هانس هولباين ولوكاس كراناش صورتان للطفل الأمير

هانس هولباين ولوكاس كراناش صورتان للطفل الأمير
        

          تعود اللوحتان اللتان نعرض لهما هنا لاثنين من كبار الأساتذة في رسم الصور الشخصية خلال النصف الأول من القرن السادس عشر. ويسمح تناولهما معًا بالكشف عمّا كان عاماً وسائداً في ذلك العصر من خلال ما هو مشترك بينهما, أما الاختلافات فتكشف الأثر الذي تلعبه شخصية الفنان ونشأته في معالجة اللوحة.

          اللوحة الأولى هي صورة (الملك إدوارد السادس) عندما كان في الثانية من عمره ووريثاً لعرش إنجلترا. والصورة الثانية هي لأمير مجهول الهوية من مقاطعة ساكسونيا الألمانية.

          اللوحة الأولى هي بريشة الرسام هانس هولباين الأصغر (1497 - 1543م) المولود في ألمانيا, حيث تلقى دروسه الأولى في الرسم على أيدي والده ومن ثم هاجر إلى سويسرا وهو في سن الثامنة عشرة, قبل أن يستقر في إنجلترا بدءاً من عام 1532م.

          أما اللوحة الثانية فهي بريشة لوكاس كراناش الأكبر, وهو رسام ألماني أيضاً ومن الجيل نفسه (1472 - 1553م). وقد ولد هذا الفنان في كروناش في بافاريا (المدينة التي يحمل اسمها, إذ إن اسمه الحقيقي مجهول). وبالرغم من الشهرة التي حظي بها في حياته, فإنه لم تصلنا أي أخبار عن أي نشاط له يتعدى حدود البلاط الملكي في ويننبرغ.

          من المرجح أن هولباين رسم صورة إدوارد السادس في العام 1538م, لأن هناك وثائق تشير إلى أنه تم تقديم هذه اللوحة إلى الملك هنري الثامن (والد الطفل) يوم عيد رأس السنة, 1539م. وتشير الوثيقة نفسها (لائحة الموجودات الملكية) إلى أن الملك أُعجب جداً بـ (الشبه) ما بين صورة الأمير الصغير وما هو عليه في الواقع, إلى درجة أنه وهب الرسام مكافأة ذهبية كبيرة.

          ولكن, أي شبه ما بين الأمير وصورته هو الذي أعجب الملك الوالد?

          في ذلك الزمن المحدد, لم يكن من الصعب على رسام كبير أن يثير الإعجاب في إنجلترا. فعند وصول هولباين إليها للمرة الأولى عام 1526م, ومن ثم للمرة الثانية 1532م, لم تكن إنجلترا قد استوردت أي رسام أوربي ذي شأن منذ رسامي المنمنمات الدينية في القرون الوسطى. ولذا, لم يكن صعباً على هولباين أن يتحول إلى النجم الذي لا منازع له. في زيارته الأولى, أصبح هولباين صديق سانت توماس مور ورسمه إضافة إلى أفراد عائلته وبعض النبلاء, وفي الزيارة الثانية تحول بسرعة إلى رسام البلاط.

          أما الشبه ما بين الأمير إدوارد وصورته, وإن كان موجوداً بالفعل, فهو يبقى من دون أي شك, أقل شأناً بكثير من عمليات الترتيب والهندسة والتجميل التي قام بها الفنان, لينجز لوحة تكمن قيمتها الكبرى في (عبقرية الصنعة) وليس في التشابه مع الواقع.

          فقد نجح الرسام في تحويل طفل في الثانية من عمره إلى صورة شبه نمطية للمهابة الملكية. فهو هنا باللباس الرسمي للبلاط: القماش المذهب والمخمل الأحمر والقبعة التي تعلوها ريشة بيضاء. ورغم أن ملامح الوجه طفولية إلى حد كبير وتدل للوهلة الأولى على أن هذا الطفل يتمتع بصحة ممتازة, فإن نظرته المستقرة والتي تتطلع من فوق إلى تحت قليلاً, هي ملكية متعالية أكثر مما هي طفولية.

          إلى ذلك فإن (الخشخاشة) (اللعبة التي تصدر أصواتاً إذا هزها الطفل) والمصنوعة من الذهب تبدو في يد الأمير الصغير أشبه بالصولجان. أما يده اليمنى فمرفوعة بخيلاء صاحب القرار الآمر والناهي.. وأخيراً, هناك في الأسفل قصيدة كتبها الكاردينال موريسون, تدعو الأمير الصغير إلى أن يسير على خطى والده في كل شيء وصولاً إلى إنجاب الكثير من البنين.. ولكن الأمير الذي أصبح لاحقاً ملكاً وهو في التاسعة من عمره, توفي وهو في الخامسة عشرة من دون أن ينجب أولاداً تاركاً إنجلترا تتخبط في فوضى الحروب الدينية.

          إن وظيفة الصورة الشخصية تختلف باختلاف هوية الشخص الذي تمثله وأيضاً باختلاف المدارس الفنية والعصور وثقافات الرسامين واهتماماتهم. وفي البلاطات الملكية كان التجميل وترسيخ المكانة من أهم وظائف هذا الفن. وإن تمكن هولباين من أن ينجز تحفته هذه بشكل يرضي كل ما يتمناه الزبون (الملك هنري الثامن) فهذا يعود إلى خبرته الكبيرة في التنقل ما بين البلاطات الأوربية وأسفاره, وعلاقاته الاجتماعية مع النخب العليا أينما كان.

          أما كراناش فيختلف عن هولباين كثيراً في هذا المجال. فالبلاط الوحيد الذي عرفه هو بلاط ويتنبرغ الصغير, الأقرب آنذاك إلى ديوانيات نبلاء الأرياف. ولذا لا سطوة ولا مهابة ملكية في لوحاته التي تمثل الأمراء والنبلاء الألمان.

          في صورة الأمير الساكسوني هذا, نلاحظ تشابهاً في موضة الأزياء الملكية, ألوان الأقمشة نفسها, وزخرفة الحياكة على أكمام الملابس هي نفسها أيضاً.. ولكن الأمير الساكسوني يختلف كثيراً عن إدوارد السادس. فهو ولد حقيقي, والإكليل الذهبي الذي يزين رأسه لا يقول شيئاً محدداً غير ما تقوله الملابس, وهو أنه تمت تهيئة هذا الولد لحضور حفلة ما.. وبالتمعن في الوجه قليلاً, نكتشف فوراً نظرات الترقب والمراقبة في العينين الكبيرتين بدلاً من نظرات التأمل المستقرة في صورة إدوارد السادس. وبمزيد من التمعن, لا بد من أن يشعر المشاهد بشيء من فقدان الانسجام والتوازن ما بين دقة الطفولة وطراوة عودها والملابس الفضفاضة الثقيلة التي تبدو مرهقة لهذا الولد وكبيرة عليه.

          وبالتالي, فإن القيمة الحقيقية لهذه اللوحة لا تكمن في هوية الشخص الظاهر فيها, بقدر ما تكمن في الإشعاع العاطفي الصادر عن طفولة ضائعة, تقمعها مستلزمات المكانة الاجتماعية ومتطلباتها.

 

عبود عطية   

 
  




هانس هولباين الأصغر, (صورة إدوارد السادس), 1538م, زيت على خشب (57 × 44 سم), متحف الناشيونال جاليري, واشنطن









لوكاس كراناش الأكبر, (صورة أمير ساكسوني), 1517م, زيت على خشب (44 × 34 سم), مجموعة رالف وماري بوث