من "جيوبوليتيكا".. ما بعد الحرب الباردة!

من "جيوبوليتيكا".. ما بعد الحرب الباردة!

يكاد يكون من الصعب ترجمة كلمة "جيوبوليتيكا" إلى العربية، فهذه الكلمة منحوتة من دمج الكلمتين اللتين تعنيان الجغرافيا والسياسة. وترجمتها إلى الجغرافيا السياسية أو السياسة الجغرافية لايؤدي معناها تماما، وكل ما نملكه هو تصور معناها بأنها السياسة المبنية أساسا على عوامل جغرافية.

إن الحرب الباردة، أوالصراع بين المعسكرين الكبيرين بعد الحرب العالمية الثانية، قد غطى على الجيوبوليتيكا بما انطوى عليه من اختلاف مذهبي كبير كان هو المحور الأساسي للصراع، ما بين المعسكر الغربي الديمقراطي الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق، الذي انتهت الحرب الباردة بانهيار المعسكر المذكور، وتبديل نظامه السياسي والاقتصادي ليقترب من النموذج الغربي، بما في ذلك حل الاتحاد السوفييتي ذاته، حيث كانت الاشتراكية هي أساس توحده، بديلا عن الإمبراطورية الروسية في عهد القيصرية.

وكان أوضح نتائج حل الاتحاد السوفييتي، الذي كان من المتصور نظريا أن يبقى متحداً مع تبدل نظامه السياسي والاقتصادي باتفاق جميع أو معظم الجمهوريات المكونة له، أقول كان أوضح هذه النتائج هو ظهور الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها القوة الكبرى الوحيدة في النظام العالمي الجديد، بعد زوال القوة الأخرى التي كانت تناوئها.

حليف ينهار وآخر يبقى

ومن موقع الانهيار الذي لحق بالمعسكر الاشتراكي في شرق أوربا، اختفاء حلف وارسو الذي كان يضم مختلف أو معظم دوله الأوربية، بما في ذلك الشطر الشرقي من ألمانيا، الذي تحرر من الوجود العسكري السوفييتي، وترك ليتحد من جديد مع سائر ألمانيا، أو ما كان يعرف باسم ألمانيا الاتحادية، أو ألمانيا الغربية. وبعد أن كان متصورا نظريا أيضا أن انتهاء الحرب الباردة، وزوال انقسام العالم إلى معسكرين على أساس مذهبي، يمكن أن يكون من نتائجه اختفاء كلا الملفين المتقابلين في أوربا، فيذهب حلف الأطلنطي مثلما ذهب حلف وارسو، إلا أن المعسكر الغربي الذي لم يلحقه الانهيار مثل خصمه الشرقي، آثر الاحتفاظ بحلفه، وأكثر من ذلك سعى إلى توسيع هذا الحلف لكي يضم دولا من شرق أوربا، كانت جزءا من المعسكر الاشتراكي المنهار، ومن حلف وارسو المنتهي، بما في ذلك بولندا ذاتها التي كان الحلف الأخير يحمل اسم عاصمتها! ولم تدع روسيا إلى الانضمام إلى حلف الأطلنطي، وإنما دعيت للتنسيق معه فحسب! بينما ظهر ضم الدول التي تقع في شرقها، بما في ذلك دول كانت أجزاء من "اتحادها السوفييتي" الذاهب، وليس "معسكرها" الاشتركي فحسب، ظهر هذا الضم وكأنه موجه إليها على أسس "جيوبوليتيكة" تنطوي على تصور مصالح جديدة "للضامين" من أعضاء الحلف القدامى، ومنضمين من الجدد، فمن مصلحة القدامى وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، أن يصبح انضمام أعضاء جدد بمنزلة توسيع سوق السلاح الغربي، الأمريكي أساسا، على حساب صناعة السلاح الروسية التي حرمت من سوقها في أوربا، وقديما قالوا: "ويل للمغلوب"، وظهورها بمظهر المغلوب في الحرب الباردة، يجعلها تستحق هذا المصير الذي لم تستطع أن تخفي استياءها منه! أما أعضاء الحلف الجدد فهم يتمنون أن يكون هذا الإلحاق العسكري مقدمة للالتحاق بالتقدم الاقتصادي والرفاهية التي تنعم بها الدول الغربية، والذي تتمناه وتسعى إليه روسيا ذاتها بعد تبدل نظامها، لذلك لاتستطيع أن تتجاوز حد التعبير عن الاستياء إلى درجة الرفض الصريح والإصرار عليه والتحدي به، مثلما كان أيام كانت دولة كبرى مناوئة!

ولكن الجيوبوليتيكا حولت روسيا إلى الاتجاه المضاد جغرافيا، وهو شرقها، حيث تقع الصين على حدودها الشرقية الجنوبية، فتحقق في الآونة الأخيرة ما يسمى تقارب استراتيجي بين الدولتين، لاتخفيان في بياناتها الرسمية، أن من أهداف هذا التقارب إنهاء وضع "القطب الواحد" الذي يرسم سياسة العالم، وواضح أن المقصود بذلك هو الولايات المتحدة الأمريكية! ومن أهم إنجازات هذا التقارب إنهاء الخلاف بين الدولتين على الحدود، وهو الخلاف الذي كان مستحكما ووصل إلى حد الصدام العسكري ما بين الدولتين في العهد "الشيوعي" لكل منهما! وينطوي على مبادلات اقتصادية واسعة النطاق تشمل من بين ما تشمله صناعة السلاح، والبترول والغاز الطبيعي ومد أنابيب قد تصل إلى اليابان، لو تم التفاهم معها هي الأخرى من جانب الروس حول جزر كوريل المتنازع عليها في المحيط الهادي. ومن بين عناصر التعاون ما بين روسيا والصين السماح لهذه الأخيرة بالاستثمار في مجال الزراعة في أراضي سيبيريا الشاسعة التي تكاد تكون خالية من السكان! ويتوقع بعض المراقبين أن ينطوي هذا المشروع على تدفق مئات الملايين من الفلاحين الصينيين على هذه البقعة الشاسعة من العالم لإنشاء حضارة زراعية صناعية فيها، تكاد تكون أخطر تحول ديموغرافي ـ أي سكاني ـ جيوبوليتيكي في العالم!

هوة الخلاف

ومن الغريب أن المطالبة بالسماح للفلاحين الصينيين باستثمار أجزاء من سيبيريا، كانت قديمة من أيام العهد الشيوعي في الدولتين، وكان "السوفييت" يرفضونها بشدة، برغم أن الصينيين كانوا يعتبرونها مطلبا مشروعا في مفهوم "الدولية البروليتارية" لإطعام الملايين من أبناء الشعب الصيني. وكانت تلك أحد عناصر الصدام بين الدولتين في الماضي، وكان الانشقاق بين الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية حول هذه المسألة ـ وسواها ـ هو أكبر إسفين دق في كيان ما يسمى بالمنظومة الاشتراكية في العالم، وكان محل جدل المعسكر الغربي والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة، ولم تبخل هذه الأخيرة على الصين بالتعاطف معها توسيعا لهوة الخلاف بين الدولتين الشيوعيتين الكبيرتين حتى صار صراعا سافرا لاشك في أنه كان معول هدم رئيسيا أفضى مع عوامل أخرى لانهيار المعسكر المذكور! ولا ندري ما يكون عليه موقف المعسكر الغربي من هذا التقارب الذي صنعته الجيوبوليتيكا ما بين الفريقين اللذين "فرق" بينهما المذهب الواحد في الماضي القريب!

إن روسيا قد اضطرت طلبا لإنهاء الحرب الباردة وسباق التسلح الذي كانت على وشك أن تخسره تماما إلى التخلي عن منطقة نفوذها في شرق أوربا، التي يزحف عليها النفوذ الغربي الآن ويلفها في عباءة "الأطلنطي"، واضطرت إلى التخلي عن "اتحادها السوفييتي" لأسباب ديموجرافية، مؤداها أن معدل المواليد في الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى، كان يبلغ ثمانية أطفال للأسرة الواحدة، بينما كان المعدل المقابل هو طفلا واحدا للأسرة في الجمهوريات الأوربية السلافية وعلى رأسها روسيا! ومعنى ذلك على حد ما ذكر الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في واحد من كتبه: إنه لو بقي الاتحاد السوفييتي إلى القرن الحادي والعشرين لأصبح المسلمون أغلبية فيه!

وعقب نيكسون على ذلك بقوله: وهذا ما لايمكن السماح به! ومعنى ذلك أن حل الاتحاد السوفييتي كان متفقا عليه بين أصحاب "المصالح العليا" في كلا المعسكرين!

فهل تكون دعوة الصينيين إلى استثمار سيبيريا وربما توطنها، بمئات الملايين من باب "فإن كنت مأكولا فكن خير آكل"؟! على أن هذا التقارب، بين روسيا والصين لايغفل أمر مسلمي آسيا الوسطى، أو التركستان كما كان يعرف تاريخيا، حيث إن لهذا التركستان امتداده في المنطقة المعروفة باسم سنكيانج الآن في الشمال الغربي للصين، وكانت تعرف باسم التركستان الشرقية، ويجري العمل على احتواء هذا التركستان كله في إطار التقارب المذكور قبل أن يئول إلى النفوذ الغربي من خلال تركيا التي تسعى لاحتوائه في إطار طوراني، أو يئول إلى اتحاد إسلامي، لايزال ـ مثل التوحد العربي ـ في إطار الأحلام فحسب!

 

 

 

 

عبدالرحمن شاكر