كيف انتزعت السينما الإيرانية احترام العالم؟

كيف انتزعت السينما الإيرانية احترام العالم؟

  • «السينما الإيرانية أهم سينما وطنية في العالم»

مجلة «تايم» الأمريكية

مازال خريف العام 1997 عالقا في ذهني عندما ذهبت إلى إحدى دور السينما في مدينة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية لمشاهدة فيلم إيراني. وحين وصولي إلى قاعة العرض, دهشت لامتداد الصفوف الكبيرة أمام شباك التذاكر. اعتراني شيء من الخوف على نفاد التذاكر لكني كنت احتفظت بالأمل. وقفت في الصف رغم كل الاحتمالات وبدأت استشير نفسي عن فرص حظي في إمكان الحصول على تذكرة, وكل همي كان الوصول إلى شرفة شباك التذاكر. وبعد انتظار دام خمسا وعشرين دقيقة, هي أطول من دهر, لم تعد تفصلني عن الشباك إلا بضع أقدام. لم يصبني أي ملل أو رغبة في ترك الصف. لكن انتابني إحساس بالاختناق حين شاهدت مدير القاعة يقف في الباب. وفجأة, ومن دون سابق إنذار, أخبرنا أن كل التذاكر نفدت. لم أكن أصدق ما حصل وأحسست بالتوتر والإحباط لكني أذعنت لواقعي. وحين هممت بالذهاب استدرك المدير: لقد قررنا فتح حصة إضافية نظرا لنجاح الفيلم ومن يرغب في مشاهدته فليبق في الصف لشراء تذكرة. وأضاف: لكني أحذركم أن العرض سيكون على موعد متأخر من الليل: الساعة الثانية عشرة ليلا! كانت الساعة تشير إلى العاشرة إلا ربعا. أقول لكم كم كانت فرحتي عارمة ومازالت تلك اللحظة تلازمني في حياتي وأبتهج كلما تذكرتها. لم أخرج تلك الليلة للترويح عن النفس وانفصالي عن الصف مستحيل ومشاهدة الفيلم هو كل ما في خاطري. انسحب بعض الناس لكن أغلبهم قرر البقاء. حصلت على تذكرتي في الأخير وبقيت أتفحصها من كثرة فرحتي. ولم لا؟ فالأمر يتعلق بفيلم «أطفال الجنة» للمخرج الإيراني مجيد مجيدي الذي أصبح فيما بعد هرما من أهرام السينما الإيرانية. ومع نهاية الفيلم صفق الجمهور الأمريكي طويلا بل صاح بعضهم بصوت مرتفع انبهارا بهذا العمل الفريد. أما أنا, فبقيت جالسا في مكاني عندما كان الكل يغادر القاعة وأنا في حالة اندهاش تام أتساءل مع نفسي: كيف تمكن هذا المخرج الإيراني أن يصنع كل هذا الإبداع ويسحر به جمهورا غريبا عن ثقافته؟ تلك كانت قصتي مع بداية السينما الإيرانية ومع أول عرض أشاهده. نفذ هذا العمل إلى قلبي وسحر مخيلتي وفتح شهيتي لمتابعة السينما الإيرانية والتقرب منها ومحاولة فهم ألغازها وأدواتها والظروف التي نشأت فيها.

ظاهرة السينما الإيرانية

فجرت صناعة السينما الإيرانية مكامن الإبداع في أقل من عشرين سنة بعد قيام الثورة الإسلامية وملأت الكرة الأرضية كلها بأعمالها اللامعة وأصبحت هذه النجاحات مصدر فخر لإيران. والمدهش في هذه التجربة أنه بالرغم من أن الظروف لم تكن في مصلحتها (الحرب العراقية-الإيرانية، إضافة إلى الفوضى العارمة والمؤامرات الخارجية) استطاعت هذه السينما أن تبرز وتفرض نفسها عالميا وتكرم في أكبر المحافل والمهرجانات. وأضحت بعض الدول مثل أمريكا وأستراليا وبريطانيا وألمانيا واليابان وغيرها تقيم مهرجانات خاصة بالأفلام الإيرانية. وباتت تعد من الدول الثلاث الأولى في العالم وذلك بفوزها بأكثر من ألف ومائة وثمان وأربعين جائزة دولية ومشاركتها في أكثر من خمسة عشر ألف مهرجان دولي في مختلف أنحاء العالم. كما شارك خبراء السينما الإيرانية في تشكيلة لجان التحكيم للمهرجانات الدولية لأكثر من مائتين وخمسين مرة. وحصلت عشر إيرانيات على جوائز أحسن ممثلة من اكبر المهرجانات الدولية مثل مونتريال, ولوكارنو, وموسكو, والقاهرة, ونانت. كما رشحت بعض الممثلات الأخريات لجائزة أحسن ممثلة في القسم الأجنبي في الأوسكار الأمريكية. وأخيرا حصل رضى ناجي على جائزة أحسن ممثل من مهرجان برلين سنة 2008 وكان تنافس عليها مع الممثل الأمريكي «دانيال دي لويس Daniel Day-Lewis» الحائز على جائزة الأوسكار. وكانت ذروة نجاح السينما الإيرانية على الصعيد الدولي هي حصول المخرج الإيراني الكبير عباس كياروستامي على السعفة الذهبية في مهرجان «كان» الفرنسي على فيلمه «طعم الكرز» سنة 1997. وتكللت هذه الإبداعات الإيرانية من خلال الوصول إلى الأوسكار بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1999 افتتحها فيلم «أطفال الجنة» المرشح لجائزة أفضل فيلم أجنبي وقالت عنه حينها «ووبي غولدبرغ Whoopi Goldberg » مقدمة البرنامج, «إن الأفلام لا تصنع بالمال فقط ولكن بالعقول الذكية المبدعة». كما أن سميرة مخملباف قدمت فيلمها الدرامي الأول «التفاحة» سنة 1998للمسابقة الرسمية وهي لا تزال في سن السابعة عشرة من عمرها! وكسرت رقما تاريخيا لمهرجان «كان» وبذلك تكون أصغر مخرج من حيث العمر يخوض المنافسة من أجل جائزة السعفة الذهبية التي يمنحها المهرجان. ودعي هذا الفيلم إلى أكثر من 100 مهرجان دولي وحازت به جائزة في مهرجان فيينا والكاميرا الذهبية من «كان». وفي عام 2000 شاركت بفيلمها الثاني «السبورة السوداء»، وفازت بجائزة التحكيم في مهرجان «كان», وبذلك تكون أيضا أصغر مخرج في العالم وفي تاريخ «كان». وعادت في العام 2003 لتفوز بالجائزة نفسها من المهرجان نفسه عن فيلمها «الخامسة بعد الزوال» بعدها شاركت في المهرجان نفسه بوصفها عضوا في لجنة التحكيم كما شاركت في أسمى المهرجانات السينمائية الأخرى مثل البندقية وبرلين! وفي 2006 جلست المخرجة الإيرانية «مرجان ساترابي» على كرسي التحكيم في مهرجان «كان» كذلك. وتتالى حصاد الأفلام الإيرانية للجوائز العالمية بالجملة في المهرجانات الدولية الأخرى. فكل من فيلم «لون الجنة» و«يوم أصبحت امرأة» و«السلحفاة تطير» و«الدائرة» و«وقت لسكر الخيول» و«البالون الأبيض» و«طعم الكرز» و«قندهار» وغيرها من الأفلام الأخرى التي لا يمكن إحصاؤها هنا, لا تستحق الجوائز فقط بل دخول سجل تاريخ السينما الخالد لكونها قدمت آثارا ذات اتجاهات إنسانية متباينة ومؤثرة. كذلك أنجبت إيران, في ظرف وجيز, عمالقة من المخرجين على المستوى العالمي أمثال مجيد مجيدي, ورخشان بني اعتماد, وتهمينة ميلاني, وجعفر بناهي, وعلي حاتمي, وملاقلي بور, وأبو الفضل جليلي, وحسن يكتبانه, وبهمان غوبادي, وأمير نادري, وبهرام بيضايى, وعباس كياروستامي عميد السينما الإيرانية, ومحسن مخملباف وابنتيه سميرة وهناء وزوجته مرضية مشكيني, حتى أصبحت هذه العائلة «مدرسة» سينمائية في حد ذاتها تتسابق عليها دور الإنتاج العالمية لإخراج الأفلام. وتجدر الإشارة إلى أن هناء مخملباف أخرجت فيلما قصيرا عنوانه «يوم كانت عمتي مريضة» وهي لم تتجاوز الثامنة من العمر! هكذا اكتملت جميع المقومات في إيران السينمائية وحازت تقدير المثقفين والنقاد الدوليين بل دعا البعض منهم الدول الأوربية لاسيما فرنسا وبريطانيا وألمانيا أن تستفيد من التجربة الإيرانية. لكن كيف استطاعت هذه السينما خلال وقت قصير وبالرغم من العراقيل أن تصل للعالمية وتفرض نفسها في المحافل والمهرجانات السينمائية الدولية؟

مؤسسة الفارابي

وتضم وزارة الثقافة مؤسسة الفارابي السينمائية, وتعهد هذا المفكر بالنهوض بالمشروع السينمائي الإيراني وتهيئة الأرضية اللازمة وإعادة الثقة والاعتبار إليها خلال السنوات العشر. فكان هذا الرجل بمنزلة الأب الروحي للسينما الإيرانية. فأول ما قام به هذا الفيلسوف هو إعادة الثقة إلى نفوس المخرجين الإيرانيين الذين حرموا أن ينهضوا بوطنهم على عهد الشاه. وكوّن جيلا جديدا وعددا كبيرا من الجنسين يتعامل مع الإخراج السينمائي من منطق الثقة والقدرة. نشير هنا إلى أن في إيران أكثر من 500 مخرج ويتخرج في معاهدها 20 امرأة مخرجة سنويا وبذلك تتفوق حتى على الدول الغربية. إلا أن رؤى هذا المفكر وزخمه الثقافي أظهرا ثمارهما في غضون ثلاث سنوات فقط. ففي سنة 1985 فاز أول فيلم إيراني «العداء» لمخرجه أمير نادري بأول جائزة دولية كبرى لأفضل فيلم في مهرجان القارات الثلاث في نانت بفرنسا.

هذا المفكر هو محمد خاتمي, الذي أصبح فيما بعد رئيسا للجمهورية الإسلامية سنة 1997. كان خاتمي على قناعة - وإرثه الثقافي يشهد بذلك - أن حرية التعبير هي الطريق الوحيد للنهوض بالمهمة الثقافية السينمائية. وهذه الحرية تتمثل في استقلالية الإنتاج السينمائي. فأنشأت وزارة الثقافة الإيرانية «مدينة سينمائية» جندت لها كل الطاقات ورءوس الأموال وآخر المكتشفات التقنية والتكنولوجية المتطورة كما هي الحال في استوديوهات هوليوود. بذلك تكون وزارة الثقافة أعدت الأرضية اللازمة للسينما الإيرانية خلال السنوات التالية كما أنها أتاحت الجو اللائق للمخرجين حتى يبدعوا في انتاجاتهم. وفتحت وزارة الثقافة هذه المدينة لكل المخرجين الإيرانيين دون استثناء وبأرخص الأثمنة في العالم. ويقوم بالإنتاج السينمائي المخرجون بصفتهم منتجين منفذين ويحصلون على الدعم لأول ثلاثة أفلام ويتم شراؤها وتقوم شركة توزيع كبيرة أنشأتها الدولة بتوزيع الأفلام داخليا وخارجيا. وبنت أرقى وأكبر عدد ممكن من دور السينما (في الوقت الذي تغلق فيه السينما أبوابها في المغرب وتعرض للبيع) ونجد أن في طهران وحدها أكثر من 100 قاعة سينمائية كما أن هناك مركبات قيد البناء تتسع لـ1200 متفرج. كما دشنت وزارة الثقافة مهرجان الفجر السينمائي الذي لا يكتفي في نشاطه بدعوة ضيوف أجانب، ويقيم لهم الحفلات الصاخبة, وتهدر الأموال الباهظة من دون فائدة, بل الغرض أن يكون وسيلة لإنجاز إنتاجات مشتركة ودفع عملية تعاون أوثق مع المهرجانات الأخرى وتبادل الآراء على المستوى العالمي. وأصبح يعد تظاهرة فنية عالمية تستقبل أكثر من 45 دولة من بينها أمريكا, فرنسا, اليابان, بريطانيا, ايطاليا, الصين, ألمانيا, هولندا, ودول أمريكا الجنوبية وغيرها. بقي أن نشير أن إيران تنتج 130 فيلما سنويا والإقبال عليها داخل إيران ضخم. ففي سنة 1992 ارتاد السينما 54 مليون متفرج وفي سنة 1994 صعد الرقم إلى 56 مليونا ومنذ ذلك الحين وهو في تزايد.

خصائص السينما الإيرانية

تمكن السينمائيون الإيرانيون بفضل كفاءتهم وجرأتهم وحبهم للفن السابع من العمل وتقديم أفلام واقعية تحمل رسائل إنسانية ومسحة جمالية وتحترم القيم ولا تشتم في ثوابت التراث, ولا تتاجر بجسد المرأة ومن دون أن تكشف حتى غطاء رأسها، ولا تغطى بالضجيج والعنف غير الواقعي والنماذج البطولية المزيفة تفاهة المضمون ولا تعتمد على ميزانية الديكورات الضخمة. إنها سينما بالغة البساطة, ملتزمة وهادفة, وبذلك تكون قدمت مجموعة من روائع الأفلام ونماذج عظيمة للفن الإنساني الراقي. وأبرع ما في ذلك أنها تعتمد في تصوير الكثير من الأفلام على كاميرا الفيديو الرقمية المحمولة على الكتف (أغلب الأفلام الإيرانية تنتج بأقل من 200 ألف دولار وتحصد الأرباح الكثيرة مثل فيلم «أطفال الجنة» الذي حقق أرباحا تتمثل في المليون دولار من أمريكا وحدها!). والأهم من ذلك أنها ليست سينما نجوم, فمعظم أبطالها ليسوا ممثلين محترفين. أما السيناريو فهو يحمل عمقا مدهشا ولغة ثرية متنوعة ومكتوبا بنكهة الإبداعات القصصية الراسخة في الثقافة الإيرانية الشعبية وتشم من خلاله رائحة حافظ الشيرازي وعمر الخيام وجلال الدين الرومي. ونظرا لطبيعته التأملية والفلسفية وقيمة مادته الجمالية ولغته التعبيرية يصبح السيناريو واحدا من أهم خصوصيات وميزات السينما الإيرانية. فالطابع الشرقي المحلي حاضر, والهوية الثقافية مستمدة من الواقع الاجتماعي وقمة التمثيل تدهش المشاهد ومهارة الكاميرا وتحكمها في المشاهد ودقة اختيار مواضيعها والتركيز على الحس الجمالي في أرقى مستجدياته حتى تحس أنك أمام السجاد الإيراني المفعم بروعة الفن وجمال النقوش والألوان التي تعبر بدورها عن شاعرية الإنسان الإيراني ودفئه العاطفي وحبه للفن.

والسينما الإيرانية مختلفة من خلال تأكيدها على هويتها وخصوصياتها وتفردها وعدم تشبهها بأي سينما أخرى. ومعروف أن أهم ما يميز السينما الإيرانية يتمثل في بساطتها العميقة في مضامينها ورمزيتها مما جعلها تنافس المستويات العالمية. وشكل الرهان على المحلية الذي اعتمدت عليه الأفلام الإيرانية أهم خطواتها نحو العالمية إذ اهتمت بتوثيق مشاغل مجتمعها وهمومه وتخلت في المقابل عن الإكسسوارات الزاهية واهتمت بالمواطن الإيراني وآلامه وهواجسه. وبذلك تكون السينما الإيرانية قدمت استعراضاً راقياً يصل إلى الجمهور المحلي والعالمي يستحق كل الإعجاب والتقدير. والسينما الإيرانية, كما أشرنا سابقا, مثل السجاد الإيراني: لوحة بديعة تنبض بالجمال وبشاعرية فياضة. وكان لزاما على المتفرج أن يدقق بعين ثاقبة لأن السينما الإيرانية بها غموض غريب وإثارة لا يستطيع معها المتفرج الإمساك بالمعنى الذي يريد المخرج التعبير عنه. فالتفاصيل فيها مهمة لأنها تحمل الكثير من ألوان الطبيعة الشعرية والقصصية التي تزخر بها الثقافة الفارسية المليئة أيضا بالرموز الروحية والتعبيرات والإيحاءات الخفية. فهم يحكون قصة لكنهم لا يكشفون كل جوانبها ويتركون هذه المهمة للمتفرج ليتفاعل معها. فيكون الفيلم بديعا في تفاصيله وألوانه, مليئا بالفلسفة والعمق والتناغم الشعري، غنيا بالمشاعر الإنسانية المستلهمة من الهوية والكرامة والحضارة الإيرانية.

سحر الصورة ولغز اللغة

التقيت المخرج الإيراني مجيد مجيدي, من بين آخرين, مرتين. الأولى في متحف «الفنون الجميلة» في بوسطن, بأمريكا سنة 1998 عندما قدم لفيلمه «أطفال الجنة» والثانية في «مونتريال»!, بكندا سنة 2000 عندما عرض فيلمه «لون الجنة». وحملت على كاهلي مسئولية الاستفادة منه بأكبر قدر ممكن في فهم الألغاز والرموز التي يستعملها المخرجون الإيرانيون وبغزارة. كانت كل فرصة ألتقي به ممتعة إلا أن العائق الكبير كان اللغة. فمجيد مجيدي لا يتكلم إلا الفارسية وأنا حاورته بالانجليزية. إلا أن صديقي الدكتور «علي طالب زادة» قام بعمل جبار في الترجمة. سألته عن «البالون الأبيض» أول عمل لجعفر بناهي الذي أخرج حتى الآن ستة أفلام جلبت له ثمانية وأربعين جائزة دولية. كما سألته عن نفسه وعن فلميه «أطفال الجنة» و«لون الجنة» و«الخمار الأزرق» للمخرجة «رخشان بني اعتماد» وهذا الاهتمام البالغ بالألوان والأطفال واستعمال لغة الإيحاء والإيماء كما سألته عن سر نجاح السينما الإيرانية. فأجابني بأن القفزة السينمائية الإيرانية راجعة إلى وجود احتياطي هائل من المواهب والمواضيع وتحولت إلى عنوان جودة بسبب دعم الدولة. وأضاف أن الغرب اهتم بها بشكل فريد لأن بها قيما يقدرها, وتقدم له أوجها أخرى من الحياة والثقافة في إيران البلد غير المعروف جيدا والمنغلق شيئا ما أمام الغرب. أما عن الأطفال فقال إن هناك أمورا لا يمكن أن تقال أو تظهر مباشرة نتيجة الرقابة ولهذا ينتهج المخرجون أسلوبا يعتمد على شخصيات الأطفال في الأدوار الرئيسية يقدمون من خلالهم مشروعهم وبطريقة رمزية تتجاوز الدلالات مصير الأطفال لتشمل المجتمع ككل. أما الألوان فلها صبغة خاصة في المجتمع الإيراني يتعامل بها الناس باعتبارها وسيلة إيحائية لتمرير الأحاسيس أو المعلومات. فاللون الأزرق كما جاء في فيلم بني اعتماد يعني العصيان والسخط على الوضع, ويستدرك: كما فهمته, ويبتسم. هذا ما يجب الإلمام به لفهم الفيلم الإيراني البسيط الذي يحمل في ثناياه نفحات إنسانية وقيما جمالية تتجاوز حدود محليتها وبإشارات ملائكية وفنية تصل إلى قلبك مباشرة، حتى لقد تدمع منك العين والروح والفؤاد. ففي البالون الأبيض, الذي فاز بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان «كان» السينمائي عام 1995 جسدت دور راضية الطفلة «عائدة محمد خان» بأداء ممتاز ومدهش واستطاعت سلب القلوب بصوتها اللطيف الساحر وعينيها اللتين تقطران بالبراءة. تشاهدها تتحدث بتلقائية وعفوية ولا تكترث بوجود الكاميرا. هذا النهج أصبح سائدا في معظم الأعمال السينمائية الإيرانية التي وظفت الكثير من هذه العناصر في بيئتها الحقيقية ومع ناسها الطبيعيين وتم التصوير على أرضية الواقع, الواقع الحافل بالتفاصيل والهموم الاجتماعية والسياسية. هكذا جاءت إيران لتكمل مشوار السينما الواقعية الايطالية بنفحة سياسية جديدة وحداثة عن جدارة مختلفة وتنقل واقع مجتمعها وتقاليده بكل أمانة وصدق بلغة هادفة شفافة وتقنيات عالية فلّيني يبعث حيا في إيران من روائع السينما الإيرانية التي تجعلك تظن أنك أمام عبقرية فلّينية فيلم مرضية مشكيني «يوم أصبحت امرأة» والحائز على اثنتي عشرة جائزة دولية. يصور الفيلم عبر أسلوب يجمع بين الواقعية والرمزية ويمزج بين التسجيلية والروائية وبلغة شاعرية مليئة بالدلالات, تجارب ثلاثة أجيال من النساء. واستطاعت مشكيني أن تستعرض أوضاع النساء ومعاناتهن في إيران دون الحاجة إلى أي مرافعات أيديولوجية ذات طابع سياسي أو نسائي. والفيلم عبارة عن ثلاث قصص يفتتح بالصبية «حواء» (لاحظوا التسميات فلها دلالات كبيرة) وهي في التاسعة من عمرها وتفاجئها جدتها أنها ستصبح امرأة ذلك الصباح وكان لزاما أن تنسحب من العالم الخارجي وعدم الاختلاط بالأطفال واللعب معهم وارتداء التشادور والانحباس داخل المنزل. فاغتال الخبر لحظات الصفو والفرح البريء في قلب الفتاة. والقصة الثانية تتعلق بـ «آهو» وهذا الاسم يعني في اللغة الفارسية الغزال. والمقصود بالاسم هنا ليس الجمال ولكن ما تمتلكه الغزال من قوة وجرأة على الجري والفرار من الاصطياد إلا إذا وقعت في فخ. أما القصة الثالثة فتتعلق بامرأة عجوز اسمها «حرة» فقدت زوجها الذي ترك لها مالا وفيرا وقررت أن تستمتع به وتنطلق إلى البحر, حرة. وقد ينسي المشاهد كل شيء في الفيلم لكنه لن ينسي أبدا ذلك المشهد وتلك اللحظات الخالدة في الفيلم الذي صورته مشكيني بكل سحر وشاعرية ويتسلل هذا الإبداع تحت الجلد ليحرك في المشاهد عواطفه. سجلت لنا بتقنية عالية ذلك الفضاء الرحب الجميل والقريب من البحر (جزيرة كيش) الذي تتسابق فيه أعداد كبيرة من الفتيات على دراجاتهن الهوائية وكأنهن أشباح أو سحاب متماسك وتحاول سحابة الانفصال عنهن «لتشرق الشمس». هذه السحابة اسمها «آهو» وهي متزوجة, تتسابق على دراجتها نحو «الخلاص والحرية» في تحد للأعراف الاجتماعية السائدة وتحت سيل النظرات القاسية لأفراد عائلتها. ووظفت المخرجة كاميرا التصوير توظيفا رائعا وبسحرية مذهلة تأخذك بدهشة تامة في مشهد مطاردة «آهو» من طرف الزوج المسن واثنين من عائلتها على خيول جميلة لمنعها من السباق. ويبدأ صراع مجنون مع الزمن والإرادة, ولك أن تتخيل ما دار في ذهن آهو. تناوب هؤلاء الأفراد الذين يجسدون القمع والتصلب على «آهو» كل على حدة لإقناعها بالتوقف عن المسابقة. فيقترب منها الزوج أولا وينصحها بالتوقف, فتأبى, ثم يهددها بالطلاق وينسحب في مشهد جميل خلاب وكأنك أمام لوحة بديعة تستحق كل الإعجاب. ولكن «آهو» بنظراتها الحادة ووجهها المليء بالتحدي لا تكترث لما يقولون وتتابع السباق دون أن تفرط في التشادور الذي تعض عليه بأسنانها بشدة متشبثة بالتقاليد, متحدية العيش تحت نظام عائلي متسلط. وضعت مشكيني بصمتها الخاصة في الإلهام السينمائي بتقنيات جديدة وطرق وأساليب ملهمة في الإخراج وبأقل قدر من الكلام يستحق كل الاحترام والتقدير. لقد أمتعتنا حقا بسلسلة غنية باللقطات المتتابعة الرائعة والصور الجميلة في عملية صناعة الفيلم الإيراني. ويأتي مشهد الختام على الشاطئ ليكلل قمة التعبير في الصورة، ومدى ما تنطوي عليه من رموز ودلالات حيث تجتمع النساء الثلاث «بالصدفة» (حواء الآن امرأة) لتصبح القصة واحدة تتطرق إلى هموم ومشاكل ومكبوتات متعددة من حياة امرأة واحدة. فجاءت الصورة مشحونة بالكثير من المعاني والتشويق على الطريقة الايطالية. هذا هو الفيلم الإيراني الجديد الملتزم وما يحمله من نقد للمجتمع نتيجة المناخ الثقافي الجديد والانفتاح السياسي الكبير واحترام حرية التعبير داخل إيران والمساواة بين الرجل والمرأة في هذا القطاع بالذات.

 

 

 

حسن بنشليخة 





 





المخرج ماجيد مجيدي وبطلة فيلمه «باران» أثناء التصوير





ملصق فيلم «أطفال الجنة» كما عرض في الدول الآسيوية مثل الصين وفيتنام





ملصق فيلم «أطفال الجنة» في نسخته الانجليزية وقد حصل على تصنيف أربع نجوم وهي الأعلى فنيًا