حياة «هدارة».. الطفل الذي احتضنه النعام

حياة «هدارة».. الطفل الذي احتضنه النعام

رواية مقتبسة عن قصة حقيقيّة لحكاية شعبيّة شفوية عن غلام تربى مع النعام, حدثت فصولها السرياليّة في منطقة الصحراء الغربيّة بالصحراء الإفريقيّة الكبرى.

شهدت الساحة الأدبيّة العربيّة ظهور رواية جديدة من الحكايا الشفويّة الشعبيّة، من تأليف الصحفيّة السويديّة «مونيكا زاك»، حملت عنوان: «الولد الذي عاش مع النعام»، عن حياة الطفل «هدارة» من منطقة الصحراء الغربيّة الذي عاش عدّة سنوات مع سرب من طائر النعام. قصّة هدارة التي استوحتها الكاتبة السويديّة من قصّة حقيقيّة حدثت لأحد الأطفال من منطقة الصحراء الغربيّة، التي يعيش معظم أهلها كلاجئين في مخيّمات مدينة تندوف الجزائريّة، جعلت أسطورة «طرزان» و«موجلي» الغربيّتين، وقصة «حيّ بن يقظان» العربيّة لابن طفيل، تبدو قصصا خرافيّة، مقارنة مع القصّة الحقيقيّة للطفل «هدارة»، الذي عاش بالفعل هذه التجربة الإنسانية الغريبة، التي لا يزال أهل الصحراء الغربيّة يروونها حتى الآن، وفي مقدّمهم أبناء هدارة نفسه، الذين يقصّون قصّة أبيهم «ابن النعام» على الجميع. وقد طبعت الرواية «بدار القصبة للنشر» في الجزائر سنة 2007 في إطار فعاليّات «الجزائر عاصمة الثقافة العربيّة»، تنفيذا لمشروع «ألف كتاب» الذي رصد ميزانية كبرى لتعزيز الثقافة العربيّة وزيادة نسبة المقروئيّة باللغة العربيّة في الجزائر، كما قامت بترجمة هذه الرواية إلى اللغة العربية المترجمة «راوية مرة». «مونيكا زاك» مؤلّفة هذه الرواية هي صحفيّة سويديّة تعمل لمصلحة جريدة «جلوب» السويديّة من الجزائر، كانت تهتم بنشر الحكايا الشعبيّة التي تروى في الجزائر عن السحر والجنّ، عبر خبرتها الصحفيّة وطبيعتها الاستشراقيّة، وكانت تجمع هذه الحكايات لتؤسّس قاعدة خياليّة كافية لإبداع رواية تصف وترسم وتقدّم شخصيات عاشت حياة سرياليّة خياليّة، فسمعت بقصّة الطفل هدارة، وقرّرت البحث حوله وعن حياته، وجمعت كلّ المادّة المتوافرة حوله، حيث قام التلفزيون الجزائريّ بإعداد روبورتاج صحفيّ مهمّ عن قصّة هدارة، واندهشت «مونيكا زاك» كثيرا عندما أرشدها الناس في الصحراء الغربيّة إلى «أحمدو هدارة» ابن «هدارة ابن النعام»، حيث تحوّلت القصّة في ذهنها من الخيال إلى واقع يسرده أحمدو هدارة أقرب الناس إلى الراحل هدارة، الذي تتحدث عنه كلّ أسرة في الصحراء الغربيّة.

حكاية الولد الغريب

وتحكي قصة حياته المليئة بالأحداث الغريبة. هدارة ... ابن النعام قصّة «هدارة» - أو «حضارة» كما جاء اسمه في بعض صفحات الرواية - الولد غريب الأطوار الذي قضى فترة من حياته كنعامة، إنّه هدارة الولد الذي يركض دائما في عرض الصحراء ويرقص رقصة النعام، الرجل النباتيّ الذي لم يأكل اللحوم طيلة حياته، وتحبه الغزلان والإبل، كان يأكل النباتات وأوراق الأشجار، وعائلته سرب من النعام، عاش معها ليحميها بعد أن أحبّته، حيث كان يمنع الناس من صيد النعام أو سرقة بيض النعام، أحبّ فتاة تدعى خروبة وأنجب منها أربعة أبناء، ثلاثة صبية وبنتاً جميلة، همهم الركض في الصحراء وأن يرقصوا رقصة النعام، وقد وصّاهم هدارة بحبّ طائر النعام الذي لا يخون الإنسان أبدا، فكيف أصبح هذا الرجل ابن النعام، ولماذا تحولت حياته على هذا النحو الغريب فأصبح مختلفا عن بقيّة سكّان الصحراء الغربيّة. فقدان هدارة الصبي لأمه .. مأساة أم نعمة؟ بدأت حكاية هدارة طفلا صغيرا مع رحيل قبيلته الصحراوية بحثا عن الكلأ والماء في منطقة الصحراء الغربيّة، حيث كانت أمّه فاطمة تركب به ناقة في قطيع الإبل المسافر، فتخلّفت شيئا ما عن القطيع، وتأخّرت عنه بسبب اكتشافها لعشّ بيض النعام في مكان لم يره رجال القبيلة، فنزلت به أمّه ووضعته في عشّ البيض، ونادت صارخة أهل قبيلتها للعودة فلم يسمعوها، لكنّها لم تحسب حساب هروب ناقتها التي ما لبثت لحظات حتى هرولت مسرعة للهرب منها بعد نزولها مع هدارة، فلحقت الأم المسكينة بالناقة التي كانت الوسيلة الوحيدة للسفر والترحال في الصحراء القاسية وتركت الطفل الرضيع هدارة، ولم تكن تظنّ أنها لن تعود لتراه مرّة أخرى، حيث هبّت ريح كبيرة تسببت في ضياع أمّ هدارة نفسها، وكادت الأمّ أن تفقد حياتها هي الأخرى، لولا أن وجدها أهل قبيلتها بعد بحث مضن، وبحث كافّة أهل القرية رفقة المرأة المسكينة عن الطفل الصغير فلم يجدوه، ولما طالت فترة البحث رجّحوا وفاته إذ قدّروا عدم قدرته على تحمّل الجوع طوال تلك المدّة، لكنّ الطفل هدارة عاش بالفعل وسط النعام، وكانت أمّ فاطمة ترفض تصديق حقيقة وفاة ابنها هدارة، وبقيت تبحث وحدها دون يأس لعلّ الولد يظهر خلف شجرة أو صخرة ما لكن دون جدوى.

التوسل ليلاً ونهاراً

وقد قرّرت قبيلتها أن تنصب الخيام بمكان قريب من الماء، فرجت فاطمة كبير القبيلة وقائدها العارف بأمور الصحراء، ويدعى «دولة»، وهو رجل زنجيّ طويل القامة ضخم الجثّة ملثّم الوجه لايظهر من وجهه سوى أنفه وعينيه الجاحظتين، وكان شيخ القبيلة «دولة» يدعو الله لها متوسّلا الفرج وطلب الماء والغذاء للقبيلة كلّها، فطلبت منه فاطمة أن يتوسّل إلى الله أيضا لتجد ابنها هدارة، فقام دولة بالتوسّل لأجلها ليلا أمام أهل القرية جميعا لكن دون جدوى، رغم أنّ فاطمة ظلّت تنتظر طويلا ظهور البرهان والإشارة لعودة هدارة. كما أنّ النعام أخذ هدارة ابن فاطمة بعيدا في رحلته الصحراوية، للبحث عن مكان يحمي فيه النعام بيضه من البشر، وهو ما زاد من صعوبة العثور على الطفل الضالّ في عرض الصحراء الغربيّة، التي كانت تحتلها إسبانيا في تلك الفترة. وقد أثبتت الصحفيّة «مونيكا زاك» امتلاكها لخيال أدبيّ واسع، وقدرتها الصحفيّة على تقصّي الحقائق حول شخصيّة هدارة بطريقة احترافيّة كبيرة، حيث أحبّت زاك شخصيّة الرواية، وغاصت في أعماق بطلها «ابن النعام»، هدارة الذي دهشت زاك عند كلّ دقيقة وتفصيل في حياته المليئة بالأحداث الجميلة، كما استخدمت زاك الخيال لبناء قصة حياة النعام، والحوارات التي حدثت بين النعامات، حيث أعطت لكلّ نعامة اسما، وحاولت أن تجعل فصل حياة هدارة مع النعام الفصل الأهم في الرواية، ما دام هدارة يعتبرها أحبّ مخلوق عرفه وأحبّه طوال حياته.

كانت النعامة تحمل هدارة على ظهرها، وكان الطفل المسكين الذي لا يحسن الركض والمشي، يتثبّث بيديه فوقها، شادا بأنامله الصغيرة شعرها على ظهرها، وكان هدارة كثير السقوط، وعند كلّ سقطة يكاد يموت من الألم، يصرخ صراخا حادا لا تستوعبه النعام، لكنّها تشعر به، فلا تتوقف النعام عن الجري والاختباء من البشر كلّما رأوهم، فأخفوا معهم الطفل هدارة، وكانت النعامة ««ماكو»» أحنّ النعام عليه، عاملته معاملة الأمّ، تتركه يتمدّد على ريشها لتوفر له السرير الدافئ، وكانت كل نعامة تحاول التعرف عليه بفضول كبير فتعضه أو تلمسه فيبكي من الألم، وكانت أمه الجديدة «ماكو» تحدثه بالأفكار وتقول له: «أنا أمك»، فلا يستجيب، وكانت «ماكو» تهدد بقية النعامات أن تعود لعض هدارة، فأحبها الطفل الصغير، المشكلة كلها كانت في «حوج» النعام زوج «ماكو»، الذي قرر التخلص من الصبي، لأنه عبء إضافيّ وليس من فصيل النعام، وقد كانت «ماكو» تطعم هدارة، لكن «حوج» الذي عهدت له «ماكو» حراسة هدارة وقف متفرجا في الطفل هدارة الذي يكاد يموت عطشا وهو متجه صوب الواحة، ويتربّص به نسر ينتظر موته ليأكله، وتمنى «حوج» موت الطفل ليتخلص منه، لكن «ماكو» عادت مسرعة وأخذت هدارة إلى النبع ورمته في الماء ورفعت رأسه حتى لا يغرق، وأخذت تحميه حتى ذهب النسر، وما إن وجد هدارة الماء حتى بدأ يشرب ويشرب، وهو غير مدرك أنه كان موعداً ثانياً بينه وبين الموت، تفوق فيه هدارة مثل المرة الأولى، لكن بفضل النعامة «ماكو» التي صرخت في وجه «حوج» الذي خاب أمله في موت هدارة، وهنا عادت «ماكو» لهدارة الذي قال لها: «أمي، اسمي هدارة»، ففوجئت «ماكو»، حيث حدّثها هدارة بأفكاره. تصالحت «ماكو» مع «حوج» الذي طلب الصفح بعد أن بنى لها عشاً جميلاً، وتعاشرت «ماكو» مع «حوج» لتبيض المزيد من البيض، كان عليها أن تضع البيض كلّ ثلاثة أيام، وأن ترقد طوال اليوم، لذلك بقيت «ماكو» خائفة وقلقة على مصير هدارة، من سيطعمه النباتات والجذور والديدان والخنافس كما كانت تفعل هي؟، كما أن «حوج» بقي كارها لهدارة.

سرب النسور

عندما كانت «ماكو» تذهب لإحضار الطعام كان سرب النسور الذي يأكل بيض النعام متربصا ببيض «ماكو»، لتنقر البيض وتشرب ماءه وتنهي الحياة الموجودة داخل البيض، فثقبت النسور بيضة فانفلقت ثم نزلوا لشربها، فرآها هدارة الذي رفع يديه للمس النسور، لكن ما إن رفع يديه حتى طارت النسور فزعا، فغادرت النسور سماء المكان، والشيء نفسه حدث مع الفهد، الذي رغب في أكل بيض النعام، فأراد هدارة اللعب معه ففر فزعا، وشيئا فشيئا أصبح لهدارة مركزه في سرب النعام، وقيمة وفائدة جعلت «حوج» يعتمد عليه بسببها، ومع ذلك لم يزل الخطر كله، لأنّ صغار النعام بعد أن يفقس البيض، كانت طعاما للغربان، فالغراب لم يهرب عندما يلوح هدارة بيديه، ولا تهرب إلاّ بوقوف هدارة واتجاهه نحوها، كما رأى هدارة الأفعى ذات القرون فذهب ليلعب معها، وكانت الأفعى تهرب منه، وهنا تدخل «حوج» فقتل الأفعى بنقرة واحدة من فمه، وأصبح هدارة ابنا مفضّلا لدى «حوج» الذي أصبح يعتمد عليه كثيرا، ويحتاج إليه للقيام بالحراسة. منافع هدارة واعتناء «حوج» به، جعلت هدارة يستقيم ويكبر شيئا فشيئا، مقلدا النعام في كلّ شيء حتى أكل الحصي، غير أنّ المشكلة أنّ الحصي التي يأكلها النعام كانت تذوب، أما هدارة فقد كان يلقي الحصي مع برازه، وهنا احتار «حوج» و«ماكو»، كما أنّ هدارة لم يصبر للعطش لأيام طويلة مثل النعام، وكان يفرز الدموع من عينيه ويقوم بالبكاء كلما أحس بالعطش، فأدرك النعام أن هدارة يحتاج كثيرا إلى الماء، فأصبحت تذهب إلى برك الماء كلّ ثلاثة أيام، ولم تعد تخشى النسور والفهود بحضور هدارة.

اكتشاف الذات

كان هدارة ينام مع إخوته من النعام، ويأكل معهم، وكان يجمع عيدان الخشب والحصي، ويرسم في الرمل بالعيدان، ويلعب لعبا لاتعرفها النعام، ويتدحرج من الكثبان الرملية المرتفعة، وكان يلعب لعبة الاختباء التي لم يكن النعام يحبها على الإطلاق، حيث لا تلعب طيور النعام عادة، لكنّها كانت تفضل الرقص مع هدارة، غير أنّ الأمر المحيّر للنعام، هو أنّ إخوة هدارة من النعام كانوا يكبرون بعد الشهر الثامن، أمّا هو فلم يكبر إلاّ بعد سنوات طويلة. تحول هدارة إلى صبي في الثانية عشرة من العمر، فوجد جدارا جبليا رسمت عليه نعامة، فأدرك أنه يستطيع أن يرسم بيديه أيضا على الصخور مثلما كان يرسم في الرمال بالعيدان، وأنّ هنالك من رسم النعام غيره، وبينما كان يمشي حتى وجد بقايا عظام وأمامها سوار، فأمسك السوار وعظّه ثمّ أدخله في معصمه، فتذكّر هدارة صورة ما وبلغه الحزن. أدركت «ماكو» ما حدث، ذهبت إليه وقالت: هدارة، أنا أمك، فلما نام خلعت عنه «ماكو» السوار بصعوبة بمنقارها، وحفرت حفرة ثم دفنت السوار. وهكذا عاش هدارة مع النعام طوال هذه المدة متناسيا ذلك الإحساس الدفين الذي شعر به عندما رأى السوار، سوار أمه فاطمة، التي تأكد أنه سيراها يوما ما. هذا فصل من قصة هدارة الشهيرة، التي لا يعرفها العرب مثلما يعرفها الأوربيون بعد نشر الرواية من طرف الكاتبة السويدية «مونيكا زاك»، التي أضافت الكثير من الأحداث للقصة، لتصف أول لقاء بين هدارة والإنسان خارج بيئة النعام التي عرفها أولا، ثم لقاؤه بالسائح الأمريكيّ الذي علمه الكثير من الأشياء، ثم نجاته من الأسد الذي حاول افتراسه، ولقاؤه الحميميّ بأمّه فاطمة التي ظلّت تنتظر عودته الأكيدة كما أخبرها الداعية «دوله»، ولقاء هدارة بزوجته أمّ أبنائه، التي طلبت منه أن يكون مهرها غزالا جميلا من غزلان الواحات التي يصعب الإمساك بها في الصحراء. تختلف قصة هدارة عن القصص التي سبقتها كقصة «طرزان» و«موجلي» و«حيّ بن يقظان»، في أنّها حكاية واقعية أضافت حقيقة إمكان التعايش بين الإنسان والحيوان، في تجربة هذا الإنسان الذي كانت أرضه أشبه بالفضاء الخالي، فقد كانت الصحراء الإفريقيّة الكبرى أرضا سائبة تنتشر في عرضها القبائل، دون حام أو سلطة تنظم شؤون حياتهم القاسية، حيث كان الاحتلال الإسبانيّ كما الفرنسيّ، منشغلا عن حماية الأفراد، بنهمه الكبير في سرقة ثروات البلاد العربية الواقعة شمال إفريقيا، ولا تزال الكثير من روائع القصص الشعبية الشفوية تنتظر على الأقل من يدونها، وليس كتابتها في أعمال روائية لتأريخها وحفظها، كما فعلت زاك مع رواية ابن النعام، فلولا جهود الكاتبة الصحفيّة «مونيكا زاك» لكتابة هذه القصة، ربّما لم نكن لنحصل على هذه الرواية من أيّ كاتب عربيّ، بالرغم من أنّها اشتهرت في الأوساط الأدبية، وبفضل محبي السياحة والمغامرات، الذين يبحثون عن أسرار بني الإنسان في كلّ بقاع الأرض، ويقدمونها للناس ليطلعوا عليها، ويتعلموا من تاريخها.

 

 

عصام بن الشيخ