أثر الفراشة

أثر الفراشة

«أثر الفراشة» هو الديوان الأخير الذي تركه محمود درويش، ورحل دون أن يسلمه المطبعة، فنشر بعد وفاته، شاهداً على أن الوهج الإبداعي ظل متوقداً كالنار المقدسة، داخل هذا الشاعر.

غادر بيته الأخير في عمان، ذاهباً إلى الولايات المتحدة، ليدخل عملية القلب الأخيرة التي لم ينج منها، والتي حذره طبيبه الفرنسي من الإقدام عليها، ولكن المسطور في القدر لا مفر منه، والرحلة في نهر الخارون الذي يجري ما بين شاطئي الموت والحياة لابد أن تتم، وكان لابد أن تعبر شاطئ الحياة لتتوقف عند شاطئ الموت، مندفعة إلى ما بعده، كأن الذات التي تقوم بالرحلة تريد أن تكتشف حقيقة عالم الموت وكنه هذا الكون من العدم الذي ينفتح إليه، فمضى محمود تاركاً مجموعة «أثر الفراشة» التي تركها معدة للنشر، ورحل قبل أن يراها تخرج من المطبعة في صورة كتاب، فظهرت بعد موته كما أعدها في أغلب الظن.

وهو يطلق عليها «يوميات» بينما هي تتكون من خواطر ومشروعات قصائد لم تكتمل، وتأملات شعرية ونثرية، تبدو شبيهة بقصيدة النثر، لكنها أقرب إلى التأملات، كأنها تذكرنا بالقاعدة التي أكدها أبو حيان التوحيدي، واقتبسها منه محمود درويش في مفتتح ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد». وهي قاعدة تقول: «أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم». ويزيد محمود درويش على هذه القاعدة المضي فيها فيمزج بين مقاطع خالصة لنثر شعري، وشعر يشبه النثر في عيني القارئ غير الخبير بالأعاريض والأوزان. ويجمع ديوان «أثر الفراشة» مائة وسبعة وعشرين نصا، يصفها محمود بأنها «صفحات مختارة من يوميات كتبت بين صيف 2006 وصيف 2007». ولكنها صفحات لا تفارق شكل اليوميات.

وأول ما يلفت العين فيه التلقائية المكتوبة بها، والعفوية التي تتتابع على أساسها أسطرها، كأنها خواطر مرسلة، أو تأملات حرة في الحياة والأحياء والوجود وما بعد الوجود. ولا تاريخ محدداً لكتابة كل يومية، ولكنها جميعاً سابقة على بعض القصائد الطويلة التي كتبها محمود قبل أن يودعنا، ونشرها وألقاها في أماكن عدة، وأخص بالذكر منها قصيدته «لاعب النرد» التي تكاد تشبه معزوفة الختام، وتعدها للنشر عائلة محمود مع بعض القصائد التي لم يتح الوقت لمحمود كي يعدها في كتاب.

ومن الطبيعي جداً أن يبدأ «أثر الفراشة» بالمعشوقة التي أفنى محمود لها عمره، وهي فلسطين التي أطلق على أحد دواوينه الأولى ما جعله بطاقة تعريف، ظلت ملازمة له في كل تحولاته: «عاشق من فلسطين». وكانت فلسطين في ذاك الديوان الحبيبة التي يراها العاشق في بلاد الشوك، راعية بلا أغنام، مطاردة، فكان رفيقها، وكان غريب الدار مثلها، ولكن فلسطين، في اليوميات الأخيرة، هي المقموعة من العدو الإسرائيلي الذي لا يتوقف عن القيام بمذابحه الجماعية كأنه لم يكفه ما قام به من مذابح سابقة، وهي مقموعة من أبنائها الذين تحولوا إلى ما يشبه «الإخوة الأعداء» في رواية كازنتازاكس الشهيرة بالاسم نفسه، إذ بدل أن - يوجه أبناؤها السلاح إلى عدوهم المشترك أصبحوا يوجهونه إلى نحورهم هم، كأنهم القاتلون القتلة الذين يعيدون إنتاج القمع الواقع عليهم، ليوقعوه على غيرهم، والوطن العربي صامت، لا يفعل شيئا، كأنه تواطأ مع عملية الإفناء الذاتي الفلسطيني، وانتقلت إليه عدواها فاشتعلت حروبه الداخلية من لبنان إلى العراق، ومن العراق إلى حركات الإرهاب الذي يغتال الأبرياء تحت راية الإسلام البرئ من الإرهاب والإرهابيين، فيصبح الموت غيلة، أو غدراً، أو برصاص الأخ ملحمة من الرعب اليومي التي لا يمكن مقاومتها إلا بالسخرية منها، بعد وصفها، ومحاولة اقتناصها بالمجاز الذي يباعد بينها وبين عيني القارئ كي يراها، ويلمح ما فيها من مغزى مرعب في كل تقلباتها وتجلياتها.

دم النخيل والسحاب

هكذا، نقرأ عن البنت / الصرخة التي لم يجبها أبوها المسجى في مهب الغياب، حيث دم في النخيل، ودم في السحاب، وتضيع صرخة البنت وسط قصف الطائرات التي عادت لتحصد البشر، ونقرأ عن القتلى الذين يتجددون كل يوم،فرادى وجماعات، والسماء رمادية رصاصية، والبحر رمادي أزرق، أما لون الدم فقد حجبته عن الكاميرا أسراب من ذباب أخضر. والإشارة إلى «عين الكاميرا» إشارة إلى الحاسة البصرية في هذا السياق، ومن ثم سيطرتها على غيرها من الحواس في صياغة الصور الشعرية التي ينسج منها الشاعر قصائده، كأنه الشاهد الذي لايزال يرى الكوارث، ويريد من غيره أن يشاركه في رؤيتها، ويحدّق بكلتا عينيه في مفرداتها، كي لا ينساها، وكي يتحول انفعاله بها إلى نوع من الفعل، في العملية الحافزية للتخييل الذي هو جوهر الشعر ومصدر التوليد الأساسي لصوره، تلك الصور التي يبدو معها الزمن لا يتقدم أو يتأخر، فقد كانت المقتلة الفلسطينية في البداية، ولا تزال قائمة في النهاية، وما من فارق بين البداية والنهاية سوى أن العدو قد صار اثنين، صهيونياً وعربياً على السواء، فيتضاعف القمع، ويمد الشاعر الفلسطيني يده المقطوعة ليمسك أعضاءه المبعثرة من جسوم عديدة، فلا يجدها، ويظل محاصراً من البر والجو والبحر واللغة.

والإشارة إلى صراع «اللغة» في السياق الأخير هي إشارة إلى الصراع مع الأداة التي يريدها الشاعر أن تنقل التفاصيل الدالة للمشهد، مهما كانت بالغة الصغر، فنحن في مقام يؤدي فيه التكرار إلى نقيضه، واللغة يمكن أن تنسى صفاتها الشعرية، فتتحول إلى عويل وصراخ لا علاقة لهما بالفن، والشعر ليس إفراغاً للانفعالات وإنما إعادة تشكيل له هي ومشاهد الأحداث، وهو ليس محاكاة لمفردات الواقع وإنما صياغة مجازية لها، ولذلك فكل تأمل للواقع، مهما كانت وطأته، لا بد أن ينطوي على تأمل في اللغة التي تعيد تشكيله بما يبرز مغزاه ومعناه، أو دلالاته الأولى والثانية والثالثة إلى ما لا نهاية.

صانع المرايا

إن الشاعر، في هذا الوضع، أشبه بصانع المرايا التي يرى فيها الواقع صورته، ولكنها مرايا مغايرة عن تلك التي نعرفها، فهي مرايا مجازية، ترينا الواقع الذي تعكسه، وتلفتنا إليها في الوقت نفسه، فنراها بقدر ما نرى الواقع الذي تتولى تحويل بشاعته إلى مجاز إبداعي، وتمثيلات تدفع إلى المزيد من الرؤية، ورموز تجعلنا نعاود الرؤية مرات ومرات، فنلمح ما لم نلمحه من قبل، واستعارات تجعل للنسيم إيقاعاً خفيفاً نحس به ولا نسمعه في تواضع الشجيرات. وأضف إلى الإمكانات التصويرية الإمكانات الإيقاعية التي لا تنسى المبدأ القائل: إن كسر الإيقاع بين حين وآخر ضرورة إيقاعية. والإمكانات الدلالية الملازمة لعمليات السخرية التي لا فرار منها في تصوير عبثية قتل الأخ لأخيه، أو نسف منازل بأكملها لأن أحد سكانها ارتكب حقه في مقاومة الاحتلال، أو جعل النهر يموت من العطش، أو إثارة الرعب بما يجعل الشخص يطارد نفسه، في أرض فضيحة،لا تعرف الطريق إلى أين، كأنها تنتظر رصاصة الرحمة، أو تعيش في كابوس، كل من فيها يشبه نيرون. ولا تقل المفارقة حضوراً عن السخرية،خصوصاً حين تتجاور المتناقضات، وتغتال النظائر نظائرها كأنها لا تعترف بحضور النظائر أو الأشباه، ويبدو الوطن قبراً ممتداً بحجم سكانه، والأخ يستمد بطولته من قتل أخيه، ويتحدث الجميع عن حق الاختلاف، ولا أحد يقبل وجود هذا الحق الذي يغتالونه في حماسة نضالية، فلا يملك كالشاعر سوى أن يقول:

«إذا كان السلام هدنة بين حربين، فإن للموتى
حق الإدلاء بأصواتهم: سنختار الجنرال. وإذا كانت الحرب حادثة سير
وقعت على الأوتوستراد السريع، فإن على الأحياء واجب الإدلاء
بأصواتهم: سنختار الحمار. لكن الأحياء لم يذهبوا إلى صناديق
الاقتراع، لا لأن الثلج كان يندف، بل لأن شللاً مفاجئاً
أصاب سكان المدينة، وحين فتحوا النوافذ رأوا عناكب
تبنى بيوتها في الثلج فأصيبوا بالعمى... ومن حسن حظنا
أو من سوئه، أن المؤرخين الأجانب الخبراء في مصائرنا
وتاريخنا الشفهي لم يكونوا هنا، فلم نعرف
ما حل بنا».

وتلفتنا مثل هذه الصياغة للمفارقة إلى ازدواج الرموز مع الأمثولات. والأولى هي التي يؤدي دالها الواحد إلى مدلولات عديدة، في موازاة الثانية التي يؤدي دالها إلى مدلولات محددة، قد يختزلها مدلول واحد، والأمثولات مفيدة في السخرية السياسية، بينما الرموز ناجعة في معالجة القضايا الوجودية والتأملات الميتافيزيقية، لكن في الدائرة التي تبدأ من فلسطين وتعود إليها، ذلك لأن فلسطين هي النغمة التحتية أو أساس اللحن الذي تتركب فوقه طبقات أخرى من المقامات والإيقاعات، ولذلك مهما تغب فلسطين عن قصائد تجدها تبرز على سبيل اللمح أو الإشارة أو اللازمة النغمية أو قرار اللحن الذي يظل باقياً على الرغم مما يناوشه من تنويع.

وحضور فلسطين يعني حضور الوجود والعدم، الحياة والموت، فهي وتر مشدود بينهما، يتراوح بينهما حضور الذات الشاعرة التي ترى أن كل ما تكتبه هو عملية اكتشاف لا يظل في حاجة إلى الكشف، وأنه جدل دائم بين الذات والموضوع، في الوضع الذي يضيف إلى فعل الجدل عملية اكتشاف الأداة التي تتأمل بها الذات موضوعها الذي هو إياها، في موازاة عملية اكتشاف ملازمة تقترن بسعي الذات إلى مراقبة نفسها في كل فعل معرفي من أفعالها الكاشفة. وتنطوي يوميات «أثر الفراشة» على كل ذلك، فهناك، أولا، انفصال الذات عن نفسها، في فعل انعكاسها على حضورها، في مدى الكشف الذاتي، وهناك، ثانيا، تأمل الذات لأداتها الإبداعية التي تتطلع الذات إلى تطوير قدرتها على تصوير واقع لا يتسم بالثبات، مهما أوحي بنقيض ذلك، وهناك، ثالثا، تصوير المشاهد التي تتوقف عندها عين الكاميرا الشعرية، ساعية إلى تحقيق نوع مجازي من الرسم بالكلمات، وهناك - أخيراً - الموت الذي يتربص بالمشهد كله،ويتخلله ويناوشه، وأهم من ذلك ما لا يكف عن التلويح بحضوره للذات التي سبق أن اقتربت أكثر من مرة، وسجلت ذلك على نحو استثنائي في «جدارية».

انقسام الذات

نبدأ من تأمل الذات لنفسها في فعل تأملها غيرها، في موازاة تأملها الذاتي، وهو نوع من التأمل الذي لا يتحقق إلا عندما تنقسم الذات على نفسها فتصبح هي الناظر والمنظور إليه، فاعل التأمل والمتأمل فيه. وأول الأمثلة على ذلك اليومية التي تحمل عنوان «غريبان». وهي قصيدة قصيرة من بحر المتدارك، تمضي على النحو التالي:

يرنو إلى أعلى
فيبصر نجمة
ترنو إليهْ

...

يرنو إلى الوادي
فيبصر قبرَه
يدنو إليهْ

...

يرنو إلى امرأة
تعذبه وتعجبه
ولا ترنو إليه

...

يرنو إلى مرآته
فيرى غريباً مثله
يرنو إليه.

والذي يلفت الانتباه في القصيدة القصيرة، وقد أوردتها كاملة، أن عناصر الطبيعة، ممثلة في النجمة، تكون استجابتها إلى نظرة الشاعر إيجابية، فتبادله النظر، كأنها تود الالتقاء به، شأنها في ذلك شأن الموت الذي يتمثل في القبر الذي يبادله النظر، كما لو كان يقول له: هيت لك. أما المرأة التي تمثل الجانب الحسّي من الحياة، أو الواعد من لذائذها، فلا تستجيب إلى الرائي كأنها موازاة غير مباشرة على طريقة الخلف، أو مناقضة لاستجابة القبر، أو استجابة الذات التي لا ترى غير رجع صورتها الغريبة، في توحدها الذي يزيد اغترابها، خصوصاً في تأملها حضورها المنعكس في مرايا الطبيعة والذات. هذه الذات الغريبة المغتربة هي الأنا المتأملة نفسها، في ديوان «أثر الفراشة» وذلك في حضورها الذي يجعلها تنأى بنفسها عن العالم لتراه، وعن ذاتها كي تزداد معرفة بها، في مد رحلة الحياة التي يغمرها الموت الذي يتخلل الموضوع، فلسطين، من كل جانب، ويناوش الذات في علامات عدة تزيد من وحدتها في مدار مغلق، لا تفارقه، وحيدة مع الواحد الذي هو إياها، والذي نرى طرفيه في قصيدة «ما أنا إلا هو»:

بعيداً وراء خطاه
ذئاب تعضّ شفاه القمرْ

...

وفي القرب منه
دمٌ نازف من عروق الحجر
لذلك يمشي ويمشي ويمشي
إلى أن يذوب تماماً
ويشربه الظل عند نهاية هذا السفرْ
وما أنا إلا هو
وما هو إلا أنا
في اختلاف الصور.

السفر.. الرحيل

هكذا تتجاوب الذات مع الموضوع الذي هو إياها في سَفر معروفة نهايته، وهي الموت، منذ البداية، ويستوي أن نفهم دلالة السفر بمعناها الصوفي الذي هو رحلة العارف إلى الحقيقة، حيث يغدو السفر معادلاً للطريق، ويغدو الطريق هو المسعى إلى النهاية، حيث الغاية هي الوصول إلى المطلق الذي يغدو نهاية السفر والطريق والمسافر والكائنات في الوقت نفسه، فيغدو مرادفاً للعدم الذي هو نقيض الوجود، أو للثاناتوس الذي هو نقيض اللذة الإيروسية التي يرمز إليها الحضور الواعد في قصيدة «غريبان» التي لا تعني فيها دلالة التثنية إلا انقسام الأنا على نفسها، أو ازدواجها، في الرحلة التي يتجدد بها وعيها بالنهاية، التي تعيها ذات (أنا) مهوّسة بالنهاية في حال يحتاج فيها الغريب إلى الغريب الذي هو إياه، ولكن في وضع يشبه وضع «شخص يطارد نفسه» في مدار مغلق «يحتاج فيه الغريب إلى الغريب» في سياق تقول فيه إحدى النساء العابرات: «هناك شخص ما يكلم نفسه» فليس في المدار إلا الذات وانعكاسها في مرآة تأملها الذي يغدو نوعاً من الحوار الذاتي الذي نقرأ فيه:

ظلام: وقعت عن السرير ممسوساً بسؤال:
أين أنا؟ بحثت عن جسدي فأحسست
به يبحث عني.. أدركت أني في حيز من العالم.. يخصني وانفصل
عني أو انفصلت عنه

وفي المدار المغلق لهذه الذات التي تتسع بها الرؤية فتضيق العبارة، وتغدو الحاجة إلى المجاز ماسة، كأنه الوسيلة الوحيدة للتعبير عن ذات تزدوج على نفسها، كي ترى حضورها في عالم يتشظى، كما لو كان ينفجر من داخله، وفي موازاة التفجيرات التي تأتي من خارجه، فإذا تورط القلب في هذا العالم، وعاش فيه، فإنه يرى مالا يريد، أو ما يجذبه إلى شراكه، فيحيا في داخل العالم وخارجه، وداخل حضوره الذاتي وخارجه، كأنه، هو، سواه، دون أن ينتبه، وحتى إذا انتبه فهو لا يملك سوى الرؤية والشهادة بما يرى، وما لا إرادة له فيه، ولا قدرة له على تغييره، فيكمل بقية الرحلة في حال، تصفها قصيدة «مناصفة» التي لامفر من ذكرها كاملة:

تحيا مناصفةً
لا أنت أنتَ، ولا
سواكَ
أين «أنا» في عتمة الشَّبَهِ؟
كأني شبحٌ
يمشي إلى شَبَحٍ
فلا أكون سوى شخص مررت به
خرجتُ من صورتي الأولى
لأدركه
فصاح حين اختفى:
يا ذاتي انتبهي!

هل نقول: إننا إزاء نوع من الحياة في تيه؟ ممكن. وممكن كذلك القول: إننا في عالم ذات لا تكف عن الانقسام كي تجدد معرفتها بما يتغير فيها دائماً، إزاء عالم لا يكف عن تحولاته ما بين أقطار الجنون والعنف والموت الغادر الذي يأتي من الداخل، في موازاة الخارج، فينعكس هذا العالم على الذات كما تنعكس عليه، ولا يملك الشاعر سوى أن يقول:

اترك الجانب الآخر من حياتي، حيث يريد
الإقامة، واتبع ما تبقى من حياتي بحثاً عن الجانب
الآخر

هكذا يعود الشاعر في عالم اغترب، بدوره عن وجوده وحضوره، فأصبح غريباً مثل عالمه الذي يزداد اغتراباً وغرابة، ويصبح شعاره: ليس للغريب إلا اختراع ألفة ما مع مكان ما، يقصد مكاناً يطل منه على ذاته وعلى العالم وعلى الوجود، وعلى نحو يتيح له أن يطرح السؤال تلو السؤال. وهل يملك الغريب سوى أن يطرح الأسئلة التي تغدو هوية حضور وعلامة وجود، وصوى لا تعرف الثبات في فضاء يناوش الموت أطرافه من كل جانب.

حضور الموت

حضور الموت في «أثر الفراشة» شخصي وعام، فردي وجماعي، وطني وقومي بقدر ما هو إنساني، إنه في كل مكان، نطالعه على شاشات التلفزيون، وعلى شاشات النت، نراه في ليل العراق الطويل الذي تحول إلى دم لا تجففه الشمس. نراه في فلسطين لقتلى لا يكفّون عن التوالد والتكاثر، كما لو كانوا أبناء أرض لا تثمر غير الموت. ورآه محمود درويش في لبنان، يتفجّر في كل مكان، يهبط من السماء، ويأتي من البحر، أو يندفع مع قذيفة دبابة، ونراه، مع محمود، في أفغانستان وباكستان، بل في عواصم العالم الكبرى بعد أن تعولم الإرهاب. فأصبح الموت علامة على كابوس نسمّيه زماننا، وحياة نطلق عليها حياتنا. وقد رأى محمود الموت أكثر منا نحن الذين قرأناه وأعجبنا به، فنقلنا من الفرح العارم بالحياة إلى الوجود المقبض للموت، كما لو كان ينتقل ما بين الإيروس والثاناتوس اللذين رأي فيهما وجهي الوجود اللذين لا ينفصلان، خصوصاً في ارتحاله ما بين شاطئ الحياة وشاطئ الموت، وذلك في عمليات القلب العسيرة الني نجا من اثنتين منها، ولكنه لم ينج من الثالثة التي جذبه الموت فيها، فانجذبت مركبه إلى شاطئ الموت الذي كان عليه أن يرتحل فيه، كما لو كان الموت يقول له، لقد أفلت مني مرتين، ولكن الثالثة حاسمة، ولا عودة بعدها من عالم هاديس الذي لا يعود منه أحد، في الأساطير، إلا مرة واحدة لا مرتين. ولم يكن من الغريب، والأمر كذلك، أن يكتب محمود قصيدته الملحمية البديعة «جدارية» التي أخذت شكل ديوان كامل، يحتفي بصراع صاحبها مع الموت، ولكن الموت ظل، بعد الجدارية، هاجساً لا يفارق الفضاء الشعري عند محمود درويش، في المدى الزمني الذي فصل بين نجاح العملية الثانية والقصائد التي سبقت العملية الثالثة والتي كانت إرهاصاً بنتيجتها. وكما كانت القصيدة محاولة متجددة لانتزاع الحياة من الموت، والامتداد بمساحاتها، كانت هي وسيلة الشاعر للتحديق في الموت، ومواجهته بدرع الإبداع الصقيل، كي يرى الموت نفسه فيه، وكي يراه الشاعر منزوع البراثن، كأنه الوجه الآخر من الحضور في الوجود، والشعيرة التي على المبدع أن يتأملها قبل أن يمارسها، مستعيناً على ذلك بالخيال الذي لا يخاف الموت ولا يهابه، بل يضعه أمام ناظريه، راسماً إياه والعدم الملازم له بكلمات ليست كالكلمات.

هكذا يحضر الموت في يوميات «أثر الفراشة» نراه أولا، في إجابة عن سؤال متخيل في قصيدة «بقية حياة» التي هي إجابة عن سؤال يقول:

إذا قيل لي: ستموت هنا في المساء
فماذا ستفعل في ما تبقى من الموت؟

وتأتي الإجابة ساخرة، فالذات لن تخاف، بل ستنظر في ساعة اليد، وتشرب كأس عصير، وتقضم تفاحة كما لو كانت ترد العجز على الصدر وتعيد إلينا ذكرى التفاحة التي أخرجت آدم من الجنة، ويلي ذلك الحلاقة والاستحمام والتزيّن قبل الجلوس إلى الكتابة، وممارسة الكتابة التي تنتج بياضاً مطلقاً، ولابأس من إعداد عشاء أخير لو كان ثم وقت، والقراءة: فصلاً لدانتي ونصف معلقة، واستعادة الحياة لطرح السؤال: كيف ذهبت؟ وكيف تمتلئ ثغراتها؟ وبعد ذلك يمكن كتابة قصيدة ثم طرحها في سلة المهملات، وتشييع النفس بحاشية من كمنجات إسبانيا: «ثم أمشي إلى المقبرة». الطريف أن السؤال نفسه يتكرر في قصيدة «الحياة.. حتى آخر قطرة» التي تنبني على جواب للسؤال ذاته، ملحة على ممارسة الحياة اليومية بالعمق والحماسة التي تستقطر من الحياة متعها، مع تكرار عناصر ثابتة: المتع الحسية، الموسيقى، كتابة الشعر، تأمل الأزهار وتنسم عبيرها إلى آخر نسمة، الضحك الذي ينتزع المرح من كل شيء:

.. فماذا بوسعي أن أفعل؟ ماذا
بوسعي أن أفعل غير ذلك، حتى لو
كنت أشجع من أحمق، وأقوى من هرقل.

وتكرار السؤال الافتراضي نفسه في قصيدتين، تنبني كلتاهما على الدوال نفسها، دال له دلالاته التي تتعدد مدلولاتها، مؤكدة أنه لا سبيل إلى مقاومة الموت، أو مواجهته، إلا بأن نحيا الحياة التي نعيشها بأقصى درجة من العمق، فالحياة قصيرة في النهاية، يتربص بها الوقت، منقضاً في أي لحظة، ومادام الأمر كذلك فلنتعامل مع الحياة بمنحى أبيقوري، ونتعامل مع الموت كما أوصتنا «رباعيات الخيام» أو على الأقل كما يقول عنوان القصيدة الثانية: أن نعي الحياة.. حتى آخر قطرة، وبعدها فليأت الموت، فالذات الشاعرة تعرف أن الموت حتمي، وأن الحياة بأسرها أشبه بمسرحية نؤدي فيها أدواراً سرعان ما يؤديها غيرنا، لا يهم أن تكون المسرحية مؤلفة أو مرتجلة، المهم هو وعي الذات أنها لن تكون في الموضع نفسه، أو المكان أو الزمان: هكذا يقتضي النص: «لابد من غائب للتخفيف من حمولة المكان»، كما تنتهي قصيدة «يرى نفسه غائباً».

 

 

 

جابر عصفور