رسم الشاعر وشعر الرسّام

رسم الشاعر وشعر الرسّام

في البدء، لم يكن مقصد الرسام أن يرسم ليعرض أعماله، ولم يكن الشاعر يكتب أشعاره لينشدها للناس أو لينشرها، ولم يكن الموسيقي يؤلف موسيقاه ليُسمعِها لأحد.

الفنان قسمان، قسم لا تهمّه ردّات فعل إطرائية من الناس، وقسم ثان «يصنع» «فنا» للناس.

الرسام يأخذ قلمه أو ألوانه ويرسم ويلوّن لذاته، للذّته، لحاجته، أكاد أقول لحاجته «الروحية»! للفنان لغته، وإن كانت تحمل كل كلمات الجمال. الإنسان يملك غنى في التعبير بواسطة لسانه، ولسانه ليس بريئاً دائماً، لكن للفنان ثروته التي تفوق ثروة الإنسان العادي، فهو يملك تعبيراً خاصاً به بواسطة اللون والنغم والحرف الشعري.

أعتقد أني لا أقول جديداً، ولم أقل يومًا شيئاً جديداً. هذه هي الحالة. لهذا فهناك من وُلد فناناً، وهناك من لم يولد فناناً. هذه حقيقة، مَن يرد أن يقتنع بها فهو معي، ومَن لم يرد فهو حر، حر في جهله، وهل في الجهل حرّية؟ لست أدري، وبما أني صريح القول، فإن الكثير الكثير من الكلمات والأفكار والأشياء أجهلها، ولا أشعر بالوحدة لحالتي هذه.

هناك أيضاً شخص ثالث هو من يُدعى بالمتلقّي، وليس كل متلقٍ مؤهلاً لأن يرى ما ينظر إليه أو يسمع ما ينصت إليه أو يستوعب ما يقرؤه. الحقيقة هي أن ليس كل متلقٍ يستطيع أن يستفيد مما يرى ويسمع ويقرأ. هذا شيء معروف، ملموس، ظاهر.

الشاعر والرسام والموسيقي لا يهمّه الإطراء، يسعده هذا إذا كان آتٍياً من أشخاص عندهم ما يوازي العقل، والدّخول في قلب العمل الفني، ولا يرتاح لمن يقتني عملاً فنياً صحيحاً، أعني عملاً فنياً له صحته القوية الصامدة لتبقيه لسنوات بل لدهور، هذا المقتني إذا كان غير مؤهل لأن يتعايش مع ما «اشتراه»، فالفنان لا يرتاح إليه. هي عملية بحد ذاتها، حيث إذا عُلّقت لوحة على حائط في منزل، يسكنه ناس لا يتحاورون مع العمل الفني، فاللّوحة تتغير شخصيتها، وتقترب من البشاعة أو الرّداءة، وتصير «عملاً فنياً»، تنقصه الروح الفنية. هل أن للعمل الفني الكبير روحاً؟ لست أدري! إنما الفنان يخلق عملاً فنياً، ولكن إذا كانت اللوحة في غير محلّها, أي ينقصها ذلك الخلق الفني تتغيّر شخصيتها، وتبتعد عن صفة الفن، وتقترب من البشاعة كما قلت سابقاً.

العمل الفني الكبير يزداد جماله حسب الناظر إليه، إن كان الناظر لا يرى الجمال في العمل، في اللوحة، فإنها تخسر من جمالها لتصير كأي كرسي أو طاولة في منزل. هذا ينطبق على كل الفنون، المستمع إلى موسيقى موسيقي كبير، يختلف عن المستمع «لخربشات» وضجة «الموسيقى» التي تعم العالم اليوم.

المستمع الأول إذا استمع إلى الموسيقى الأولى، فإنه يسمو معها وتزداد هي جمالاً. أما المستمع الثاني فيزداد فوضى تعكّر الأجواء ويصبح عديم الشعور وقليل الذّوق الصحيح.

***

أين نحن الآن من كل هذا؟

أعتقد أننا في مكاننا الصحيح، القلّة تقف مع الجمال وتحيا معه، والكثرة في فوضى البشاعة.

ما العمل؟ العمل هو الثقافة الملزمة منذ الطفولة، أما ما معنى الثقافة؟ فهذا سؤال كل فرد يفسّر حسب مفهومه، وإرادته وراحته.

المفهوم غير المفهوم، والإرادة أنانية، والراحة هي إزعاج وعدم احترام الغير. هذا ما يعتبره الكثرة من الناس الذين لا حاجة عندهم سوى العيش، أنا أرى أن الحياة أفضل من العيش. الإنسان الذي لا يهمّه سوى أنانيته وراحته الشخصية وإن أزعجت غيره هو إنسان يعيش عيشته، والإنسان الذي يحيا حياة يحيطها بجمال وبإحساس عميق لحب الحياة، فهو يحيا وتحيا الحياة معه وتزداد فألاً وحباً.

العمل الفني الذي يطغى عليه الحزن والشؤم هو «فن فاشل»، لا يقوم بدوره، وإن كنت أعتقد أن لا دور للفن في حياة الإنسان، وهنا أناقض نفسي قائلاً: إن اللوحة الجميلة تدخل الفرحة إلى العين والقلب بواسطة العقل، واللحن الكبير الجميل يغيّر في نفسية إنسان تعب وتجعله يعيش في جو مليء بالأمل والشعور بالسعادة، إن كنا لا ندرك تماماً ما هي السعادة، فلنقل إن الفن الكبير يساعد الإنسان أن يحيا في راحة مغيّراً في نظرته إلى الحياة، جاعلاً منها أبواباً مشرّعة نحو الفأل والجمال، وكأني هنا أفسّر السعادة، أو أقترب قليلاً منها.

 

 

أمين الباشا