صقر الشبيب .. شاعرهم بإقرار العموم (شاعر العدد)

صقر الشبيب .. شاعرهم بإقرار العموم (شاعر العدد)

لم يكن صقر الشبيب أبرز شعراء الكويت ولا أشهرهم ولا أشعرهم، ولكنه كان شاعرهم «.. بإقرار العموم» كما وصفه المصلح الكويتي الأشهر الشيخ يوسف بن عيسى القناعي. ولم يكن «شاعرهم» هذا سوى شاعر بدأ ثائراً على أوضاع مجتمعه الساكنة في لجة الظنون، وانتهى به المطاف وحيداً في عزلته الاختيارية والتي اضطر إلى اختيارها يأساً من حياة تكالبت فيها عليه اتهامات المتعصبين من أبناء مجتمعه وحوائج النفس المرهقة، وتعب الجسد الهزيل، وفقدان البصر، وقلة الحيلة، على الرغم من قدرة مميزة على إنتاج قصيدته الخاصة بنفس شعري متعال.

ولد صقر بن سالم بن شبيب بن مزعل الشمري في مدينة الكويت عام 1896م، وما لبث أن أصيب بمرض أفقده بصره ولما يزل في التاسعة من عمره ، لكن ذلك لم يمنع روحه الطموح من التطلع نحو تميز إبداعي كانت له موهبته الفطرية في قول الشعر المتكأ الأول والملاذ الأخير، فتعلم في «الكتّاب»، القرآن الكريم والعربية والحساب وغيرها من علوم أساسية، لم يكن متوافراً لمن في مثل ظروفه المجتمعية غيرها.. فما أن أخذ ما توافر منها في مدينته سافر إلى الأحساء طلباً للمزيد، حيث بقي هناك عامين تتلمذ فيهما على أيدي علمائها وأخذ عنهم الكثير مما يرغب في تعلمه من علوم الدين والفقه والنحو، لكنه عانى مقابل ذلك الكثير من تعنت بعض المتعصبين من شيوخه وأساتذته هناك مما جعله يقرر العودة إلى وطنه ناقماً عليهم وعلى كل متعصب.

وفي الكويت طلب منه والده، الذي كان صياد سمك رقيق الحال، أن يعمل في الوعظ الديني ليساهم في ميزانية الأسرة، لكن طلب والده لم يلق هوى في نفسه الأمارة بالشعر والإبداع، حيث عكف على قراءة كل ما يقع تحت يديه من كتب الأدب ومجلات الثقافة العربية التي كانت تصدر في تلك الأيام .. فكانت القافية صديقته الأولى، وكانت قصيدته مبتدأه ومنتهاه، وكانت اللغة العربية البئر المليء بالسحر والأسرار، والذي وجد نفسه يحاول متح ما يستطيع منه. وكان شاعره الأثير أبو العلاء المعري قدوته في تحدي عاهة فقدان البصر عبر قول الشعر وقراءة الفلسفة، فاعتكف في بيته مسوراً بغضب والده وعطف والدته .. يتقلب بينهما كمن يتقلب بين الجمر والثلج.

لكن سرعان ما ذاب الثلج وخمد الجمر بموت والدته أولا، حيث وجد نفسه وجها لوجه مع الغضب الأبوي الذي تجنبه بالعزلة غالباً، وما أن رحل الوالد حتى وجد نفسه مسوراً بيتم مضاعف ضاعف من عزلته التي أنتجت قصيدة المزلزل توقا نحو كل جديد في مجتمع مازال أسيراً لرث الأفكار والعواطف. فانزوى في بيته لا يزوره فيه إلا بضعة أصدقاء أوفياء صدوا عنه - ما استطاعوا - غضبة المتعصبين والمتزمتين ممن رأوا في دعواته المتكررة للانفتاح خروجا عن الدين ومروقا على التقاليد.

ويمكن اعتبار صقر الشبيب أحد أهم الأساسات القوية التي قامت عليها الحركة الشعرية الحديثة في الكويت، وبانشغاله في تناول الشأن القومي عبر التفاتاته الشعرية المتكررة لقضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين تحديداً، رسم صقر الشبيب لنفسه صورة ثقافية أكثر اتساعاً من الصور التي رسمها كثير من معاصريه من الشعراء لأنفسهم.. على الرغم من قلة الفرص التعليمية، التي قد تتوافر لكفيف مثله في مجتمع كان بالكاد قد اعترف للتو بالمدارس الحديثة سبيلا لتلقي العلم.

لكن الشاعر المولع بالقراءة انكب على تثقيف نفسه من خلال اطلاعاته الشعرية والأدبية والفلسفية الواسعة مما سهل له بعد ذلك في تميز قصيدته بخصائصها الفنية العالية.

وعلى الرغم من زهد صقر الشبيب في الشهرة والأضواء، التي احترق بها غيره من الشعراء المتهافتين عليها، فإن ذلك لم يمنع شعره من الانتشار والذيوع تناقلا على ألسنة محبيه ومريديه، ونشراً في بعض المجلات المحلية كمجلة الكويت والمجلات العربية الأخرى.

وقد ظلت تلك القصائد الكثيرة متفرقة بين المجلات وصدور حفاظها وأوراق الشاعر، التي تركها وراءه بعد وفاته عام 1963 إلى أن انبرى لها أحد محبيه ومريديه، وهو الباحث والكاتب الكويتي الراحل أحمد البشر الرومي، فجمعها في ديوان كتب له مقدمة تضمنت ترجمة وافية للشاعر.

وصدر ذلك الديوان عام 1968م، ثم أعادت طباعته العام الماضي (2008) مؤسسة جائزة البابطين للإبداع الشعري في طبعة جديدة أعدها وأضاف إليها، وقدم لها الباحث الكويتي د. يعقوب يوسف الغنيم، وهي الطبعة التي اعتمدنا عليها في اختياراتنا الشعرية لهذا العدد.

 

 

سعدية مفرح