بين "العربي" .. و"التايم"

بين "العربي" .. و"التايم"

حديث الشهر

تجربة في الثقافة العربية .. ونظرة غربية لأحداث القرن

إنه خيط رفيع يربط بين هاتين المطبوعتين اللتين تقفان شاهدتين على أحداث قرن ماض، واحدة تنظر إليه من منظور الفكر، والأخرى من منظور السياسة.

تحتفل مجلة العربي في نهاية هذا العام بمرور أربعة عقود على صدورها، وقد كانت طوال هذه الفترة خادمة مخلصة للثقافة العربية، صدر العدد الأول من العربي في ديسمبر سنة 1958، ولم تنقطع منذ ذلك الوقت عن الصدور، إلا عاما واحدا وكان ذلك انقطاع المجبر المغلوب على أمره، فعام الانقطاع كان عام الاحتلال العراقي للكويت، وقد أصدرنا عدد أغسطس سنة 1990 وكان غلافه يحمل صورة عن استطلاع لجامعة صنعاء وقفت فيه صبية يمنية تنظر إلى المستقبل بعينين ملؤهما الأمل، تعبيرا عن اهتمام مجلة العربي بمستقبل الأمة. ولم نكن نعرف أن هناك قوى أخرى تخطط لاغتيال هذا الأمل. ووزع العدد قبل دخول القوات الغازية.. وبعد التحرير عدنا فأصدرنا بعد جهد وتحت ظروف بالغة الصعوبة عدد سبتمبر سنة 1991 فكان الميلاد الثاني لمجلة العربي الذي استمرت بعده حتى اليوم. في عام الانقطاع المؤقت للعربي عام الاحتلال والتحرير، اثناء هذا العام الطويل تذكر العالم الكويت وتذكر المثقفون العرب مجلة العربي، لأنها حملت لهم الزاد الثقافي الخالي من كل دافع أيديولوجي والموجه لخدمة ثقافة عربية صادقة بعيدة عن الدوافع الذاتية، تقدم ما هو جديد ونافع للقارئ العربي متوخية في ذلك ضمير كتابها ونبل الدافع في إصدارها.

والمجلات والمطبوعات حين تحتفل بذكرى أو تاريخ فهي تحتفل بإنجاز يجب أن يكون متحققا، فهي من بين البضائع القليلة التي لا يمكن الكذب حولها أو التمويه فيها، لأن صفحات المطبوعة ببساطة معروضة للجميع، جيل الأمس وجيل اليوم وجيل الغد الذي سيأتي، والمقارنة واردة دوما لأنها صفحات مفتوحة للمواطن والقارئ على السواء ليقارن بينها وبين مثيلاتها من المطبوعات وليستطيع أن يميز الغث من السمين. ولكن صعوبة قياس الإنجاز هنا هي أن المطبوعة حين تحتفل بفكرة أو تاريخ لا تركز على ما قامت به أو لم تقم به من أعمال، لأن نتاج الثقافة هو نتاج لا يحسب بالأرقام فهي، أي الثقافة، تراكمية لا يتذكر الواحد منا متى أضيفت إلى معارفه تلك الفكرة الجديدة أو هذه، ولا تلك المعلومة أو هذه.

أربعون عاما من العمل اليومي الدءوب لانتقاء الموضوعات والتخطيط لرحلات الاستطلاع وغربلة ما يفد بالبريد من أنحاء العالم من كتابات وتعليقات، والتخطيط لطلب نوع من الكتابات أو إشباع فكرة من الأفكار أو إثارة قضية من القضايا نعتقد أنها تهم القارئ بالدرجة الأولى، ويختلف المحررون ويتفقون، تتباعد بين وجهات نظرهم الاجتهادات أو تتقارب السبل، كل ذلك لهدف واحد هو إثارة ذهن القارئ العربي وحشده برؤى التنوير وتقديم الأفضل له، في وقت تتنافس فيه أي مطبوعة في مواجهة جيش جرار من المسموع والمرئي بكل اللغات وبكل الأشكال، ولم يمر عقد من العقود الأربعة الأخيرة في حياة "العربي" إلا وقد جاء إلى الساحة منافس جبار يأتي بقضه وقضيضه مستخدما التكنولوجيا المتقدمة في محاولة للازاحة والمنافسة، من التلفزيون الأسود والأبيض، إلى التلفزيون الملون، إلى أشكال من العرض السينمائي الرائع، إلى اخيرا البث الدولي عبر الأقمار الصناعية إلى الإنترنت. هذا التقدم الجبار الذي يخلط بين المشاهدة والقراءة وجلب المعلومة والذي يصبح شديد المنافسة للكلمة المكتوبة هو سمة العصر، لذلك فقد كان على القائمين على تسيير العربي ان يتصفوا بثلاث صفات هي العلم والإنصاف والجلد.

وبعد أربعين عاماً أستطيع القول إن مجلة العربي لم تكتف بالصمود فقط ولكنها واصلت الاحتفاظ بمكانتها في قلوب الأجيال القديمة من قرائها واحتلت مكانة جديدة في قلوب قرائها الجدد أيضا، ولعل صيغتها الأولى التي ابتكرها المرحوم الدكتور أحمد زكي لها فضل الريادة والبقاء، أضاف إليها وطور محتواها لتساير العصر المرحوم الأستاذ أحمد بهاء الدين، فالى روحيهما وإلى رجال آزروا الفكرة في الكويت لايزالون بيننا، ودعموها دائما بالكلمة والمشورة والرأي لتسير في أداء عملها على خير وجه كل التقدير. وإلى القراء العرب الذين مازالوا متابعين بأجيالهم المختلفة نتاج هذه المطبوعة الشهري بكل ترحاب وقبول. وتستقبل العربي اليوم في المتوسط الأسبوعي أكثر من ألف رسالة من القراء العرب بين متدخل في موضوع أو طالب لتفاصيل كتاب أو معلق على ما نشر أو مساهم في إحدى المسابقات، وكلها رسائل تبين مدى تواصل العربي ومطبوعاتها الأخرى، مثل العربي الصغير أو كتاب العربي، مع القراء في شتى بقاع العالم، بل ان الإنترنت أو الشبكة العنكبوتية الدولية وبعد أن بدأنا تجارب وضع العربي عليها لمن يريد ان يتصفح موضوعاتها عن بعد بدأت تأتي لنا بالعديد من الاشتراكات في مناطق نائية من العالم مثل الأمريكتين واستراليا ونيوزلندا حيث قراء العربية هناك يفتقرون إلى مطبوعات لهم ولأسرهم تجسد البعد الثقافي والروحي مع الوطن.

ومهما كانت شدة التنافس بين المطبوعات وغيرها من أشكال توزيع المعرفة، تبقى الكلمة المطبوعة والمنقولة حتى اليوم، أي تبقى المجلة، من أهم أشكال التواصل الإنساني، ومن أكثرها تأثيرا في المتلقي، خاصة تلك المطبوعات المعمرة والتي تبقى ردحا من الزمن.

لا أريد هنا تقديم جرد كامل لما قامت به العربي من خدمة ثقافية، فقد يكون لذلك مكان آخر ووقت آخر، فقط أريد ان أبين أن العربي كانت رائدة ولا تزال في الاستطلاعات المصورة، ولقد حفظت للكثير من المناطق العربية والإسلامية وغيرها سجل تطورها، فذهبت مثلا إلى المناطق الإسلامية قبل وبعد انهيار الإمبراطورية السوفييتية، وذهبت إلى بعض مناطق في الخليج العربي قبل ان تتمتع بخيرات النفط وتتغير إلى الأبد معالم بلدانها، جالت في مناطق من إفريقيا مازال بعضها مجهولا حتى الآن وفي الداخل الآسيوي بعضها لايزال بكراً، وذهبت إلى أمريكا اللاتينية وإلى بلاد أخرى لم تطأها قدم صحفي عربي، ولم تتكلم عنها ريشة قلم كاتب، فأصبح أرشيف العربي ومجلة العربي مرجعا لا غنى عنه لمن يريد ان يعرف أو يقارن، ومن خلال هذه الجولات التي لا تنقطع قدمت المجلة هذه البقاع من منظور عربي، أي أنها ناقشت كل قضايا هذه المناطق من خلال وجهة نظر عربية مفتوحة وليست منغلقة على نفسها. وقد كان الانفتاح هو نصيب الفكر دائما على صفحات المجلة فقد ناقشت الفكر الإسلامي من منظور مستنير وقدمت الأفكار والأطروحات المتميزة في هذا السبيل من دون إفراط ولا تفريط. في بعض الأوقات من جهة أخرى كانت العربي سباقة حتى على المجلات الغربية لعرض كتب غربية فوضعتها بتفاصيلها أمام القارئ العربي قبل ان يطلع عليها القارئ الغربي معروضة في مجلاته ولم تتخل عن مهمتها في إحياء الإبداع العربي والمحافظة على تطوره فقدمت القصة والشعر والمقالة لقصاصين وشعراء وكتاب كانوا مبتدئين، ولم تتخوف للحظة واحدة من التجارب الجديدة والأسماء الواعدة بل كان شرطها الأساسي للنشر هو الجدة والأصالة، وقد اثمر هذا مع العديد من الأسماء التي مافتئت أن ملأت الدنيا وشغلت الناس، فكانت العربي بذلك مسرحا لتقديم الجاد وتشجيع الجديد. ولأهمية اسم العربي اصبح البعض لا يتردد في تسمية بعض المنتجات الصناعية باسم العربي، بل صدرت جرائد ومجلات إما مشتقة من اسم العربي أو أخذت اسمها بصريح العبارة، ولكن ظلت العربي هي الأصل لأنها هي الابتكار في الشكل والمضمون، ولان العربي تصدر للعرب، وقد مرت أوطانهم بنكبات وتغيرات جذرية في العقود الأربعة الماضية، فقد عانت من شيء اسمه الرقابة على المطبوعات وعانت من خلط القضايا الفكرية بالسياسة ومن العديد من الآفات العربية الت ي تقلص بعضها ومازال البعض الآخر متواصلا.

والطموح ان تقدم العربي المزيد لعشاق الثقافة العربية الجادة والملتزمة بقواعد المعرفة والجدة والابتكار وان تعمل في عصر تتقارب فيه الثقافات كجسر لربط الماضي بالحاضر وغربلة ما ينقل لترجيح ما يعقل، والاختلاط بالثقافات الأخرى عن وعي ودراية دون انبهار أو دونية، ودون تكبر أو إكبار. لقد قدمت العربي في مسيرتها الطويلة الماضية نظرة موضوعية إلى الأمام، فكانت المطبوعة التي تنبأت بانهيار الاتحاد السوفييتي قبل أن يبدأ العد العكسي للانهيار الفعلي، وحذرت من التشرذم العربي قبل أن يصبح حقيقة شاخصة، وناقشت الاقتصاديات العربية من منظور مستقبلي، وحذرت من عواقب تراجع أسعار النفط، وخاضت في التحدي الصهيوني بكتابات كثيرة على انه تحد حضاري ومعرفي قبل أن يكون استعمارا استيطانيا شرسا، وأظهرت للعرب الكثير من المثالب في الممارسات تلميحا تارة وتصريحا تارة أخرى لأربعين عاما صادقة مع نفسها وقارئها، ولكنها أيضا قامت بارتكاب أخطاء معرفية في التوقعات ورسمت صورا انقلبت إلى عكسها بعد حين، وذلك بسبب ان من يعمل يخطئ، ومن يفكر قد يجانبه الصواب ومن يعترف بالخطأ يع ألا يتكرر والاعتراف بالخطأ من شيم وأخلاقيات التواضع.

تحتفل العربي ومطبوعاتها وأصدقاؤها بمرور أربعين عاما على الصدور، كما ان الزمن يتغير، فنحن على أبواب القرن الحادي والعشرين، نودع قرنا صاخبا بالإنجازات والاخفاقات، وتتناوله الصحافة المكتوبة بأشكال عديدة منها ما سأعرض له في القادم من الكلمات.

وتجربة أخرى

لم أبدأ الحديث هنا عن العربي إلا لكي ادرج إلى موضوع آخر يصب في نفس الاتجاه وان تغير المحتوى، وهو ما قامت به مجلة التايم الأمريكية في عددها الصادر في الأسبوع الثاني من شهر أبريل الماضي بإصدار عدد خاص عن مائة من "القادة والثوار" في العالم في مشروع مستمر لرصد أحداث القرن العشرين الذي نودعه من خلال تاريخ هؤلاء القادة والثوار. ولعل القارئ العربي يذكر أن مجلة العربي قد بادرت في يناير من عام 1996 بتقديم ملف ضافٍ عن حصاد هذا القرن الذي يعتبره الكثيرون أهم قرن في تاريخ البشرية، وهذا المشروع الذي أصدرت مجلة التايم الجزء الأول منه، هو من ستة أجزاء "بقيت خمسة" ستصدر تباعا إلى نهاية السنتين القادمتين، ستعرض فيها المجلة لكبار الرجال والنساء الذين أثروا في أحداث هذا القرن من مفكرين وعلماء وأبطال في جميع المجالات، وقد اختارت أن تبدأ بالزعماء والأبطال السياسيين المائة من وجهة نظرها، وفي نهاية المشروع ستختار المجلة رجل القرن والمفترض ان يكون الأكثر تأثيرا في أحداث قرننا الذي ينقضي، وربما يكون رجل سياسة أو ثورة أو رجل علم أو فكر، لقد تعرضت بعض المطبوعات العربية لما عرضت إليه المجلة، فتناولت ترجمة، بتوسع أو باختصار، تاريخ قادة العالم والثورات وربما قرأ القارئ الكريم بعضا من ذلك الوصف، ولا أريد هنا أن أكرر ما كتب إلا لما تقتضيه الحاجة للتدليل فقط، ولكني ارغب في ان اركز على آليات العمل الإعلامي والثقافي التي لفتت نظري في التقنيات الفنية للمراجع العامة التي قامت بها المجلة.

لماذا وكيف تم الاختيار ?

قصة اختيار الموضوع لا تخلو من طرافة، وهي تدلل على ما تستطيع المطبوعة ان تقدمه من ثقافة وفكر وتاريخ لقارئها، فقد طرحت فكرة ان تتم مراجعة أعمال وسير أبطال القرن العشرين القادة والثائرين وتأثيراتهم في مجتمعاتهم والعالم لطرحها على القراء، ولكن سرعان ما اكتشف المحررون ان بعض قصص صعود وهبوط ونضال هؤلاء الرجال لا تخلو من النجاحات والنكسات التي أولى بها ان تشكل فيلما سينمائيا رائعا، قد لا يستطيع خيال مؤلف مهما اتسع ان يأتي به، وكما قالت المجلة أنها "اكتشفت ان حياة بعض هؤلاء تشكل أفضل المشاهد الدرامية الإنسانية"، ولقد تم نقاش كثيف بين أعضاء أسرة التحرير حول من هم من القادة والزعماء الذين يشكلون أهم القادة في القرن العشرين، وكان هناك اختلاف كما هو متوقع في التقييم، لذلك أشركت المجلة قراءها في التقييم، وخيرتهم بين الاتصال بالفاكس أو بالبريد الإلكتروني فاستجاب سبعة ملايين قارئ لهذه الدعوة من بينهم حصل كمال أتاتورك على عدة ملايين من الأصوات جلها جاءت من قراء في تركيا، وهنا نشير إلى ما لوسائل الاتصال الحديثة من قوة وفاعلية، فقد قرر الأتراك أن يضعوا زعيمهم المفضل على الخارطة الدولية، وهكذا نجحوا في حشد الأصوات وتشجيع كل من له اتصال بالشبكة العالمية لوضع اسم الزعيم على الخارطة التاريخية.

قرن ينقضي وقرن يطل

منذ قرون خلت تميز القرن العشرون لمن عاشه كونه أكثر القرون إثارة وإدهاشا وفي بعض الأوقات أكثر القرون بعثا للمخاوف، ولكنه في كل الأحوال قرن فاتن ساحر لبعض سكان هذه المعمورة خاصة الغرب. صحيح ان القرن الخامس عشر كان شائقا أيضا فقد شهد عصر النهضة الأوربية، والتوسع الإسباني المزدهر في العالم، واخترع العالم الألماني جوتنبرج أول مطبعة في التاريخ سارعت في إنجاز دوران المعرفة بعد النسخ المضني، وبدا كوبرنيكوس بتعرف النظام الشمسي، وأخذ كولومبوس بنشر الثقافة الأوربية في العالم الجديد الذي اكتشفه وسمي أمريكا، وبالطبع كان هناك القرن الأول الميلادي الذي شهد ميلاد وموت المسيح، ثم لدينا سقراط وأفلاطون اللذان أتاحا للقرن الخامس قبل الميلاد أن يصبح قرنا مهما في التاريخ الإنساني، كما القرن السابع الذي شهد ظهور وانتشار الإسلام.

ولكننا نحن الذين عشنا القرن العشرين ربما كان من حظنا أننا عشنا أهم قرن من مجموع أربعة أو خمسة قرون مهمة في التاريخ الإنساني، ولنرَ المخزون من الأحداث في هذا القرن المتفجر بالاختراعات والصراعات، فقد قامت البشرية بفعل الكثير من الأشياء في هذا القرن، لقد قام الإنسان بفلق الذرة، وسخر الطائرة التي لم تكن معروفة في القرن الماضي، فأصبح بإمكانه أن يفطر في قارة ويتعشى في قارة أخرى، وصل الإنسان إلى القمر، اكتشفت نظرية النسبية، كما اخترع الترانزستور واستطاع أن يطور إلصاق الملايين منها على شريحة صغيرة لا تتعدى بصمة الإصبع، ليكون ذلك مقدمة لاختراع الكمبيوتر، وتم اكتشاف البنسلين، وسر البصمة الوراثية، وحاربت البشرية حركات مدمرة كالفاشية والشيوعية، طورت السينما والتلفزيون، بنت الطرق السريعة الممتدة بين المدن والقارات، وأحاطت العالم بالاتصال اللاسلكي والسلكي، وأرسلت الأقمار الصناعية إلى الفضاء، وهبطت على القمر، وكثير من ذلك دون حساب النتائج غير المباشرة لهذا التقدم التقني والفني، من استقبال 800 محطة تلفزيونية في جهاز واحد إلى استقبال ما لا يعد من محطات الإنترنت، القادرة على التسوق لأي بضاعة أو خدمة بضربة إصبع من أي مكان في العالم وحول العالم.

أفول القرن الغربي

من النادر أن يغرب قرن بهذا الوضوح وبهذا الانسياب، حيث أصبح بالإمكان تسجيل كل كبيرة وصغيرة وتحديد من قام بها ولماذا، ففي مطلع القرن سنة 1900 نشر سيجموند فرويد كتابه المشهور "تفسير الأحلام" منهيا فكريا العصر الفيكتوري المحافظ بقيمه العلمية المخاتلة، وتوفيت صاحبة الجلالة الملكة فيكتوريا بعد عام من مطلع القرن، بعد ثلاثة وستين عاما من الحكم غير المنقطع، وكأنها تأخذ معها إلى القبر عصرا بكامله، كانت أراضي إمبراطوريتها تحتوي على ربع سكان العالم آنذاك، ولكن حرب البوير في جنوب إفريقيا كانت مؤشرا لانتهاء العصر الاستعماري. في الصين فإن ثورة الملاكمين في بداية القرن أسرعت في إيقاظ جبار جديد هو الصين في أمريكا بدأت السيارة تستخدم كبديل للحصان، وكان 24% من العمال يعملون في الزراعة، اليوم في نهاية القرن فقط 2% من اليد العاملة تعمل في الزراعة في الولايات المتحدة، وكان متوسط العمر للمواطنين هو خمسة وخمسين عاما، اليوم وصل إلى خمسة وسبعين عاما، لم يكن العالم يعرف في بداية القرن سنة 1900 شرائط التسجيل، ولكنه كان يشهد في معارض باريس أعمال المثال فران سكوا روودن البرونزية التي صدمت العصر الفيكتوري بمباشرتها للتماثل مع الإنسان في أشكال اعتبرت فاضحة، خاصة تمثال "القُبلة"، كذلك قدمت كوداك الكاميرا السحرية في ذلك العام لاستباق عصر تصبح فيه التقنية في البداية وكأنها سحر، ثم بعد ذلك أصبحت الكاميرا أبسط وأرخص من أي أداة تشخيصية.

في ذلك العام سنت لأول مرة اختبارات القدرات للتلاميذ وبعدها تحول التعليم من الطبقة الأرستقراطية إلى القدرات الخاصة لأبناء الناس العاديين، وفي بداية القرن ذهب الأخوان رايت لتجربة طيرانهما من مدينة كتي هوك في شمال كندا، كي تجرب أول آلة أثقل من الهواء في التاريخ للطيران، لينين، وكان في الثلاثين من عمره وقتها عندما نشر أول جريدة تنادي بالثورة في روسيا، ونستون تشرشل كان في الخامسة والعشرين من عمره انتخب وقتها لأول مرة كعضو في مجلس العموم البريطاني، والعالم الفيزيائي الألماني ماكس بلنك قام باكتشاف واحد من الاكتشافات التي شكلت أحد أهم اكتشافات القرن العشرين، حين كشف أن الذرة تنتج طاقة. من هذه الجذور وغيرها تشكل مستقبل القرن الذي نودع، والتي يمكن اختصارها والإشارة إليها بطرق عديدة.

الصفات الأساسية للقرن

لن يتردد مؤرخ غربي بالإيجاب بنعم على هذا السؤال: هل هو قرن الحريات? نعم هو قرن الحريات، فإن أردت أن توجز في كلمتين نتاج العمل المضني لهذا القرن، فهما سيكونان "الحرية انتصرت" في الجانب الغربي من المعمورة، والدليل هو هزيمة أعتى فكرتين لوأد الحرية في الغرب هما الفاشية والشيوعية، واحدة هزمت بحرب شعواء والأخرى بحرب اقتصادية وإعلامية، ففي التسعينيات من القرن تكاد أن تكون الأفكار التي طورها مفكرون من أفلاطون مرورا بجون لوك إلى جيمس مل وانتهاء بتوماس جفرسون قد سادت، الحريات الفردية، الحقوق المدنية، المشاركة الديمقراطية، الاختيار الشعبي للقادة، وهي قيم تتسارع في الانتشار في كثير من المجتمعات، بجانب كون هذا القرن هو قرن الحريات، فهو أيضا قرن الرأسمالية، الديمقراطية يمكن أن توجد دون الرأسمالية، وكذلك الرأسمالية دون الديمقراطية، ولكن ليس لفترة زمنية طويلة، الحريات السياسية والحريات الاقتصادية تسير جنبا إلى جنب، هذا هو ملخص مسيرة الإنسانية في هذا القرن، في بداية القرن وضع الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت المعادلة العريضة لما تريده الحكومة من مفهوم حرية السوق، وهو تشجيع مبادرة الأفراد من جهة، في الوقت الذي تحمي فيه الجمهور من الاحتكار ـ وهو الوجه القبيح للرأسمالية ـ من جهة أخرى. أما في سنوات الرئيس فرانكلين روزفلت ـ انتخب ثلاث مرات بين عامي 1932 و1942 ـ تحدى الرأسمالية القبيحة عندما أصيبت الولايات المتحدة بالكساد العظيم ولكنه لم يلغها ولكن فقط رشد عملها وراقبها بما عرف بسياسة "الصفقة الجديدة"، ولكن بعيدا في النصف الشرقي من الكرة الأرضية اختار لينين وضع لبنة الاقتصاد الاشتراكي، الملكية العامة، وتأميم رأس المال، ومشاركة العمال، ومن أتى بعده خاصة جوزيف ستالين أشهد العالم كيف يكون التطبيق متوحشا وقسريا ومفرغا من محتواه الإنساني، وانتهت التجربة في كومة قش التاريخ، على الرغم من أن الرأسمالية سوف تستمر في مواجهة تحديات عديدة، من داخلها ومن الخارج، فإنها اليوم هيكل الاقتصاد الذي تقوم عليه معظم دول العالم، لها وجه متوحش إن أطلقت على علاتها، ولكنها كآلية مراقبة من المجتمع ومحمية بالتنافس الذي يقرره القانون، ومشتبكة مع شفافية ديمقراطية، قد تكون هي الحل الذي يقدم للإنسانية وضعا ا قتصاديا وإنسانيا مريحا.

قرن الإلكترونات

العصر الإلكتروني بدأ قبل بزوغ القرن العشرين بثلاث سنوات على وجه التحديد، بعد أن اكتشف خاصية الإلكترون عالم فيزيائي بريطاني هو سير جوزيف جون ثومس "حاز على جائزة نوبل سنة 1906"، هذا الاكتشاف قاد إلى تصنيع أول سلاح ذي تدمير شامل، والذي أسرع في إنهاء الحرب العالمية الثانية، ثم أصبح بعد ذلك الحقيقة المؤثرة وراء الحرب الباردة، وهو التفجير النووي على مدينتي نجازاكي وهيروشيما. عالم آخر استفاد من نظرية الإلكترون وهو "ألن تيرنج" الذي توصل الى اختراع كمبيوتر رقمي، قبله بخمسة قرون استطاع جوتنبرج أن يزيد باختراعه للمطبعة من سرعة نقل المعلومات إلى الضعف، وذلك قاد للإصلاح الديني وتطور حرية الأفراد، عندما سهل للأفراد الحصول على كتابهم المقدس وقراءته دون وسيط، الترانزستور والميكروتشب ضاعفا سرعة نقل المعلومات تسع مرات، والنتيجة كانت عبور البشرية من العصر الصناعي إلى عصر المعلومات.

قرن العولمة

المجتمع البشري خلال القرن تحول من القرى إلى المدن/ الدولة إلى الإمبراطورية إلى الدولة الوطنية، في هذا القرن كل شيء أصبح عالميا، شهد النصف الأول من القرن موت وانهيار النظام العالمي الذي ظل سائدا لمدة أربعة قرون سابقة، والقائم على التحالف المتغير بين الدول القومية في أوربا، وشهد حروبا عالمية متتالية الأولى ثم الثانية والثالثة كانت باردة ولم تعد صفة العالمية مقصورة على الموضوعات العسكرية بل امتدت إلى الاقتصاد حتى الثقافة، الناس في أي مكان من المعمورة مهددون بالسلاح مهما كان الموقع الذي يعيشون فيه، هم ينتجون ويستهلكون في شبكة واحدة ومترابطة من الاقتصاد، كما تتعاظم إمكانية وصولهم إلى مشاهدة نفس الأفلام وسماعهم نفس الموسيقى، وقبل ذلك المشاركة في نفس الأفكار، لقد كان هناك تغير جذري في هذا القرن عندما افتتح هنري فورد خط التجميع الأول لسياراته سنة 1913، ولم تعد السيارة الاختراع العجيب خاصة بالنخبة بل استطاع المواطن العادي ان يحصل هو أيضاً على سيارة ويختار اللون الذي يناسبه، واصبح سمة العصر هو الإنتاج الكبير والتسويق الكبير، أجهزة التلفزيون ومعجون الأسنان، المجلات وأشرطة السينما، الأحذية أو الملابس توزع أو يعلن عنها بشكل عالمي.

الوجه الآخر للقمر

الوجه الآخر للقرن هو القرن الذي مر على العالم الثالث، بعيداً عن الحضارة الغربية، أو الذي مر على الشعوب المغلوبة على أمرها، اكثر أشكال الرعب في التاريخ حدثت في القرن العشرين، مذابح ستالين وهتلر، الثورة الثقافية لماوتسي تونج في الصين، مذابح بول بوت في كمبوديا، تصفيات عيدي أمين في أوغندا، مذابح حلبجة في العراق، ومجموعة أخرى من المعاناة البشرية، والتي لا يبررها موقف شخصي لرجل أو عدة رجال، إنما هي جنون لمجموعة كبيرة من الرجال الذي عجزوا عن ان يوقفوها فشاركوا فيها وبرروها أيضا.

العرب والقرن العشرون

لم تتح مجلة التايم أي مساحة للحديث عن العرب، حتى قادتهم في القرن العشرين جاءت على القليل منهم بالإشارة لا التخصيص، وعند الحديث عن الإنجازات البشرية فان المساهمة هنا تكاد تكون معدومة ولا تذكر. من المؤسف ان تعيش ثقافة كاملة وحضارة قديمة على هامش التاريخ، وربما جاء هذا التجاهل عن قصد أو دون قصد، ولكنه في النهاية تجاهل لا يتيح الاحتجاج عليه بالصوت العالي لأن السؤال الذي يمكن ان يسأل هو أين مساهماتكم? وهي ان فتشنا عنها قليلة في المجالات الإنسانية العديدة، انه عصر العلم وعصر التقنية. وقد ركز ملف القادة والزعماء في القرن العشرين على عدة نماذج رئيسية ظفر منها التاريخ الأمريكي المعاصر بالنصيب الاكبر. فالولايات المتحدة لم تكرس نفسها لتكون قائدة النظام العالمي الجديد ولكن لكي تكون قائدة القرن العشرين أيضا. فهم يعتبرون أن الرئيس الأمريكي تيودور رزوفلت الذي تولى رئاسة أمريكا في بداية هذا القرن هو الذي جعله قرنا أمريكيا. فقد جعل بلاده في مكان مركزي بعد أن قام بشق قناة بنما وبذلك فتح بابا خلفيا للتجارة الأمريكية مع آسيا بعد أن كانت تتجه بكليتها إلى أوربا القديمة. وكذلك لعب دوراً حاسماً في مباحثات السلام بين اليابان وروسيا الأمر الذي أهله لجائزة نوبل عام 1905 وهو بذلك وضع بلاده في المكانة المركزية التي مازالت تحتلها حتى الآن. أما الشخصية الثانية فقد كان الزعيم فلادمير ألتيش لينين الذي قاد الثورة الروسية عام 1917 وأسس الاتحاد السوفييتي ثاني قوة عالمية حتى نهاية الثمانينيات. فهو أول زعيم وضع المبادئ الماركسية موضع التطبيق وحول الشيوعية إلى قوة عالمية.

وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي بعد الانقلاب الفاشل في أغسطس عام 1991 جرى استفتاء في مدينة ليننجراد حتى تعود إلى اسمها القديم سانت بطرسبرج "الذي كان قد تغير عام 1964.

وقال الكاتب برودسكي الذي كان في المنفى معلقا على هذه الأنباء: "إن من الأفضل للمدينة ان تسمى باسم أحد

 

 

 

 

محمد الرميحي

 
  




المرحوم الدكتورأحمد زكي يطلع النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد الصباح على صور العدد الأول لمجلة العربي





أحمد بهاء الدين