه القتيل ) ماثلا شاخصا في الأهرام والقبور والشواهد والأقبية والسراديب والنواح على رأس الراحل. له ذكاء سمسار ( وسيط ) وحذر جاسوس ومسوح ( ملابس ) فيلسوف وإشارات قائد أوركسترا، وهو أول طائر يتدثر بدرجات اللونين الأسود والرمادي كأنه منتزع من لوحات الفنان المصري حسن سليمان، ويضفي عليه العرج القديم سيماء تيمورلنك أو إيهاب بطل موبي ديك ( للروائي الأمريكي حرمان ميلفيل) أو إبراهيم عبد القادر المازني، يحب النخيل والشجر ويكره الصحاري والصمت ونباح الكلاب، ويتقد بالحماس والمرح إذا ما أمن إلى جماعة أو وكر أو عش مهجور، وحين يحوم في الجو تتلبسه حالة ناقد معاصر لمح كتاكتيت النصوص الأدبية، ينقض عليها، وتقنص أضعفها، ويظل قأقأته تملأ الجو نحيبا وانتحابا ونصراً، والعرب القدامى يزعمون أن اسمه (الغراب) يرتبط ارتباطا مباشراً - ومأسويا - بالغربة والاغتراب، ثم بالشؤم والتشاؤم والتوجس من المجهول، وفي كثير من قصائد الهجر يقف على ناصيتها بصفته غراب البين، وتراهم لا يثقون به ولا يرتاحون لمشيته العرجاء، (ومن يكن الغراب له دليلاً، يمر به على جيف الكلاب) ويضربون به المثل في المستحيل أو التحدي حينما يقولون : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب.

وتتجمع الغربان حول معامل الكتاكيت ومطابخ المعسكرات وتجمعات الأحزاب ومرابط البقر وسراداقات التأييد وفي دار الأدباء ونادي القصة بوسط القاهرة، وكان الروائي الشاعر الأمريكي إدجار آلان بو مغرما به، وبمشيته العرجاء وبألوانه الحالكة وبالرموز التي يوحي بها، ويقال أنه أول طائر لمح اليابسة من فوق صاري سفينة سيدنا نوح عند بداية انخفاض منسوب الطوفان، وكانت قأقأته أول بشير عندما حط على أول أرض، ومع ذلك لم تحتسب له هذه البشارة، وظل بصوته الخشن ونظرته الحذرة يثير في النفوس القلق وعدم الإطمئنان، ربما لهذا السبب نجد ولعا لدى الجماعات البدائية بالتهام صغاره، وكباره في بعض الأحيان، وقد أطلق الناس عليه صفة الأعور مع أنه صافي العين حاد البصر، ويرجع الجاحظ هذه التسمية (الأعور) تأكيداً لتشاؤمهم وتطيرهم منه، ويروون أن إصابته بالعرج جاءت نتيجة لتقليده مشية القطاة، وضربوا به المثل في من يقلد غيره دون ضابط أو إدراك، وربما يرجع كل الذي شاب علاقة الغراب بالناس إلى موقف الفراعنة المصريين منه، فليس هناك أثر لرسم له فوق حوائط المعابد والقبور رغم كثرة ما رسموا عليها من طيور، ابتداء من أبي قردان والنسور والصقور حتى البط والإوز وصغار الدواجن.