أمراضنا الثقافية

أمراضنا الثقافية

قرأت باهتمام شديد مقال رئيس التحرير تحت عنوان «في الثقافة العربية.. المستجدات والتحديات» وأستطيع أن أقول إن د. سليمان العسكري وضع إصبعه على الجرح العربي للتخلف الثقافي الذي نعيشه الآن من امتداد للظاهرة من لهجات دارجة مطعمة بما يستخدمه الشباب العربي الآن من مصطلحات وكلمات، أو التدوين باللغات الأجنبية بالكامل.

وتطرق رئيس التحرير إلى الإعلام السطحي وشيوع الفضائيات وطرح سؤالاً مهماً جداً عندما قال: متى ندخل عصر العلم؟

مقال هادف ومعبر عما نمر به من أيام وشهور وسنين من الفوضى الثقافية وعدم الانتماء إلى اللغة العربية هل ذلك بسبب العولمة؟

أعتقد أن هناك دولاً من شرق آسيا دخلت العولمة وتقدمت، بينما الدول العربية تتقدم في الأغاني والفضائيات وبناء العمارات الشاهقة والاستهلاك الغذائي المعتمد على الاستيراد.

أمراضنا الحقيقية لا نهتم بها ولكن نهتم بأمراض العالم المتقدم، ولذلك ما نجده من كل هذا التطور الهائل أدى إلى وجود فجوة كبيرة ما بين العالم المتقدم والعالم النامي الذي نحن جزء منه، وأعتقد أن مشاكلهم غير مشاكلنا وهم يركزون على مشاكل معينة ويطلبون منا أن نهتم بها، ولكن هذه الأمراض ليست أمراضنا وأنا هنا سوف أتكلم في موضوع يخصني كطبيب، وهو مثال لأي اهتمام لنا في جميع الميادين الأخرى.

يكفي أننا في العالم الثالث الطعام لدينا مكشوف للحشرات والذباب، لدرجة أن اللحوم عندنا في جميع الدول العربية معلقة في الهواء، والأحذية في داخل فاترينات من الزجاج الفاخر.

نظافة محلات الأحذية عندنا تساوي وتعادل نظافة محلات بيع الغذاء عندهم.

أمراض سوء التغذية وأمراض عدم النظافة منتشرة في دولنا العربية ومع ذلك نجدهم يقولون لنا إن مرضاً مثل الإيدز هو أهم الأمراض ولذلك نعقد عندنا عشرات الندوات والمؤتمرات الطبية عن مرض الإيدز.

نعم مرض الإيدز موجود في دول إفريقية كثيرة وهذه الدول فقيرة ونعم هذا المرض موجود في كل البلاد العربية.

هل نقول إنه مرض الفقراء؟ نعم، إنه كذلك ولكنهم في الغرب يخافون على أنفسهم وليس علينا لأن مرض الإيدز انتقل إلى عقر دارهم ووصل إليهم.

أمراض سوء التغذية وأمراض عدم النظافة والفقر والجهل هي أمراضنا وليست أمراضهم.

نحن كما قال رئيس التحرير نعاني إجمالاً فقرا شديدا في هذه الدراسات، أي سلوك المستهلكين أو المتلقين.

ولكن نحن نعاني الفقر المادي والبطالة والواسطة والمحسوبية وأما كيف يمكن تبسيط اللغة؟ اللغة العربية لغة جميلة وهي سهلة وبسيطة ولكن لنوع من العولمة والوجاهة نتكلم لغة أجنبية أو كلمات أجنبية كثيرة.

لغة الضاد تفقد أصالتها وهويتها في زمن العولمة، وهل ضاع مستودع التراث وديوان الأدب ومجال الأفكار والعواطف؟

في جميع رسائل الماجستير والدكتوراه في بلادنا العربية نأخذ مما قدمه الغرب ونكتبه ونقدمه ليس لدينا اختراع أو تأليف جديد، حتى أنهم أقاموا مراكز طبية أجنبية في بلادنا العربية، ما فائدة هذه المراكز؟ لا شيء إلا المنظرة والقول بأننا نعالج في هذه المراكز الطبية الأجنبية، وبات الأمر مادة دسمة لأحاديث النساء.

حديث وكلام رئيس التحرير كلام مؤلم وقاس، لأنه وضع اليد على الجرح النازف العربي.

ما هو الحل؟ أرجو أن يكتب لنا وصفه طبية للخروج من هذا الألم.

د. جمال علي العطار
الإسكندرية - مصر

أبو نواس الوجه الثالث وتلبيته في الحج

طالعت في العدد 601 من «العربي» مقال «أبو نواس للشاعر أكثر من وجه»، حيث تحدث الكاتب عن وجهين لأبي نواس، أحدهما الوجه ذو الصورة الوجودية التي صاغها أدونيس على شاكلته، والوجه الآخر الصورة الاجتماعية التي صاغها أمل دنقل على شاكلته، لكن هناك وجهاً آخر لأبي نواس لم يصفه غيره من الشعراء وغير مشهور عنه ألا وهو الوجه الديني الذي لا يعرفه الكثيرون عنه، فرغم أن أبا نواس بدأ حياته الشعرية مجدداً يعارض التقليديين ويسخر من شعرهم، فقد انتهي مقلداً يعارض المجددين. فأبو نواس - الحسن بن هانئ - من مشاهير الشعراء العرب، اشتهر بمآخذ تزيد مع مرور الزمن حتى بعد وفاته، فاختلط ما قد يكون حقيقة بما هو مركب، فهو مثل جحا صار مطية للنحل، ومشجباً تعلق عليه مفتريات الكذب عن الفسق والفجور، والله أعلم بالظواهر والبواطن، وهو الغفور الرحيم. ولد أبو نواس في الأهواز سنة 145 هـ وكان أبوه دمشقيا من جنود مروان بن محمد آخر ملوك بني أميه (ت 132هـ) أرسله إلى الأهواز بفارس فتزوج فتاه منها تسمى- جلبان - وكان ممن أنجبت له أبو نواس، وقد انتقل به أبوه إلى البصرة فنشأ بها. وبسبب فقر أسرته وموت والده دفعته أمه إلى عطار ليخرجه في مهنه العطارة، ولكن نفسه لم تطمئن إليها، وكان إذا سمع شعرا ارتاح إليه ورغب في نظم مثله. وقد انتقل إلى الكوفة وكانت من أعظم مراكز الفكر والثقافة في ذلك الوقت، ثم إلى بغداد وكانت قد بدأت تعمر بالعلماء، وكان أبو نواس حيثما حل ولوعا بحضور مجالس الأدب واللغة ومخاطبة فصحاء الأعراب، فكان يعي ويحفظ ما سمع حتى صار من نوابغ الشعر والأدب واللغة كما اطلع على كثير من ثقافات عصره إسلامية وعربية وأجنبية. وقد رحل إلى الشام ومصر ولقي فيها الأدباء والشعراء ومدح في تنقلاته الملوك والأمراء والوزراء والقواد فقربوه إليهم وأعانوه بجوائزهم فعرف من خلال مخالطتهم مجالس لهوهم وأسرار قصورهم بما فيها من بذخ السلطة وترف الثراء. ولقد عمد بعض الكبار من نقاد الأدب العربي كأودنيس في كتابه «زمن الشعر» إلى اتهام أبي نواس بأنه كان يسخر من شعر العرب القديم،إشارة إلي قوله:

قل لمن يبكي علي رسمٍ درس
واقفاً ما ضر لو كان جلس

وتناسوا أن الرجل كان مبدعاً يمثل عصره وأنه لم يكن يقبل للشعر العباسي أن يكون نسخة مكررة للشعر الجاهلي. وهل كان أبو نواس يجهل أن جماعة (قفا نبك) الذين اتُهم بأنه سخر منهم كان لهم بيئتهم، بيئة النجعة والارتحال، وأن من السخف أن يسخر المتأخرون مما نظموه، لكن الشاعر الفذّ كان في عاصمة العالم الثقافية آنذاك، فأين يقف الناس ليبكوا؟ لابدّ من أن يتبدل أسلوب الشعر وأدواته ومطارحه بتبدل الأزمان والأحوال. كما أخذ بعض النقاد كعز الدين إسماعيل في كتابه: «الشعر الجديد» على أبي نواس أنه اكتفى من التجديد بأن استبدل بأدوات الشعر الجاهلي وأساليبه أوعية الخمره وحفلات السهر والسمر، ومن يدعِّ ذلك، يتناسَ أن أبا نواس في شعر الخمره تحديداً وضع معجما لفظياً لشعراء الصوفية الذين أتوا بعده بحيث لم يبق منهم واحد لم يأخذ من ذلك المعجم.

نظرة على عصره

في عصر أبي نواس بدأ يزهر كل ما استنبت في العصور السابقة له من غرس الحضارة خيرها وشرها، جدها وهزلها، يقينها وشكلها. وكان أبو نواس بحكم نشأته ومزاجه وبنيته الدقيقة أميل إلى اللهو، فتغنى في شعره بكل تيارات عصره ولاسيما تياراته اللاهية، وتطرق في مجونياته ككثير من معاصريه - وفي مقدمتهم الشعراء - إلى الغزل والخمر، وكما توسع هؤلاء في اللهو توسع غيرهم في الدعوة إلى الزهد كأبي العتاهية. ولما كانت النفس الإنسانية لا تطيق الاستمرار في لذائذها المادية فإن أبا نواس كان يستشعر الندم على إفراطه في مجونه فيدعو إلى التوبة والاستقامة في بعض مراحل حياته ولا سيما في شيخوخته. ومن هنا أكثر من النظم في الزهد وزجر نفسه عن المعاصي والتوبة إلى الله، وله في ذلك نحو خمسين قصيدة ومقطوعة لا تقل حرارة عن زهديات أبي العتاهية الذي اشتهر بشعره في الزهد.

أبو نواس.. الوجه الآخر

ارتبط اسم أبي نواس في أذهان الكثيرين بأنه الشاعر العباسي الماجن الذي ملأ الدنيا غزلا سافرا بالنساء والغلمان ووصف الخمر، حتى قيل عنه من كثرة مجونه ولهوه بأنه قد ارتكب جميع الموبقات حتى استنفدها. أما الجوانب المضيئة والصفحات الناصعة في سجل حياته فمازالت مجهولة لدى الكثير من الناس، وهذه محاولة لإجلاء الكثير من جوانبها. فأبو نواس هو شاعر العربية في المائه الثانية بعد بشار بن برد. أطرب الأسماع بشعره والذي تغنى به الجادون والهازلون على حد سواء «قرأ القرآن وحفظه في صباه المبكر على يد يعقوب بن إسحاق الحضرمي أحد القراء العشرة ولما حذق القرآن عليه رمى إليه يعقوب بخاتمه وقال له اذهب فأنت أقرأ أهل البصرة»، وذلك كما ذكر محمد بن مكرم بن منظور في «مختار الأغاني في الأخبار والتهاني» ص 10. كما أخذ الحديث وعلومه على أيدي أئمة الحديث وعلمائه الكبار في البصرة، وبلغ في علم الحديث من الفهم والإتقان ما جعل الكثير من علماء الفقه والحديث يأخذون عنه، فقد ذكر القاضي أبن خلكان عنه، وروى الحديث عن أزهر بن سعد وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الواحد بن زياد ومعتمد بن سليما ن ويحيى القطان وحدث عنه جماعة منهم: الشافعي واحمد بن حنبل وغندر ومشاهير العلماء قال عنه ابن المعتز: «كان أبو نواس عالما فقيها عارفا بالأحكام والفتيا بصيراً بالاختلاف صاحب حفظ ونظر ومعرفة بطرق الحديث يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه قد تأدب بالبصرة وهي يومئذ أكثر بلاد الله علماً وفقها وأدبا» (ابن المعتز - طبقات الشعراء الجزء الأول ص 201).

زهديات أبي نواس

وعن زهديات أبو نواس قال شاعر الزهد أبو العتاهية: قلت في الزهد عشرين ألف بيت وددت أن لي مكانها الأبيات الثلاثة التي قالها أبو نواس وهي هذه - وكانت مكتوبة على قبره: يا نواس توقر أو تغير أو تصبر

إن يكن ساءك دهر قلما سرك أكثر
يا كثير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر

(ابن كثير البداية والنهاية المجلد الخامس ص 258).

- أبو العتاهية، قال عنه أبو نواس معترفا بفضله وتعظيما لقدره وتقديراً لشعره في الزهد. «ما رأيته إلا توهمت أنه سماوي وأني أرضي» - وذكر محمد بن إبراهيم بن كثير الصوفي أنه دخل على أبي نواس في علته التي مات بها وكان معه علي بن صالح الهاشمي فقال له: يا أبا نواس أنت في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا - وبينك وبين الله عز وجل هنات فتب إلى الله فبكي أبو نواس ساعة ثم قال: ساندوني.. ساندوني ثم قال: أبالله تخيفوني وقد حدثني حماد بن مسلم عن الرقاشي عن أنس بن مالك قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي شفاعة وقد جعلت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة) «أفترونى لا أكون منهم؟ ثم أنشد:

دبَّ في الفناء سُفلاً وعُلواً
وأراني أموتُ عَضواً فَعُضواً
ذهبت شرّتي بجدةِ نفسي
وتذكرتُ طاعةَ الله نضٌوا
ليس من ساعةٍ مضت بي
إلا نَقَصتني بمَّرها بي جُزوا
لهف نفسي علي ليال وأيام
سلكتُهنَّ لعباً ولهوا
وقد أسأنا كلَّ الإساءة ياربَ
فصفحا عنا إلهي وعفوا.

(ابن كثير البداية والنهاية المجلد الخامس ص 261). ومن شعره الجميل في هذا الباب:

سبحان من خلق الخلق من ضعيف مهين
فساقه من قرار إلى قرار مكين
في الحجب شيئا فشيئا تحار دون العيون
حتى بدت حركات مخلوقة من سكون.

وأبو نواس رثي نفسه بأبيات قيل إنها وجدت مكتوبة في ورقة تحت فراش موته. يقول فيها:

يارب إن عظمت ذنوبي كثرة
فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن
فبمن يلوذ ويستجير المجرمُ
أدعوك رب كما أمرت تضرعا
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحمُ
مالي إليك وسيلة إلا الرجا
وجميل عفوك ثم إني مسلمُ.

وأبو نواس يعرف إن عفو الله وسع كل شيء فما من ذنب مهما عظم إلا وعفوه أعظم فيقول:

يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر
ليس للإنسان إلا ما قضى الله وقدر
ليس للمخلوق تدبير
عز عفو الله المدبر.

وعن الدنيا قال أبو نواس: وما نحن إلا هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين عريق إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق. فكان المأمون يقول عن هذين البيتين: لو قيل للدنيا صفى نفسك ما عدت هذا البيت. ومن قبل كان أبو نواس يتململ من شهر رمضان فلما صدمته الحقيقة عاد إلى ربه وتوسل إلى خالق الأرض والسماوات بأن يطيل شهر رمضان فقال:

شهر الصيام غداً مواجهنا
فليعقبن رعية النسك
أيامه كوني سنين ولا تفنى
فلستُ بسائم منك

ولنختم بهذين البيتين القيمين من قوله في قصيدة رائعة:

من اتقَ الله فذاك الذي
سيق إليه المتجر الرابح شمر
فما في الدين أغلوطة
ورح لما أنت له رائح

توفي أبو نواس بين سنتي 198 و 200 هـ.

صلاح عبد الستار الشهاب
محافظة الغربية - مصر

 

 

أمراضنا الثقافية