وداع عبر الحدود

وداع عبر الحدود

في العادة تختلف المؤتمرات عن اللقاءات العائلية ولكن التوديع الذي أعطته كلية هامشر لإقبال أحمد، في البدء من شهر أكتوبر الماضي، جمع الاثنين معاً. فكل الذين حضروا دمجوا بين العاطفة والفكرة والذاكرة.

سمي المؤتمر "معابر الحدود" وكأن هذا كان عنوان رحلتنا أيضا. ذهبنا لحضور المناسبة من كندا، انطلقنا صباح الجمعة باكرا باتجاه الحدود الأمريكية، كنا أنا وأختي مريم، وأصدقاؤنا: نادر هاشمي، نيلوفر بازيرا، سريا مقدم، وعلي رضا رهبر. نحن أيضا كان لنا عبور مميز على الحدود الأمريكية، كلنا كنديو الجنسية ماعدا علي رضا فهو إيراني. ذهبنا إلى نقطة حدود بعيدة، لأن علي رضا كان عنده ختم من مركز هذه الحدود. وكانوا قد وعدوه بتسهيل أموره في المرات القادمة، مما جعلنا نسوق ساعتين زائدة لنعبر تلك الحدود بالذات. ولكن أمور علي رضا لم تسهل ورفض دخوله إلى الولايات المتحدة، فكرنا وحللنا الوضع واتفقنا أنه لابد من محاولة عبور ثانية على نقطة أخرى. وقررنا أن هذه المرة لن نركز على هوية علي رضا الإيرانية وإنما سنقول إنه مهاجر فارسي. مريم قالت إن موظف الحدود سيقول آه! بلد آخر لا أعرفه على الخريطة، على أية حال أظن أن الإنسان الأمريكي المتوسط يعرف أسماء ثلاثة بلاد: أمريكا، إيران وكوبا، وهما العدوان اللدودان اللذان لاتستطيع أمريكا نسيانهما. أما بقية العالم فإنه، في ذهن الأمريكي، غامض متداخل، وفي المحاولة الثانية استطعنا عبور الحدود. عند دخولنا الولايات المتحدة لم تتغير الطبيعة من حولنا. ظل الخريف محيطا لنا بألوانه المتقلبة والدافئة، اسم الدولة هو الذي تغير فقط.

مما يؤكد قدرات الأمريكي الجغرافية، حتى في اللحظات البريئة، هو ما حصل معنا لاحقاً. بعد دخولنا الحدود الأمريكية، توقنا لأخذ استراحة عند مطعم. قسم منا أكل وقسم خرج وصلى أمام السيارة. وبينما كان نادر يصلي في النهاية، اقتربت منه امرأة أمريكية وهتفت: "من أين أنتم؟" فقال لها نادر من أوتاوا. فابتسمت وقالت: أم.. أنا أيضاً ذاهبة إلى ألاسكا الأسبوع القادم. هل أوتاوا قريبة من هناك؟ ربما أنها ظنت أن الكنديين معظمهم مسلمون أيضا. عندها ذكرت لنا سريا أنها عندما كانت تقوم بفترة تدريب في كلية الطب في جامعة هارفارد، سألها أحد الطلبة الأمريكيين من أين هي؟ وعندما ذكرت له أنها من أوتاوا، هز رأسه وقال إنه لم يسمع بهذه المدينة من قبل. فقالت له: إنها العاصمة الكندية. فهز رأسه مرة أخرى وقال إن الاسم لايزال غريباً عليه.

البطل الفكري

ومن جهل الجغرافيا دخلنا إلى جغرافيا فكرية أخرى عندما وصلنا إلى المؤتمر. الكلمة الافتتاحية مساء الجمعة كانت لنعوم تشومسكي. وكما قالت عميدة جامعة هامشر، عند تقديمه، تشومسكي لايحتاج إلى تعريف، فهو من أشهر شخصيات أمريكا برغم تهميش الإعلام له. ظهور تشومسكي لايحتاج إلى دعاية، قالت عميدة الجامعة، لأن الإعلان يتم من فم إلى فم وعبر خطوط الهاتف والبريد الإلكتروني.

وبالفعل لايظهر تشومسكي في أي مدينة في شمال أمريكا إلا ويتقاطب الآلاف لسماعه. ويتجمع حوله الطلبة كالمريدين بعد انتهاء محاضرته. كالنحل أحياناً. وهذا ما حصل تماماً في كلية هامشر. البعض كان يريد الحديث معه، والبعض يريد الاقتراب وآخرون يريدون استراق نظرة من بطلهم الفكري.

وتشومسكي بابتسامته الهادئة ووجهه البشوش ظل يتكلم معهم الواحد تلو الآخر إلى أن بدأ منظمو البرنامج بسحبه. القاعة كانت غاصة بالحضور. تحدث تشومسكي عن مفهوم الاقتصاد الحر والتنافس العالمي وكيف فرضت الدول الاستعمارية هذا المفهوم على مستعمراتها بينما كانت تحمي صناعاتها المحلية. واستشهد بصناعة النسيج في إنجلترا. قال إن الإنجليز شعروا أن النسيج الهندي يدخل إلى السوق الإنجليزية بأسعار أرخص فتدخلت الحكومة البريطانية، والتي كانت تؤيد التنافس التجاري الحر، ووضعت قيوداً على المستوردات الهندية لحماية النسيج البريطاني المحلي. وطبعاً هذه المناقشة من طرف تشومسكي مهمة. فنحن الآن في عصر الجات والنافتا والتجمعات الاقتصادية الكبرى.

وذكر أيضا أننا يجب أن نقارن وندرس تواريخ الاستعمارات المختلفة. وكمثال قارن تشومسكي بين اليابان والغرب وقال إن اليابان، برغم شراستها في الحرب وقساوة معاملتها لمساجين الحرب، طورت مستعمراتها إلى نفس درجتها في الصناعة والتعليم في حين نهب الغرب مستعمراته. وركز على النظر إلى النتائج التاريخية دون نبذ وتحيز. وهذا كلام قوي في وسط أمريكي، لأن الأمريكي يشعر أنه إنساني مقارنة بالياباني المتوحش. كان عندي أستاذ أمريكي في قسم الصحافة في أوتاوا يقوم بتبرير رمي القنابل الذرية على اليابان. كان يقول: رغم الخسائر، فإن مصير العالم كان سيكون كالحا لو أن اليابان تسلم القيادة. وكان يضيف أن العالم لايقدر كم هو محظوظ بقيادة أمريكا له. أظن أن تشومسكي سيعارض مثل هذا المديح لأمريكا. تلك الأمسية مع تشومسكي في أكبر صالة رياضية في الجامعة أنعشتنا برغم السفر الطويل ومشاكل الحدود. فنحن الآن في حدود فكرية أخرى مع أهم سواري المهتمين بقضية الإنسان المستضعف. وكل هؤلاء الأعلام حضروا لتوديع إقبال أحمد الذي تقاعد من تدريس العلوم السياسية في كلية هامشر، والتابعة لجامعة أمهرست، ليعود إلى الباكستان لافتتاح جامعة الخلدونية "تيمناً بابن خلدون" في إسلام أباد. إقبال قدم الكثير في حياته لخدمة الدول المستضعفة وخاصة العالم الإسلامي. إحدى المحاضرات قالت إنها سألته عن تخصصه عندما تعرفت عليه في تونس، فقال لها إن تخصصه يمتد من إندونيسيا إلى المغرب.

رجل مهم في هذا القرن

عمل إقبال أحمد أستاذاً وصحفياً ومستشاراً للعديد من مهام الأمم المتحدة. وتطوع لقضايا عديدة، ساعد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. وفي السنوات الأخيرة حاول الكثير لمساعدة البوسنة.

بدأ النهار الثاني صباح السبت بأغنية من إحدى طالبات الجامعة. وكانت كورا وايز المتحدثة الأولى.

كورا وايز، والتي هي صديقة لأحمد ورئيسة مؤسسة صاموئيل روبن ونائبة مكتب السلام العالمي، لخصت شخصية إقبال أحمد في قصة خيالية. فقالت إنها كجدة تروي لأحفادها قصصاً طويلة. قالت إنها الآن ستروي لهم قصة عن أناس مهتمين في قرن جديد لم يحدد بعد. هؤلاء الناس بعد أن انتبهوا إلى أن الأمم المتحدة العظيمة انكمشت إلى مؤسسة صغيرة للعون المالي بحثوا عن قائد جديد، فبحثوا كثيراً حتى قيل لهم إن هناك شخصا متميزا، إنسانيا، فريدا، دافئا، حيويا بنزاهة لاتمس، لايغير سياسته ليماشي الرياح، معلما رائعا، ومحنكا سياسيا أنضج الكثير من المريدين، طباخا ماهرا وأبا حنونا، فقرروا أن يقطعوا البحار ليصلوا إليه ورأوا المخلفات النووية تتقاذفها الأمواج ومشوا فوق أراض مليئة بالألغام، حتى وجدوه، وهناك لقوه ينظر في أرض خالية يفكر ببناء جامعة عليها. كانوا سمعوا عن مساهمته للأمم المتحدة في انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان ومساهماته مع الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي. فقرروا إحضاره للأمم المتحدة. وتابعت كورا وايز قصتها واصفة الأمور التي سيغيرها إقبال أحمد في العالم. قالت إنه سيضع النساء في نصف مراكز الأمم المتحدة لأنهن نصف سكان العالم، وأنه سيضع حداً بعد الملياريين للأغنياء، لأنها لن تفرق عليهم كثيراً بعد المليارين.

وقالت إنه سيلغي حق الفيتو وسيوقف التسلح ويضع مادة السلام وحل النزاع في جميع مدارس العالم مع الرياضيات والقراءة. وتابعت قصتها وتحدثت عن أمور أخرى. ثم في النهاية قالت وهكذا يا أحفادي ناموا الآن واحلموا أحلاماً كبيرة. نالت كورا وايز بعد محاضرتها "الأحلامية" الكثير من التصفيق والضحك والصفير. استطاعت كورا وايز أن تذكر الحضور بقضايا ملحة في الوقت الذي قامت به بمدح رقيق لإقبال أحمد.

خلال المؤتمر كله غلب الجو العائلي وكان من الجميل أن يرى المرء الكتاب والمفكرين، الذين نعرفهم من خلال كلماتهم المطبوعة على صفحات الكتب الصامتة. وهم يروون القصص والنكت ويعودون بذاكرتهم إلى أيام الشباب وأيام النشاط والوقوف ضد حرب فيتنام.

بعد كورا وايز تحدثت سارة سلري، مدرسة الأدب الإنجليزي في جامعة ييل. وهي بذكائها الحاد وتلاعبها بالكلمات أضاعت بعض أفراد الجمهور. تحدثت سلري عن "صحة الأدب الهندي". وهذا الموضوع مطروح في الفترة الأخيرة في العالم الأنكلوفوني. فقبل فترة حرر سلمان رشدي أحد أعداد المجلة الأمريكية The New Yorker، وتناولت المقالات فيها الازدهار الذي شهده الأدب الهندي في العقود الأخيرة. قالت سلري: لقد مللنا من رشدي. دعونا لا نتحدث عنه فهو أصلا يعيش في الغرب ويكتب بالإنجليزية. ابتسمت ثم أضافت وكل هذه الصحة الهندية التي نتحدث عنها بالإنجليزية، ثم قالت بما معناه بأنه إذا كانت الصحة هي تتابعا للأثر الاستعماري فهي تريد المرض وإذا كان النجاح بلغة المستعمر فهي تريد الفشل. وفي نهاية كلمتها تحدثت سلري عن إقبال أحمد واختتمت بالقول: لقد كان إقبال أحمد فشلاً رائعاً ومتألقا. بعض الذين لم يتابعوا هذه التحليلات والتلاعب بالكلمة غصوا عند كلمة "الفشل" كانت سيدة مسنة تجلس بجانب سريا فسألتها: ماذا كان هذا كله؟ سريا الطيبة لم تستوعب ماذا كان هذا كله وقالت لها: أنا أيضا مر كل هذا الكلام فوق رأسي. ثم في فترة الاستراحة جاءت سريا إليّ وقالت: أريد أن أسأل واحدا منكم، من مخيم الإنسانيات، ماذا كان هذا كله؟ فأعطيتها تفسيري. ابتسمت وقالت مديحا مبدعا.

الجميل أيضا في هذا التجمع أنه جمع بين اختلاف الناس وتمايز الأساليب. في العادة تجمع المؤتمرات أدمغة تتابع سيمفونية واحدة بينما هذا الوداع لإقبال أحمد مزج بين إيقاعات مختلفة. ولكن ربما يستطيع المرء أن يقول إنه برغم اختلاف الموسيقى فالكل كان يغني أغنية واحدة، أغنية الإنسان المستضعف. رغم أن بعض الناس مثل السيدة المسنة لم تفهم سلري فإني أطرب لمثل هذا المزيج من الجاز الفكري.

كان نهار السبت لايزال في بدايته مع هاتين الكلمتين. كانت أوراق الخريف تحيط الجامعة من جميع الاتجاهات، وبألوان تتدفق من الأحمر الغامق إلى الأصفر المضيء إلى بقية إخضرار لم تقض عليه النسمات الباردة بعد. كأن هذا التدفق اللوني كان يعكس ما يحدث داخل القاعة في كلية هامشر.

بصراحة كنا متشوقين لكلمة ادوارد سعيد ولكن دوره كان قريبا من الختام وكأنهم أرادوا أن يكون ختامها مسكا. بعد سلري تحدث ستيوارت شار، مدرس التاريخ في كلية بروكلين والمقيم حاليا في تونس. قال إنه أراد أن يقدم هدية لإقبال أحمد فأنهى ورقة بحث كان الاثنان قد بدآ كتابتها قبل عدة سنوات. ورقة بحث شار كانت عن المفكر التونسي المغمور الطاهر حداد. ستيوارت شار وإقبال أحمد نبشاه من تحت ركام النسيان. الطاهر حداد كتب في موضوعين مهمين: المرأة والاقتصاد. استعمل خصومه كتابه"امرأتنا في المجتمع والقانون" لمهاجمته. ولكن شار قال إنه هو وإقبال أحمد اكتشفا أنه همش لاتجاهه اليساري السياسي لأنه تحدث في قضايا إصلاحية ومن وجهة نظر شرعية. وآراء حداد في المرأة كانت مجرد عذر لتهميشه. كان أول مرة سمعت فيها عن الطاهر حداد السنة الماضية عندما جاء إقبال أحمد إلى أوتاوا وتحدث عن المصلحين: محمد إقبال، وفضل الرحمن، ووضع معهما الطاهر حداد. اعتبرهم إقبال أحمد نموذجا للمصلح الذي عنده نظرة مستقبلية ولكنه ينطلق من أرضية إسلامية. واعتبر أحمد أن هذا هو النموذج الذي يحتاج إليه العالم الإسلامي. وستيوارت ركز على أهمية إعادة اكتشاف أمثال هؤلاء المغمورين وعنده نظرية لشرح الأسباب وراء تهميشهم وذكرها في المحاضرة. قال: إن فكر هؤلاء النماذج كان متقدما جدا عما حولهم فلم يفهم عليهم بل وضعوا على الجانب وهمشوا. وهذا جعلني أفكر بمالك بن نبي، أيضا من شمال إفريقيا وأيضا مغمور. كان مالك بن نبي أول من بدأ بتحليل وضعية ما بعد الاستعمار، وكان هذا في الخمسينيات. في فترة الاستراحة سألت ستيوارت شار أكثر عن الطاهر حداد وذكرت له عن مالك بن نبي فأجاب بحماس بأن هذا أيضا ما حصل لمالك بن نبي وقال إن تفكيره كان سابقا للعصر الذي عاش فيه.

دموع إدوارد سعيد

وكان من المتحدثين محمد الجسوس، أستاذ في العلوم الاجتماعية في جامعة محمد الخامس في الرباط، وهو صديق قديم لإقبال أحمد منذ أيام الشباب. تقاسما السكن والطعام أيام الدراسة الجامعية واسترجع الجسوس بعضا من ذكرياتهما كطلبة. قال إنه كان هو المسئول عن التنظيف بينما تولى إقبال أحمد مهمة الطبخ وكيف أنه في أحد الأيام أراد أن يتشاطر فعمل طبخة ووضع توابل كثيرة من التي رأى أحمد يستعملها. ضحك قليلا ثم قال إن النتائج كانت "حادة" بالمعنى الحرفي للكلمة. استجاب الجمهور لهذه الذكريات وللكنته العربية الفرنسية بالتصفيق والاستحسان. في محاضرته تحدث الجسوس عن مسئولية المفكر والالتزام السياسي. اعتبر أن المفكر لايستطيع أن ينسحب من المجتمع بل عليه مسئولية الارتباط بما حوله. ذكر أيضا أن هذا الزواج بين الفكر والسياسة يمكن أن يؤدي إلى نتائج فاجعة في بعض الحالات واستشهد بمالكوم إكس وتشي غيفارا. ثم قال يمكن أن يكون الالتزام بطرق غير فاجعة ولكنه لم يوضح تماما كيف.

لا أظن أننا نستطيع الحكم على درجة الفجاعة بمقتل المفكر أو صاحب الحركة. فمارتن لوثر كينج قتل أيضا بشكل فاجع برغم أنه لم يحمل أفكارا فجاعية. فلربما يجب أن ننظر إلى فجاعة الأفكار وليس إلى فجاعة نهاية صاحبها، لأنه في المقابل مات مفكرون بسلام بينما أنتجت أفكارهم الكثير من الفجائع، ويخطر في بالي فرانس فانون، فرغم عبقريته في التحليل النفسي للمستعمر وإخلاصه في دعم الثوار الجزائريين في حرب التحرير فإن نظرته للعنف أدت إلى كوارث في عدد من بلاد مابعد الاستعمار في إفريقيا.

كلمة إدوارد سعيد كانت في فترة مابعد الظهيرة وكانت مؤثرة للغاية. قال سعيد: إن إقبال أحمد تعاطف دائما مع العالم العربي وساند الهوية العربية، لأنها في نظر إقبال هوية غير مبنية على العرقية والقومية وإنما هي هوية مفتوحة لكل من ينطق العربية ويتفاعل مع تاريخها. ركز سعيد على تضحيات إقبال أحمد في سبيل القضية الفلسطينية وكيف وقف مع الفلسطينيين في أحلك الظروف. فقال: كان إقبال أحمد الشعلة المضيئة لشعبنا في أوقات عم فيها الظلام. وهنا أخذته العبرات وتوقف عن الحديث، نظرت باتجاه إقبال أحمد فوجدته يبكي أيضا. كان منظرا يدعو للتأثر. رجلان قدما الكثير من حياتهما فكريا وسياسيا. وها هما الآن واحدهما يعطي ثناءه للصديق الذي يتقاعد. ذكر إدوارد سعيد أن القضية الفلسطينية لاتجزي عاطيها، فهي شائكة ومعقدة ومتطلبة. ثم روى لنا أنه قبل سنوات، في لقاء لهما هو وإقبال أحمد مع ياسر عرفات، اقترح إقبال أحمد على عرفات ومن حوله من القيادة الفلسطينية أن يتجه الفلسطينيون من كل الحدود حول إسرائيل ومعهم لافتات تقول: لانريد قتل أحد، نريد فقط العودة إلى بيوتنا. وذكر إدوارد سعيد كيف أن وجه عرفات امتلأ بالذعر بمجرد سماع هذه الفكرة.

يبدو أنهم لم يدركوا أصلا معنى هذا أو القوة الكامنة في تحريك الشعب سلميا. وها نحن الآن بعد سنوات من مفاوضات ومواثيق سلام خائب. ومع معاهدة أوسلو والتي تعادل وثيقة استسلام يشعر الإنسان العربي بالأسى. لقد قضى هذا كله على روح الانتفاضة.

دموع إدوارد سعيد "والذي سمعت أنه لم ير دامعا من قبل" لخص الأسى الذي نحن فيه. فمفكرونا المتصلون بالعالم قلائل ومعزولون. وشعوبنا قصعة تتآكل عليها الأمم.

كان النهار حافلا. بدأنا من التاسعة صباحا وانتهينا قبل منتصف الليل بساعة.

في أواخر العصر، تحدث هاورد زن، المؤرخ الأمريكي المعروف. وهو أيضا كاتب مسرحي إضافة لكونه أستاذ تاريخ في جامعة بوسطن. كنت سمعت أنه قصصي بارع، خصلة ممتازة لمؤرخ، لكني لم أتخيل أنه محدث رائع إلى هذه الدرجة. فزيادة على سرورنا برؤيته شخصيا، وجدنا أنه أخذ بلب الجمهور، براعته في حبك التفاصيل، أسلوبه الفكاهي وقدرته على خلق عنصر الإثارة استحوذ على ذهن الحاضرين.

تحدث هاورد زن عن أيام الستينيات والنشاط ضد حرب فيتنام. وتذكر بعض القصص التي جمعته بإقبال أحمد. تحدث عن مساعدته مع إقبال أحمد لدان بيريجان في الاختباء من عناصر المباحث الفيدرالية في أمريكا. دان بيريجان وفل بيريجان مع راهبة معهما حكم عليها بالسجن غيابيا مع مجموعة أخرى من المنظمين للمعارضة ضد حرب فيتنام. وطلب منهم الحضور إلى مكان محدد لتسليم أنفسهم. "ولكن لم يأت الثلاثة" قال هاورد زن مع ضحكة خفيفة. وتابع: قرروا ألا يأخذوا سقراط قدوة، فهم شعروا، على عكس سقراط، بأنهم لايدينون للدولة بشيء. ثم أضاف أنه برغم اختباء دان بيريجان فإنه كان يظهر على التلفزيون ويعطي الخطب في الكنائس. فطلب من هاورد زن وإقبال أحمد أن يساعداه في فترة الاختفاء، وطلب منهما الالتقاء بدان بيرريجان في كنيسة في نيويورك والتي سيلقي فيها بيريجان خطبة. عندما وصلا إلى الكنيسة، قال هاورد زن، كان هناك حوالي 005 شخص، اكتشفوا فيما بعد أن مائة منهم كانوا من عناصر FBI، قال هاورد زن بأنه يظن أن هؤلاء المائة كانوا الأكثر حرارة وتفاعلا لأن هؤلاء يأخذون دورات في التصفيق. واستطاع هاورد زن وإقبال أحمد مساعدة بيريجان لأربعة أشهر أخرى حتى قرر أن يذهب إلى جزيرة صغيرة برغم تحذيرات زن وأحمد له. وهناك على الجزيرة استيقظ دان بيريجان في أحد الأيام ليجد كوخه الصغير محاطا بعشرات الرجال بمعاطف المطر. فقال لهم: ماذا تفعلون هنا؟ فقالوا له: نراقب العصافير. وهنا ارتسمت ابتسامة عميقة على وجه هاورد زن وقال: كما ترون كانوا يرقبون عصفورا واحدا، وكان هذا العصفور هو دان بيريجان. ثم قال لنا إنه لايزال يحتفظ في مكتبه بالصورة التي أخذها الإعلام عند وصولهم من الجزيرة. وقال إنه في الصورة يظهر دان بيريجان بين اثنين من رجال FBI وعليهما علامات الغثيان بعد رحلة القارب من الجزيرة وبينهما دان بيريجان وعلى وجهه ابتسامة كبيرة.

هكذا كانت هذه الأيام، قال هاورد زن بنوع من الحنين عندما أنهى سرد مغامراته مع إقبال أحمد، ثم في الختام نظر باتجاهه وقال: إذا كان إقبال أحمد ساهم في أمور عظيمة وحرك الكثير من الأمور في أمريكا، فلماذا سيغادر الآن؟

العودة إلى البيت

وفي النهاية عندما جاء دور إقبال أحمد قرر أن يعطي الميكرفون لأصدقائه الذين حضروا من الباكستان للمشاركة في الحفل التوديعي. ووقف صديقه، الطبيب المسن، عند المنصة وقال: نحن عندنا تقليد في الباكستان في الأعراس. وشرح لنا كيف يودعون العروس من الباب الخلفي للمنزل ليعني أن الباب الأمامي مفتوح لها دائما. وقال إن العروس في أول زيارة لأهلها، يذهب بعض أفراد عائلتها لدعوتها حتى لاتقول عائلة الزوج: لم تذهبين؟ لم يأت أحد لإحضارك. نظر الطبيب المسن إلى الجمهور وقال: نحن أيضا جئنا لنأخذ إقبال أحمد إلى بيته. ثم نظر باتجاه هاورد زن الذي كان الآن يجلس مع الجمهور وقال: خفت أن تقول لإقبال أحمد "ابق هنا، فلم يأت أحد لإحضارك". ضحك الجميع لهذا التشبيه اللطيف. بعدها تحدث أصدقاء آخرون أيضا ببلاغة وركزوا على احتياج الباكستان الآن لإقبال أحمد. فيما بعد علق صديقنا عمران أن إقبال أحمد أراد بهذا أن يري أصدقاءه الأمريكيين لماذا هو عائد وليروا من ينتظره هناك.

بعد أصدقائه تحدث إقبال أحمد قليلا وذكر جامعة الخلدونية وروى لنا قصة عن أحد الصوفيين، قال: كان الصوفي واقفا على حافة المحيط وكان يضع اللبن في مياه المحيط. فسأله من حوله: ماذا تفعل يا شيخ. فقال الصوفي: اصنع لبنا. فقالو له: ولكن هذابحر واسع ولن تستطيع أن تحوله إلى لبن. فرد عليهم الشيخ: ولكن إن نجحت فسيصبح عندنا لبن كثير. توقف إقبال أحمد لبرهة ثم قال مع ابتسامة عميقة: إن نجحت الخلدونية فسيصبح عندنا لبن كثير.

في فترة المساء تحدث عدد من طلاب إقبال أحمد ونوهوا بمسانداته لهم وبعضهم بكى مع الذكريات وتحيات التوديع. كذلك ألقى بعض أصدقائه الشعر في فترة العشاء.

بقينا حتى انفضت السهرة وعدنا إلى الفندق منهكين ولكن في نفس الوقت محلقين فكريا. ولكن كان علينا العودة إلى كندا فقررنا أن نقوم ونتحدث عن مؤتمر معابر الحدود في طريق العودة ونحن نعبر الحدود الكندية ـ الأمريكية.

وأردت بالكتابة عن هذا المؤتمر أن أعبر المحيطات الطبيعية. فنحن الآن نعيش في عالم ربما يجب أن نرسم حدوده بخرائط فكرية.

 

عفراء جلبي

 
  




اقبال أحمد عندما جاء دور للتحديث





لقبلا أحمد بين نيلوفر بارزيرا وعمران قريش





نعوم تشومسكي محاطا بالطلبة وأقصى اليمين يظهر اقبال أحمد





إدوارد سعيد وهو يقدم كلمته