مع المقاومة الكويتية لم يكن الصمود أغنية ولا نشيدًا

لم يكن الصمود أغنية ولا نشيدا في داخل الكويت بدأت حركة المقاومة، بعفوية وتلقائية ولكن وفق إحساس عميق أن قوات الغزو سوف تمضي، وأن الكويت يجب أن تبقى. كأن التجربة كالأتون الذي تنصهر فيه كل المعادن فتخرج أقوى وأكثر صلابة. تعلم الرجل الكويتي طقوس العمل السري بعيدا عن أعين جنود الاحتلال، واكتسبت المرأة الكويتية لقبا سوف تعتز به طويلا هو أخت الرجال.

          " ليس هذا تحذيرا، ولكن لو كنت مكانكم، لما وجد النوم إلى عيوني سبيلا، وإلى جواري حاكم مثل صدام ". ويضيف محدثي السوفييتي: " إن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعانيها صدام حسين، وسابقوه ومحاولاتهم البحث عن وسائل للخروج من أزماتهم، تدفع باتجاه آفاق من العنف، ومع بلد مثل العراق، فإن العنف يمكن أن يكون شاملا ".

          كنت في الاتحاد السوفييتي، قبل الغزو الأسود بأسبوعين، وهناك التقيت بعدد من الخبراء في شئون المنطقة، وفي تلك الأمسية، ورغم هذه الملاحظات السوداء من خبير يعرف المنطقة، فإننى، في داخل نفسي، لم أشعر بالقلق، قلت إن السوفييت لا يعرفون أخلاق العرب والمسلمين، ومدى ما يربط بين الشعبين في الكويت والعراق من وشائج وصلات. وتابعت جولتي في تلك البلاد الشاسعة، شاهدت مدينة لينينغراد، قال مرافقي وهو يعرض أمامي مجموعة من الصور: " انظر، هكذا كانت المدينة قبل أن تجتاح قوات هتلر بلادنا ". ثم عرض مجموعة أخرى من الصور، وعلق عليها: " انظر، هذا الدمار الهائل الذي عرفته المدينة بعد الهجوم النازي "، ثم رفعت رأسي أخيرا لأشاهد المدينة بعد إعادة إعمارها وبنائها ولم أتمالك نفسي، فقلت: إنها اليوم أجمل مما كانت عليه. ووافقني محدثي.

           فجر الخميس الأسود 2 أغسطس، كنت عائدا من صلاة الفجر، وخيوط الضوء الأولى كانت تطل من الشرق، ولا شيء في الأفق سوى السكون. ما إن دخلت المنزل حتى اندفع شقيقي نحوي قائلا بانفعال: " هناك أخبار لا تنبىء بالخير. جاءتني مخابرة هاتفية من (....)، قال إن القوات العراقية اجتاحت الكويت، وإن بعضها قد احتل مراكز استراتيجية في المدينة ".

          " مستحيل "، قلت له على الفور، أضفت " صاحبك مجنون، وربما كان يحلم ". أدرت مفتاح الراديو على إذاعة الكويت، كانت، على غير العادة، صامتة.

          شعرت بانقباض في صدري، انتقلت إلى إذاعات أخرى، لا شيء غير عادي. مضت ربع الساعة، نظرت في ساعتي كانت عقاربها تشير إلى السادسة، فجأة سمعت صوت المذيع من إذاعة الكويت. كان منفعلا ويتحدث عن هجوم ويدعو المواطنين إلى المقاومة. ومن دون وعي، ركضت بعفوية نحو مركز عملي في مجلة "العربي " في مبناها القائم في مقرها الكائن بمبنى وزارة الإعلام القديم كنت أتابع الاستماع إلى الإذاعة عندما وصلت إلى مقربة من مبنى وزارة الإعلام. هناك شاهدت قوات الاحتلال أمامي، وجها لوجه، لم أصدق عيني، قلت: لعله كابوس وسوف ينقشبع. ولكن السيدة العربية في السيارة أمامي أعادتني إلى الواقع. كان الجندي على الحاجز يصرخ في وجهها بصوت مرتفع: ألا تسمعين؟ أعطيني الهوية. وسمعت السيدة ترد بخوف وهلع؟ " ولكني لا أحمل هوية". وتطلع الجندي يسارا إلى ضابط استقر خلف مدفع رشاش من عيار 50. قال الضابط: "خليها تفوت ". وجاء دوري. حاولت أن اضبط إيقاع تنفسي، وأن احتفظ قدر ما أستطيع بالهدوء، وأتصرف بشكل طبيعي وكأنني لم أفاجأ (!). طلب الجندي الهوية، وأخرجت له بطاقة السيارة ومعها رخصة القيادة، قلب الأوراق بين يديه، سأل: " كو يتي؟ ". قلت: نعم. أكمل: " ما ذا تعمل؟ "، ومن دون تردد، قلت: في مصلحة البريد. ضحك، وقال: " استعجل عيني، وصلتك رسالة من بغداد "!. تابعت طريقي إلى المكتب، وهناك التقيت بعدد من الزملاء والزميلات. كان الذهول يلفنا جميعا، وكان السؤال بيننا "هل شاهدتهم.. إنهم في كل مكان ".. وفجأة انفتحت فوهة الجحيم، وبدا المبنى وكأنه يهتز"، كانت الطائرات الحربية تشارك المدفعية الثقيلة والدبابات في قصف المدينة، تفرقنا على عجل، كانت العواطف جتاشة والانفعالات طاغية. وشعرت أنني أحتاج إلى الهدوء لأستعيد صوت العقل، واستوعبت ما يجري من حولي، حملت بعض الأوراق وغادرت المكتب، تطلعت وراثي وأنا أفتح باب السيارة، وعرفت في أعماقي أن كل شيء سوف يتغير، وأن شيئا لن يعود كما كان من قبل.

ملحمة قصر دسمان

          وشاهدت " الحرب "، كان الدخان الأسود الكثيف يتصاعد من ناحية " قصر دسمان " في غرب مدينة الكويت على ساحل الخليج العربي، وشاهدت طائرات الهليكوبتر تتجه نحو القصر ثم تطلق صواريخها ومدافعها الرشاشة عليه، بينما كانت أصوات إطلاق الرصاص والمدفعية الثقيلة تهز الأرض من تحت أقدامنا، لم يكن الفضول وحده ما دفعني باتجاه القصر، كانت سيارات أخرى تندفع باتجاهه، بسرعة رهيبة، يقودها شبان كويتيون، إلى أن بدأ إطلاق النار فوقنا، لقد كان هناك موقع عسكري أقيم على عجل تحرسه ثلاث دبابات ومجموعة من قوات الاحتلال، صرخ الضابط: ارجعوا قبل أن تموتوا. المنطقة عسكرية. عدنا أدراجنا، الشوارع كانت تغص بالناس، بعضهم كان يحتشد أمام المصارف يستخدم آلة صرت النقود الآلية، بعضهم الآخر كان يتجمع أمام محطات الوقود، وبعضهم الثالث كان يندفع إلى السوبر ماركت والجمعيات التعاونية، وفي كل الحالات، كان الجميع يعرف أنها الحرب قد بدأت.

          في الطريق إلى مبنى صحيفة " الوطن " سمعت دوي القنابل مجددا في أماكن أخرى من العاصمة، داخل المبنى التقيت بعض الزملاء، وبدأنا نتابع وكالات الأنباء. " التيكرز " لم تتوقف، ومن خلال الهاتف، عرفنا أن جيوبا للمقاومة، من الجيش ورجال الشرطة، بدأت تواجه الغزو. التلفزيون كان يعمل، وكذلك الإذاعة، الأغاني والأناشيد الوطنية لم تتوقف، وصورة أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد الصباح وولي العهد رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله الصباح كانت تحتل شاشة التلفزيون.

          لم يقلها أحد، ولكن في قرارة نفوسنا كنا نخشى أن الهجوم الكبير على قصر دسمان قد نجح في اغتيال الشرعية ورمز الوطن، ولكن عند الظهر، وبعد مخابرة هاتفية مع الدكتور محمد الرميحي، عرفنا أن الشرعية نجحت بمعجزة في تحطيم المؤامرة المدبرة لاغتيالها والمغادرة إلى الطائف.

          وارتفعت المعنويات، وعندما عدت ليلا إلى المنزل، كانت عبارة واحدة تتردد داخل جدران المنازل، وفي المساجد، وفي الشوارع، وتحت سماء الكويت الحزينة: لقد بدأت الحرب.. لقد بدأت المقاومة.. حي على التحرير.

من دخل بالقوة

          كانت كلمة المقاومة مجهولة في قاموس الشعب الكويتي، صحيح أنه كان لدينا قوات عسكرية شاركت في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 التحريرية في سوريا، وصحيح أن عناصر من هذه القوات بدأت في تنظيم خلايا للمقاومة، ولكن الغالبية العظمى من الشباب كانوا يفتقدون إلى الخبرة الميدانية، ومع ذلك فقد انتشرت كلمة المقاومة انتشار النار في الهشيم، وبدأنا نسمع الكلمة تدوي في سماء الكويت، ويسمعها ويتكبد نتائجها الأعداء في منطقة كيفان التي كانت تقاوم وهي مطوقة وتدور معارك حولها.  الرميثية لا تزال تقاوم. وتوهج في أفق الدم اسم أول شهيدة كويتية تسقط في أثناء تظاهرة خرجت تطالب بعودة الشرعية وانسحاب المحتل.

          إذن، لقد بدأت المقاومة المسلحة، تلقائية وعفوية في بعض الأحيان ومنظمة في غالب الأوقات. وعندما خيم علينا ظلام اليوم الرابع من الاحتلال بدأنا نتلمس ونؤمن ونكرس ميدانيا الشعار الذي اخترناه: من دخل الكويت بالقوة لا يخرج منها إلا بالقوة، وبدأت الاتصالات بين الشباب، وعبر وسائل متنوعة، وكان السؤال الأول والدائم: ماذا نفعل؟ ولم نكن نملك ترف الانتظار، وهكذا جاءت الإجابات سريعة وعملية: تنظيم المناطق السكنية، وضع خطة صحية وتموينية وأمنية. كنا نعرف أن تحقيق هذه القرارات على الأرض يحتاج إلى خبرة نفتقرها، ويحتاج إلى تنظيمات ليست متوافرة، خصوصا أننا نواجه عدوا يعتمد على خبرة ودراية بالقهر والقمع، ويجيش بأحقاد تؤهله للقتل على الشبهة، ولكن الإيمان كان يعمر الصدور، وكنا باللغة الرياضية نقاتل في ملعبنا وبين جمهورنا وهذا ما كان يمنحنا أكثر من امتياز عليه.

لجان التكافل

          كانت الجمعيات التعاونية والأفران وموارد الماء والكهرباء هي الأساس في تعزيز صمودنا الاقتصادي، وعرفنا للمرة الأولى في حياتنا أن الصمود ليس أغنية ولا نشيدا، بل هو عمل ومعاناة يومية، فالاقتصاد في استخدام الكهرباء وتقنين المياه وتخزين المواد الغذائية والمعلبات، كلها كانت مهمات يومية وكانت تحتاج إلى جماعات أو تنظيم يقوم بها ويشرف عليها، وهكذا نشأت "لجان التكافل الاجتماعي " في جميع المناطق.

          وكان باب التطوع في عضويتها مفتوحا لمن يرغب، أما أبرز أماكن التجمعات فكانت في المساجد، وفوق لوحات الإعلانات كنت تجد آخر أخبار المقاومة على أوراق كتبت بخط اليد، وإلى جانبها منشورات كانت توزع في الأحياء يوميا وتهدف إلى رفع الروح المعنوية لدى المواطنين، وكذلك تزويدهم بالإجراءات الاحتياطية التي لابد أن يتخذوها في مواجهة المحتل، ومن دون مبالغة يمكن القول إن الجميع تطوعوا، نساء وفتيات وشبانا ورجالا وكهولا وأطفالا، كان كل متطوع يريد القيام بعمل ويبحث عن دور في مقاومة المحتل، ثم من " لجان التكافل " انبثقت لجان أخرى، وفي الحي الذي كنت أقيم فيه، كان هناك عدة لجان، اللجنة الطبية وكان يقودها الدكتور صلاح، واللجنة الاجتماعية ويرأسها وليد العنجري، ثم لجنة النظافة والجمعية التعاونية، وكان دور الفتاة الكويتية في هذه اللجان بارزا، أما أنا فقد أوكلت إلي مهمات في اللجنة الأمنية وكذلك الإشراف على اللجنة الإعلامية، وتحولت المنطقة إلى خلية نحل تعمل على مدار الساعة.

صيف طويل وحار

          وهكذا ما إن انقضت الأيام العشرة الأولى من الاحتلال حتى كان في كل منطقة تنظيم متشعب ومتماسك ومتين قادر على توفير مستلزمات الصمود، ومساعدة المواطنين على البقاء في مواجهة قوات الاحتلال، ولم تكن هذه المهمة سهلة، فرجال الاستخبارات العراقية لم يعودوا يكتفون بالحواجز أو بالدوريات في الشوارع العامة، وإنما دخلوا الأحياء، وبدأوا، بدورهم، في الاعتماد على بعض العناصر غير الكويتية، لإقامة شبكات من المخبرين، ولكن السرية الشديدة التي اعتمدناها منذ اليوم الأول في عملنا وفي تنظيم لجاننا المحلية كانت خير وقاية من وشايات المخبرين وعيونهم. وكنا نشعر بالحزن مع كل مواطن ترغمه الظروف على مغادرة الكويت، وكان لكل منهم أسبابه، فقد كان وجودنا في منازلنا وفي ديرتنا هو شاهدا يوميا على أن الغزو مؤقت وسوف يرحل إن لم يكن اليوم فغدا، أما نحن فسوف نبقى ومعنا سوف تبقى الكويت، وأخذنا نعد العدة لصيف طويل ساخن وحار، لم نستسلم لأحلام اليقظة، ومع كل قوات جديدة يدفع بها صدام حسين إلى الكويت كنا نزداد تصميما على التشبث بالأرض، وتوطيد العزم على أسابيع بل وشهور من مقاومة المحتل ومواجهته. وهذه المواجهة كانت يومية، وتعتمد على أساليب الحرب النفسية، وكنا لا ندخر جهدا في نشر الروايات التي من شأنها أن تحط من معنويات قوات الغزو، ومقابل كل شائعة كان يطلقها الغزاة عن مباركة ديار العرب والمسلمين " لعودة الفرع إلى الأصل " كنا نعمل على جمع الإحصاءات والمعلومات عن عدد الدول المشاركة في قوات الحلفاء، وعدد هذه القوات، والأسلحة الحديثة التي تملكها، مع ترك الخيال لبعض المبالغات عن الطائرة " الشبح " وسواها، وهذه المعلومات كنا نحرص على أن تصل إلى قوات الغزو، وبمختلف الوسائل والسبل، ومن دون أن يتعرض ناقلها للخطر، وكنا غالبا ما نوزعها في منشورات.

كي لا نصير جزيرة

          الصمود ومواجهة المحتل في الداخل لم يكن يقتصر على جيوب مسلحة للمقاومة، ولا على العصيان المدني الشامل ، ولا على تأمين مستلزمات الصمود اليومي، كان همنا، ونحن نؤهل أهلنا لأشهر من الاحتلال، أن نتابع الاتصال مع الخارج، أن نتلقى المعلومات من ناحية، وأن نزودهم بالمعلومات من ناحية ثانية، ولتحقيق هذه الغاية أقمنا شبكة اتصالات وثيقة تتولى جمع المعلومات وتعميمها في الداخل كما في الخارج، وكنا نعتمد على ثلاثة أجهزة فقط للاتصالات الخارجية تربطنا بالعالم ، الجهاز الأول مع خالد بودي في العديلية، والثاني مع الشيخ علي سالم العلي، والثالث مع " أبوناصر "- لم أكن أعرفه بغير هذا الاسم، ولم أكن أطرح الكثير من الأسئلة- وكان لدينا جهاز واحد للفاكس ربطناه بواحد من هذه الأجهزة.

          أجهزة الاتصالات كانت هي " ثروتنا " الرئيسية، وكنا نحرص عليها حرصنا على حياتنا، فهي " الرئة " التي نتنفس بها ومن دونها نكاد نختنق، ولأن وسائل الغزاة في رصد هذه الأجهزة كانت متنوعة وكثيفة، ومثلها العقوبات التي تصل إلى حد الإعدام بتهمة " التخابر مع طرف خارجي " ، فقد كنا نعمل على نقلها من مكان إلى آخر وقبل أن يتم رصدها، وكنا نعتمد في ذلك على النساء والفتيات، ذلك أن جهاز الإرسال والاستقبال كان يعتمد على " دش "- صحن واسع لا يمكن تفكيكه إلى قطع- وبالتالي كان يصعب إخفاؤه في سيارة عادية، وبالتالي كنا نخفيه في شاحنة صغيرة (وانيت) تقودها إحدى الفتيات أو " سيدة " مع أطفالها، حيث إن إمكانية تعرضها للتفتيش هي أقل من احتمال تعرض سيارة يقودها رجل، وكانت " فرق الاستطلاع " تقوم بعملية مسح شاملة للطريق الذي سوف يمر منه " الدش "، بحيث نضمن أكبر قدر ممكن من السلامة، وفي رحلات النقل هذه عرفنا مدى جرأة المرأة والفتاة الكويتية، وقدرتها على مواجهة التحديات، بحيث استحقت بالفعل،- لقب " أخت الرجال ". ولأخت الرجال فى قلوب الكويتيين الذين صمدوا في الداخل أو في الخارج مكانة خاصة، لأن جيوش الغدر والعدوان اعتقلت، أثناء عمليات النقل، أكثر من أخت، تم التنكيل بها، وأعدم بعضهن، بينما ما زال بعضهن مفقودا.

العقاب الجماعي

          وبدأت جيوب المقاومة العسكرية تتوسع، ومثلها إجراءات البطش، ومع تزايد عدد الشباب المنخرطين في صفوف المقاومة ومع تصاعد العمليات العسكرية، وبينها عمليات انتحارية، ضد مراكز" قوات الغزو "، ومواقع قيادات، لجأت قيادة الاحتلال إلى العقاب الجماعى، فإذا أطلقت رصاصة من بناء، تأتي الدبابات لتدكه وتقتل كل من فيه، وإذا وقعت عملية عسكرية في أحد الأحياء تبدأ قوات الاحتلال تمشيط الحي كله بالمدفعية عشوائياً، وإذا شوهدت كتابة معادية للاحتلال على أحد جدران المنازل يحكم على صاحب المنزل بالإعدام وهذه العقوبات الجماعية دفعت بالعصيان المدني ليمثل المكانة الأولى في صفوف المقاومة الشعبية، وقد تنوعت أشكال هذا العصيان من رفض لاستبدال لوحات عراقية بلوحات السيارة الكويتية، إلى الاحتفاظ بسجلات الهوية الكويتية ورفض العراقية، وسواها، وكانت أخبار أهلنا في الخارج شبه مقطوعة عنا، ولم يكن فينا من ليس له أخ أو أم أو أب في الخارج، ومن هنا فقد كنا نستعين بإخوة خارجين من الكويت، عربا وكويتيين، لنقل رسائلنا، بينما لم تكن تقدم وسائل استقبال رسائل أهلنا من الخارج عبر محطات الإذاعة والتلفزيون الصديقة، وأحياناً عبر " رسائل سرية " يتم تهريبها بوسائل مختلفة، ورغم صعوبة التهريب، فإنني أشير إلى أن واحداً  من أجهزة الاتصالات تم  تهريبه من السعودية إلى الكويت. ولابد أن يتوافر في يوم ما سجل لهذه المآثر العظيمة التي سجلها شعبنا بعرقه ودمعه ودمه، ورسم أمام الشعوب الأخرى مثالاً للمقاومة حتى التحرير ولمحبة الوطن حتى الشهادة.

المقاومة المسلحة

          عندما اختار الكويتيون المقاومة طريقاً لرفض إرادة المحتل، وتعبيرا عن أن الوطن كله يرفض الاحتلال ويغلي بالغضب، لم يكن الخيار بالمقاومة إلا بديلا عن الاستسلام، وبينما كان العصيان المدني الواسع الشامل هو تعبير جماعي من كل أفراد المجتمع شيوخاً وشبابا ً ونساء وأطفالاً، فإن حركات المقاومة المسلحة كانت مواجهة بالدم وبالحياة مع المحتل الغاصب.

           وكانت هناك صعوبات كثيرة تواجه خيار المقاومة المسلحة أولها الحاجة إلى السلاح، فالكويت كانت وستعود واحة أمن، لم يعرف أهلها العنف ولم يكن السلاح فيها متاحاً.

           ثانية المشكلات، طبيعة الكويت، فالكويت مدينة مقامة على ساحل بحر ورمال صحراء، أراض منبسطة ممتدة، وكان التوسع العمراني والتخطيط الذي أنشئت على أساسه الكويت، وشبكة الطرق الكبيرة الواسعة عاملا آخر يزيد من صعوبة المقاومة، فالأرض منبسطة، والشوارع مستقيمة والاختباء فيها أو التخفي متعثر إن لم يكن مستحيلا. ولذا فإن عمليات المقاومة كانت تحمل في طياتها قدراً كبيراً من توقع الاعتقال أو الموت. وعلى الرغم من ذلك لم يتردد أبناء الكويت لحظة في تقديم الحياة نفسها فداء لحرية الوطن.

تراث الشعوب

          انطلقت المقاومة مع ساعات الفجر الأولى ليوم 2 أغسطس (آب) في المطلاع والجهراء والجيوان، ومن الصعب القول إن الكويتيين كانوا يتحركون استجابة لمعارف وتراث سابق، كانت خبرتهم اليومية الجديدة التي تتأكد كل يوم وتتطور، كانت الذاكرة بلا تراث في المقاومة وحروب العصابات ولا حرب الشوارع، ولا معلومات أو خبرات عن تصيد العدو وعمل الكمائن، كان الموجود هو إرادة هائلة للتحدي ورفض الاحتلال، وانطلق الكويتيون- شباب فخخ سيارته واندفع بها في داخل قافلة تحمل ذخيرة اشتعلت القافلة وأشتعل الجثمان الطاهر- ثلاثة شبان كمنوا لسيارة جيب تحمل عدداً من ضباط الغازي واندفعوا تجاهها في عملية انتحارية، عديد من هذه القصص يحفل بها سجل المقاومة الكويتية، كان العمل يتم وفق الاجتهاد الشخصي والمبادرة ووفق طبيعة وظروف المكان القاسية. وعلى الرغم من ذلك فقد أضاف الشعب الكويتي إلى تراثه الحافل بصنع الحياة، تراثاً في المقاومة حافلاً بالدفاع عن الحياة، ودرس التاريخ. وتراث الشعوب يقول لنا إن الذين لا يدافعون عن الحياة لا يستحقونها، وقد دافع أبناء شعبنا عن الحياة لكي يعيدوا صنعها أجمل مما كانت وأروع وأنبل.. وهذا هو الدرس، وهذه هي الإرادة، وقد كان الثمن الذي دفعته المقاومة- التي هي كل الكويت- فادحاً- ففي الروضة وجدت سلطات الاحتلال جثتين لجنديين عراقيين في مبنى مدرسة، وعلى الفور قامت السلطات بهدم وإحراق كل البيوت التي تقع في مواجهة المدرسة. وفي منطقه سلوى قذفت سلطات الاحتلال ثلاثة منازل بمدافع الهاون حتى سوتها بالأرض لأن واحداً من هذه المنازل كان مقراً لكمين يصطاد عناصر العدو المسلح أثناء مرورها في الطرقات.. وفي الفروانية اعتقل العدو سكان بناية بأكملها.. رجالاً ونساء وأطفالاً، لأن في العمارة كانت توجد شقة الموت، وهي شقة اتخذت منها المقاومة مقرا لعملية من أبرع عملياتها، كانت وحدة المقاومة ترسل أخت الرجال لتغوي أحد أفراد الجيش من الضباط، وتصحبه إلى الشقة وهو يمني نفسه.. لتقوم المقاومة باستجوابه وأخذ سلاحه وقتله.. كان الثمن فادحاً وعلى الرغم من ذلك لم يتردد أبناء الكويت في بذل الدم والحياة ومعاناة العذاب.

          كان إدراك الجميع أن حجم عمليات المقاومة لن يكفي للتحرير وإجلاء جيش قوامه 450 ألف نسمة، ولكن الوعي كان حادا، إن المقاومة ضرورة لبث الذعر داخل نفوس الأعداء والأهم هو إعلان رسالة للعالم أن إرادة الشعب حية ولم ولن تموت.

كسر إرادة المحتل

          لم تقتصر أشكال المقاومة على المواجهة المسلحة، كانت المقاومة المسلحة مجرد تعبير وشكل من أشكال الصمود. ولعل من المفيد أن. المستقبل لهم بلا عنف .. ولا دماء. ندرك كيف كانت الحياة أثناء المحنة لنعرف مغزى وقيمة المقاومة.

          عندما اجتاحت جحافل الغزاة فجر يوم 2 أغسطس (آب) فإن قوات الغزو لم تكن آتية للنزهة، ولا لمجرد حملة عسكرية تأتي وتذهب، كانت تنفذ أحلام التوسع المريضة لدى حاكم العراق. وإلا ماذا كان هدف حشد 12 فرقة والهجوم على بلد صغير مسالم لا يتجاوز تعداد جيشه 20 ألفا. لماذا كان الهجوم بـ 150 ألف جندي وألفي دبابة وأسراب من الطائرات والقطع البحرية؟!

          ولماذا كانت النبرة الإعلامية العالية التي بدأت بالسقف الأعلى بحيث لا تفتح مجالاً للتراجع؟ ولماذا تم تعزيز الجيش بعد أسبوع واحد ليصبح هناك ربع مليون جندي في الكويت؟!

          ولماذا سمحت سلطات الاحتلال للمواطنين الكويتيين بالخروج بينما منعت العراقيين من نفس الحق. فوفق منطق ما ادعاه المحتل كان المفترض أن العراقي والكويتي سواء. ولماذا كانت هذه المعاملة المسيئة للكويتيين؟ إجابة كل هذه التساؤلات والشواهد تؤكد أن العراق اجتاح الكويت ليبقى. ولذلك فقد اتخذ عدة قرارات تهدف إلى إلغاء سيادة الكويت وطمس هوية الشعب، كانت القرارات رغم ظاهرها ذات مغزى سياسى وسيادي، فدعوة الموظفين للانتظام في العمل هو قرار كان يهدف به إلى الإعلان عن بسط إرادته على الكويت، وسيطرته على السلطة المدنية فيها.

العصيان المدني

          وكانت هذه معركة أهل الكويت الأولى، فبدون اتفاق مسبق أجمع الكل على عدم الذهاب إلى العمل ماعدا العاملين في قطاعات الصحة والمياه والكهرباء تحديداً، وتطورت هذه الحالة لتتحول إلى حالة عصيان مدني شامل فلم يمتثل أهل الكويت لقرار واحد، ولم يتمكن الغازي بالتالي من إعلان بسط سيادته وإرادته وسيطرته على السلطة المدنية، كان العصيان المدني ونجاحه الرائع إعلان فشل ذريع للغازي.

          وهنا لعله من المهم أن تتذكر عبارة" كلاوزفنتر" أحد خبراء الإستراتيجية في عصرنا التي يقول فيها: " إن الحرب هي أداة من أدوات السياسة، ولكنها لاتحسم نتيجة صراع سياسي " وهذا ما حدث عندما اجتاح العراق الكويت. صحيح أنه بالغدر والخديعة بسط ظل مؤسسته العسكرية على شوارع وطرقات الكويت لكنه لم يسيطر على بلد. ولم يمتلكها ولم يستول على روحها و إرادتها.

          ولم يكن وارداً في مخيلة كويتي واحد حساب أو تخيل لمثل هذا اليوم، ولذلك فإن الذاكرة أو الخبرة الإنسانية لم تكن مهيأة للتعامل مع هذا الواقع، ولكن الكويتيين استلهموا حسهم الوطني وحبهم 86  مواكب النصر في شوارع الكويت. الأبراج شامخة والإنسان الكويتي كذلك. للأرض وولاءهم للشرعية لكي يترجموا هذا الإحساس في سلوك، وأصبحت المسألة في النهاية إرادة في مواجهة إرادة.

          رفض كويتي هائل وصلد للامتثال لإرادة المحتل، وإصرار متصاعد من الغازي لفرض سيطرته على الوطن وبسط سلطته المدنية. وكلما مر يوم زاد بطش الغازي، وكلما تزايد رفض الكويتيين وعصيانهم توحش المحتل فانطلق يعصف بالبشر، وارتكب من الجرائم ما لم يسبق له مثيل في تاريخنا العربي، فهتكت أعراض وقتل أبناء أمام ذويهم، وعذب الرجال، وأهينت النساء، وعلى الرغم من ذلك تمسك الكويتيون بإصرار عميق على الصمود والمقاومة، ولم يكن صمودهم أغنية يؤديها مطرب ولا نشيداً حماسياً.. كان حياة تم تعميدها بالدم، ودفع ثمنها من عذاب وألم لا يتصوره بشر.






صورة الغلاف




علم الكويت يرتفع ورجال المقاومة يعلنون فرحتهم بلحظة التحرير




أحد أبطال المقاومة يشير إلى آثار التعذيب على صدره




مكاتب العربي وقد نهبت محتوياتها ثم تحولت بعد ذلك إلى مخزن لذخيرة جنود الاحتلال




مكاتب العربي وقد نهبت محتوياتها ثم تحولت بعد ذلك إلى مخزن لذخيرة جنود الاحتلال




كان القصف العشوائي يروع الأحياء الآمنة ويحولها إلى خرائب




دمية مشنوقة ترتدي الزي العسكري العراقي وعربات عسكرية معطلة.. لقد تركت المقاومة الكويتية بصماتها




لقد تركت المقاومة الكويتية بصماتها




بقايا الرعب إمرأة تركت حذاءها وفرت هاربة




مع أولى لحظات التحرير هبط رجال المقاومة إلى شوارع الكويت وبدأو ينظمون أمور الحياة فيها




مع أولى لحظات التحرير هبط رجال المقاومة إلى شوارع الكويت وبدأو ينظمون أمور الحياة فيها




مع أولى لحظات التحرير هبط رجال المقاومة إلى شوارع الكويت وبدأو ينظمون أمور الحياة فيها




مع أولى لحظات التحرير هبط رجال المقاومة إلى شوارع الكويت وبدأو ينظمون أمور الحياة فيها




السير نحو الحرية. كويتيون كانت تحتجزهم قوات الاحتلال كرهائن في مدينة صفوان العراقية وهو عائدون إلى بيوتهن




نظرة مليئة بالحزن والألم والأم تسأل عن مصير الأسرى والمفقودين




أطفال عائدون من الأسر




كان هذا الطفل الصغير أسيرا عند النشامي.. وكان هناك من هو أصغر




الأهالي يراجعون صور الأسرى والمفقودين




الأمهات والزوجات ينتظرون في حزن والسلطات العراقية مازالت تتلكأ




الأهالي يراجعون صور الأسرى والمفقودين




الأهالي يراجعون صور الأسرى والمفقودين




القوات الكويتية والعربية الشقيقة تتقدم في شوارع الكويت المحررة




رقصة العرضة التقليدية وفرحة أهل الكويت بالتحرير




أطفال الكويت.. أطفال الحرية.. المستقبل لهم بلا عنف.. ولا دماء




مواكب النصر في شوارع الكويت. الأبراج شامخة والإنسان الكويتي كذلك




مواكب النصر في شوارع الكويت