من المكتبة العربية.. حداة الغيم والوحشة (شعريات كويتية)

من المكتبة العربية.. حداة الغيم والوحشة (شعريات كويتية)

«وعلى رسلهم يحرثون اليابسة، هم حداة الغيم والوحشة، يتنزهون على شواطئ السراب ويتنسمونه في شميم الشعر ليحددوا ملامح الخريطة، وفقاً لمحض اندياحاتهم بين الماء والصحراء حيث ينمو الوطن على ضفاف الشعر».

بهذه الفقرة الافتتاحية قدمت الشاعرة سعدية مفرح لكتاب «حداة الغيم والوحشة» الذي يضم مختارات لخمسين شاعرا من شعراء الكويت منذ الرواد وصولا لأحدث أجيال الشعراء.

تفتتح مفرح إنجازها بدراسة مستفيضة عن المنجز الشعري الكويتي وخصائصه منذ رواده الأول عبر «قراءة لذاكرة الشعر في الكويت»، مشيرة إلى توافق معظم من درس تاريخ الشعر في الكويت على أن عبدالجليل الطبطبائي (1776 - 1853) هو أول من نظم الشعر في الكويت، مع ملاحظة تلك البدايات التي يفترض منطقيا أنها متحققة عبر سيادة الشعر المكتوب باللهجات العامية أو ما يسمى بالشعر النبطي الذي برعت به أسماء شعرية معروفة، وإن كان أحد لا يستطيع الجزم بنسبتها إلى الكويت وحدها اعتمادا على الجغرافية التي انتشر فيها مداها الشعري آنذاك. وتضيف مفرح قولها: «وإذا كنا مازلنا نتنازع بحثيا وتوثيقيا على اسم الشاعر خالد الفرج إن كان نجدياً أو بحرينيا أو كويتيا أو عراقيا اتكاء على المدة الزمنية التي أقام فيها في كل من تلك البلدان فإن اسماء اخرى سبقت تاريخ ظهور الفرج منها عبدالجليل الطبطبائي، نفسه، الذي لم يعش في الكويت سوى السنوات العشر الأخيرة من عمره».

القصيدة الإصلاحية

وتشير مفرح إلى أن الرصد التاريخي للشعراء الكويتيين لم يرصد أسماء لمجايلي الطبطبائي، وإنما توقف عند أسماء بعض الكتاب الأكثر شهرة من اللاحقين على الطبطبائي، خلال المرحلة التي ساد فيها شعر الفقهاء على ما يشير الدكتور محمد حسن عبدالله، ومن هؤلاء خالد العدساني، وعبدالله الفرج، والشيخ يوسف بن عيسى القناعي، وأحمد بن خالد المشاري، والشيخ عبدالعزيز الرشيد وصقر الشبيب ومحمود شوقي الأيوبي، وخالد الفرج وعبداللطيف النصف.

فقد ظهر هؤلاء الشعراء خلال النصف الأول من القرن العشرين، وانعكست في قصائدهم الكثير من المبادئ الإصلاحية ذات الطابع الديني، فكانت دعواهم للإصلاح والتغيير والتطوير تنطلق من الجذر الديني رفضا لكل مظاهر الغلو فيه، «وهي مظاهر وافدة على المجتمع الكويتي المنفتح بطبيعته رغم تدين أفراده الفطري، وتتعداها أحيانا إلى الجوانب الاجتماعية التي كانت عرضة لتأثير عوامل خارجية كثيرة تسارعت في البروز على واجهة الطقس اليومي للمجتمع الكويتي آنذاك، وكانت أبرز معالجاتها تلك التي تتخذ من مسألة تعليم الأولاد والبنات قضية لها».

لكن اللافت في تجربة هؤلاء الشعراء، وفقا لملاحظة سعدية مفرح، هو ذلك الاهتمام المبكر الذي أولوه للقضايا القومية في كل مكان من الوطن العربي ومنها ثورة الريف في المغرب، وإرهاب الاستعمار الإيطالي في ليبيا، والاستعمار الفرنسي في تونس والجزائر، والإنجليزي في مصر، بالإضافة إلى القضية الفلسطينية التي حظيت بالاهتمام الأكبر من قبل أولئك الشعراء وخصوصا خالد الفرج الذي اهتم بالكتابة عن تحولاتها منذ العام 1928.

وتنبهنا مفرح إلى غياب الاهتمام بالشأن السياسي المحلي، في المقابل، في القصيدة الكويتية آنذاك، خاصة القصيدة الفصحى، «ولعل في ذلك الغياب الشعري الفصيح عن الحدث السياسي الكويتي قبل الاستقلال عام 1961 ما يرجح رأي من يقول «إن الشعر الكويتي لم ينشر بعد، وخاصة ما يتصل منه ببعض الأحداث المحلية التي تتسم بالحساسية». وهذا يفسر ظاهرة وجود قصائد شعرية شعبية عامة حول تلك القضايا، حيث جرت العادة على تداول القصائد الشعبية وتناقلها شفهيا بين الناس دون الحاجة لكتابتها وتسجيلها، وعدم وجود قصائد فصيحة مما يصعب حفظه وتناقله شفويا في مجتمع لم يكن التعليم منتشرا فيه بشكل كاف».

فهد العسكر

وتتوقف مفرح في رصدها لمسيرة الشعر الكويتي لتتأمل تجربة الشاعر فهد العسكر (1913 - 1951) «ليس باعتباره مشكلا لملامح ذلك النموذج الكويتي في صيغته العربية طوال فترة الأربعينيات وبداية الخمسينيات وحسب، ولا باعتباره مجددا حقيقيا في الشعر فقط، بل أيضا باعتبار تأثيره البالغ على من جاء بعده من شعراء المنطقة وحجم ذلك التأثير ومدى وعيه به أيضا، بالإضافة إلى حجم الموهبة الشعرية التي أطرت ذلك الوعي الجديد ومستواها أيضا مقارنة للسائد من المواهب الشعرية آنذاك».

فقد تحول في تجربته من شاعر تقليدي محافظ إلى شاعر رومانسي ثائر على التقاليد الموروثة، شديد الجرأة في محاربة ثوابت المجتمع، والمتعصبين من بني قومه. مما أدى إلى تحريض أسرته ومجتمعه عليه.

وتختار مفرح من قصائده ابياتا شعرية يقول فيها: «أنا شاعر، أنا بائس / أنا مستهام، فاعذريني / أنا من حنيني في جحيم / آه من حر الحنين / أنا تائه في غيهب / شبح الردى فيه قريني / ضاقت بي الدنيا دعيني / أندب الماضي دعيني».

في مطلع الستينيات كانت الكويت قد بدأت مرحلة حافلة من مراحل الحراك الثقافي والسياسي تواكبا مع مرحلة الاستقلال عام 1961، والتحول الكبير الذي طرأ على الكويت والكويتيين إثر صدور الدستور الكويتي عام 1962 الذي يعد الدستور الاول من نوعه في المنطقة بأسرها.

وترى سعدية مفرح ان هذا الحراك مع التغيرات الاقتصادية الناتجة عن اكتشاف النفط في الكويت منذ الأربعينيات كان لهما أثر كبير في ذلك التحول الفكري والثقافي السياسي الذي ألم بالحياة الكويتية اليومية وجعلها أكثر تقبلا للتجديد في كل مناحي الحياة ومنهل المنحى الإبداعي.

بشائر الحداثة

وقد كان لوجود الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب، بوصفه أحد رواد القصيدة العربية الحداثية، في الكويت، آنذاك، بشكل متقطع، ثم بشكل مستمر حتى توفي في أحد مستشفياتها في العام 1964، أثر كبير في الحركة الشعرية في الكويت آنذاك.

وترى مفرح أن قصائد السياب أثرت في اثنين من أبرز شعراء الستينيات الكويتيين وهما محمد الفايز وعلي السبتي. فعلي السبتي، على ما تقول، هو أول من أدخل الحداثة الشعرية صريحة في ساحة الشعر الكويتي عندما طرق بابها بقوة عبر قصيدته (رباب) عام 1955، أما الفايز (1938 - 1991) فقد سجل عبر قصيدته الطويلة الشهيرة (مذكرات بحار) اسمه ضمن شعراء الحداثة العربية المعدودين في ذلك الوقت.

«سأعيد للدنيا حديث السندباد / ماذا يكون السندباد / شتان بين خيال مجنون وعملاق تراه / يطوي البحار على هواه / بحباله / بشراعه / بإرادة فوق الغيوم».

وتطرح مفرح سؤالا عن ظاهرة تراجع الطابع الحداثي لقصيدة علي السبتي في ديوانه الأخير، وكذلك الفايز في أعماله الأخيرة بالشكل الذي بدا متناقضا مع بداياتهما، قبل أن تعرج على مفارقة أخرى مثلتها القصائد القليلة التي كتبها الشاعر أحمد العدواني (1920 - 1990) إذ ترى أن ديوانه الوحيد الذي صدر في العام 1980 «كان يمثل تجسيدا حقيقيا لمرحلة فكرية انعكست على المسار الشعري في الكويت ككل هي مرحلة الستينيات والسبعينيات المفعمة بروح المد القومي وتجلياته الفكرية والإبداعية أيضا، إلا أنه على رغم هذا لم ينسق وراء تلك اللغة الشعرية المباشرة في تجديده الشعري وفقا لاقتراحات الشعر المعبر عن روح تلك المرحلة على الصعيد القومي».

«أفكارنا دجاجة / في كنف السلاطين / خراجة ولاجة / في قن أصحاب الملايين / وبيضها يثمر حسب الحاجة / أفراخها مدجنة / تلقط حب الذل والقهر بمسكنة / حتى ترى إخلاصها / للذبح بالسكاكين».

وبالرغم من قلة إنتاج العدواني إلا أنها ترى أن تلك المرحلة التاريخية في مسيرة الشعر الكويتي قد انصبغت بصبغته رغم بروز أسماء أخرى في ذلك الوقت.

وبين أبرز تلك الأسماء اسم الشاعر خالد سعود الزيد (1937 - 2001) «ولعل قراءة سريعة لعناوين دواوين الزيد الشعرية الثلاثة بالإضافة إلى المختارات على الأقل تجعلنا نكتشف ذلك النفس الصوفي الديني الذي ميز قصائد خالد سعود الزيد دون أن يهوي بها الى مهاوي التقليدية كما فعل بغيره من مجايلي تلك المرحلة الكثر مثل عبدالله زكريا الأنصاري وفاضل خلف وعبدالله أحمد حسين وخالد الشايجي».

تتوقف مفرح عند الشاعر خليفة الوقيان بوصفه استطاع تجاوز من سبقه من الشعراء «ليمكسك طرف الخيط من العدواني في استشرافه للتحولات الفكرية واستقرائه لواقع الأمة العربية في ستينيات وبداية سبعينيات القرن العشرين».

وفي رصدها لمرحلة الستينيات والسبعينيات تتامل مفرح، بالإضافة للوقيان تجارب الشعراء عبدالله العتيبي ويعقوب السبيعي الذي اهتم بشعر الغزل في دواوينه الأربعة، ومن السبعينيات نايف المخيمر وسليمان الخليفي وسليمان الفلاح، وتصف تجربتهم بأنها ابتسرت لاحقا لأسباب مختلفة، كل وفق ظروفه.

شاعرات الكويت

فيما يتعلق بصوت المرأة الشاعرة ترى مفرح أنها تأخرت قليلا حتى عقد الثمانينيات الذي تصفه بأنه عقد نسائي على صعيد الشعر بجدارة. على الرغم من بعض البدايات الخجولة التي سبقت ذلك في الستينيات والسبعينيات، خاصة بعد ظهور صوتين لشاعرتين مجتهدتين هما جنة القريني ونجمة إدريس، وصدور الديوان الأول للشاعرة سعاد الصباح، التي أصدرت في الثمانينيات ديوانها الأهم «فتافيت امرأة»، وساهمت في أن تكون الثمانينيات عقد تحقق المرأة الكويتية في الشعر بامتياز.

«وقد ظلت سعاد الصباح في مجموعاتها الشعرية التي تلاحقت بعد ذلك تحلق بجناحين من الثورة، أحدهما يحمل ملامح المراة والآخر يحمل ملامح الوطن».

وتشير مفرح في معرض استعراض الصوت النسائي في الشعر الكويتي إلى تجارب كل من نجمة إدريس وغنيمة زيد الحرب وجنة القريني وخزنة بورسلي، ثم تجارب التسعينيات الممثلة في أصوات فوزية الشويش، التي تأخرت في نشر قصائدها، وعالية شعيب التي تقدمها مع تجارب جيل التسعينيات في المرحلة الخاصة برصدها لتجارب ذلك الجيل من الشعراء الكويتيين.

التسعينيون

وأخيرا تتوقف الشاعرة عند مرحلة الغزو وتاثيراتها في المجتمع الكويتي، ثم الأطياف التي ظهرت في القصيدة الحديثة لجيل الشعراء الجديد، الذي عرف بالتسعينيين، والذي نشر دواوينه عقب تلك الفترة ممثلا في العديد من الأسماء مثل علي حسين الفيلكاوي، إبراهيم الخالدي، دخيل الخليفة، أحمد الدوسري، صلاح دبشة، نشمي مهنا، سعد فرحان، مبارك الهاجري، فهيد البصيري، أحمد النبهان، علي الصافي، محمد النبهان، نور، عيد الدويخ، سعد الدهش، نورة المليفي، فاطمة العبدالله، نايف العنزي, وسعدية مفرح.

«لقد تميز هؤلاء الشعراء بجرأة محسوبة أتاحت لهم أن يخوضوا غمار التجريب في نماذج شعرية حققوا فيها رؤاهم الخاصة من جهة، ونسخهم الشخصية للرؤى الفكرية والاقتراحات الفنية في التعامل مع القصيدة, التي سادت اجواء الشعر العربي طوال العقد التسعيني من جهة ثانية».

وترصد تجارب المرحلة وهموم الهوية التي سيطرت على قصيدة ذلك الجيل وأطيافها في تجاربهم المتمايزة، والثورة الشكلية والمضمونية على التجارب السابقة لهم، قبل أن تنتقل إلى أحدث الأصوات الشعرية التي صدرت مع الألفية الجديدة، بجرأة أكبر والذين استفادوا من تقنيات الاتصال الجديدة وتحاوروا مع مجايليهم من الأصوات الشعرية العربية مثل محمد المغربي، وسعد الجوير وحمود الشايجي وماجد الخالدي، الذين برزت تجاربهم بقوة وأثبتت جديتها، مستفيدة من تراث القصيدة العربية الحديثة وأطيافها في مسيرة الشعر الكويتي، التي رصدته مفرح، بنوع من التفصيل والتأريخ الموجز الذي لم يخل برسم لوحة رائعة لخريطة الشعر الكويتي.

ثم أوردت خمسين فصلا باسم خمسين شاعراً من شعراء الكويت من الأجيال كافة مع مقدمة تعريفية لكل شاعر وعدد من قصائد كل منهم بما يجعل من هذا الكتاب بحق كتاباً مرجعياً مهماً في تأصيل حركة الشعر الكويتي المعاصر تسد ثغرة في المكتبة العربية المهتمة بالشعر الخليجي وشعراء الكويت على نحو خاص.

الكتاب أصدرته وزارة الثقافة الجزائرية في إطار احتفالاتها بالجزائر عاصمة ثقافية.

-----------------------------------

وجدتُ الانفرادَ يريحُ نفسي
فملت بجملتي للانفرادِ
فررتُ من اجتماعاتِ البرايا
وبي منهن موجعةُ الفؤادِ
ولا تنقم على البعدِ عنهم
فنفسي استعذبَت ثمرَ البعادِ

صقر الشبيب

 

 

إنجاز: سعدية مفرح