كيف نرى التاريخ؟

كيف نرى التاريخ؟

معركة فكرية بين أشهر مؤرخين

هل الشرق منبع الحضارة والدين، أم أن المنابع كامنة في مكان آخر؟ هذا هو السؤال الذي حاول المؤرخان مارييت ورينان الإجابة عنه بسبل مختلفة.

"أرنست رينان"، رجل فكر جعل التحامل على الشرق رسالته. وسعى بالدراسة الجادة مع البراعة العقلية والمنطقية إلى إثبات ما قرره مسبقا من عظمة الحضارة اليونانية، وانحطاط حضارة الشرق. من أشهر مؤلفاته "ابن رشد والرشدية" و"حياة المسيح"، رغم عدم إيمانه بالاثنين! أهمية ابن رشد بالنسبة له هي في محاولة فهم فلسفة أرسطو، وأهمية المسيح في نظره تنبع من أهمية الأديان للجماعات كحدود أخلاقية، وليس كإيمان بوحدانية.

زار الشام في بعثه تنقيب، وعرج على مصـر عام 1861 ليكتب كتابه "حياة المسيـح"، ثم أراد أن يستكمل كتابه عن حياة القـديس بولس فقرر عام 1864 القيام بجولة شرقية أخرى. حاول صديقه "أوجسـت مارييـت" إغراءه لزيارة مصر، فكان من نتيجة حضوره على مضـض وعجل الهفوة التحريرية التي نشرها في مجلة "العالمين". كشـفت عن نفسيته الظالمة تجاه الشرق من خلال ملاحظاته وأحكامه المتعجلة المتبرمة بحضارة مصر القديمة. وحضارات الشرق العربي القديمة.كانا صديقين من أيام باريس. "رينان" و"مارييت". اتجه الأول بحكم تربيته الدينية ثم تمرده عليها إلى دراسة المنابع المسيحية في الشرق. درس العبرية والعربية وحصل على الدكتوراه في موضوع "ابن رشد والرشدية". فابن رشـد أوصله لأرسطو، وأرسطو مثـال العـقل اليوناني، واليونان هي المثال والنقيض لحضارة الشرق، والشرق هو منبع المسيحية، بل الأديان جميعا. والفلسفة عنده لاتصلح لجميع العقول، في حين أن الدين في متناول أقل الناس ذكـاء ممن يتخذونه سبيلا للتعبير عن حاجتهم إلى المثال الأعلى والأخلاق.

"رينان" يكتب في سن الخامسة والعشرين كتاب "مستقبل العلم" ويظل مطويا إلى سن الخامسة والستين، فينشره ليثبت فقط كيف سار فكره في منطق متسق منذ مطلع شبابه إلى شيخوخته. الإيمان بالعلم أولا. وبالعلم يستطيع أن ينشأ العلم المضاد للدين بحماس يشبه الحماس الديني، والمسيحية بل الأديان جميعا ظواهر تاريخية يستطيع أن يفسرها بطريقة عقلية.

فهم أفضل للشرق

واتجه الثاني "مارييت" إلى دراسة الحضارة المصرية القديمة، وسحبه هذا الاهتمام إلى التعمق في دراسة العقائد، إلى فهم الشرق دون حكم مسبق. بدأ حياته الدراسية بترتيب مذكرات أحد العلماء الذين رافقوا حملة نابليون على مصر. ودعاه الاهتمام إلى دراسة ما كتبه "شمبليون". وشمبليون حينما حضر إلى الشرق عام 1828 كانت له ملاحظات عميقة ليس فقط كمتبتل في دراسة الحضارة المصرية، ولكن في فهم الأبعاد الجمالية للآثار العربية الإسلامية.جاءت الفرصة لمارييت حينما كلف كأمين مساعد لمتحف "اللوفر" عام 1850 بالحضور لمصر لبحث شراء بعض الوثائق القبطية. ونسي مهمته الأساسية وأخذته نشوة البحث في آثار مصر. ثم تأتيه الفرصة بعد عودته إلى فرنسا للرجوع إلى مصر والتفرغ لآثارها حيث كان لقاؤه مع صديقه "رينان".

كان الصديقان عند اللقاء عام 1864 في حالة نفسية سيئة لظروف مختلفة وأيضا لأبعاد مختلفة. مارييت كان قد وصل إلى كشف جدار مليء بالخراطيش "الأسماء الملكية" ولكن أحد العلماء الألمان استطاع أن يسرق كشفه ويرسله إلى ألمانيا، وينكر دور "مارييت" في هذا الكشف. وشكا لصديقه هذا الهم. فكتب "رينان" بعد ذلك في مجلة "العالمين" شارحا القصة منصفا صديقه.

أما "رينان" فكان قد نشر منذ فترة كتابه "حياة المسيح" أو الجزء الأول من كتابه "أصول المسيحية" والذي حوله في يوم وليلة إلى أشهر كاتب أوربي آنذاك، ففي الصيف السابق فقط على حضوره إلى مصر بيع من كتابه 60000 نسخة، وترجم إلى اللغات الألمانية، والإنجليزية، والإيطالية، والإسبانية، والدانمركية، والسويدية، والهولندية، والهنجارية والبرتغالية، وغيرها، وكتب الناقد "سان بيف" يقول: إن نجاحه قد فاق وتعدى نجاح أعظم الروايات. ولكن بعد عام من تعيينه في "الكوليج دي فرانس" عام 1862 وبسبب كتابه أيضا وآرائه أوقفت محاضرته ثم ألغيت نهائيا. أراد رينان، وقد أصابه عناد الرأي بلوثة، استمرار واستكمال البحث، أن يبتعد عن جو باريس ويتابع رحلة القديس بولس في دمشق وأنطاكية وأثينا. وهي الأماكن التي توقف فيها ليكتب كتابه الثالث "أصول المسيحية". نزل من المركب في الإسـكـندرية فـلم يبـق فيها سـوى يوم واحـد قائلا:"وجدتها كما رأيتها منذ سنوات متسخة، بشعة، ضيقة، تمتلىء بالانحطاط والقبح".

التقى صديقه "مارييت" في القاهرة واصطحبه لمشاهدة الأهرام، وسقاره، ومتحف بولاق. واستطاع أن يدبر له لقاء مع الخديو إسماعـيل "نائـب الملك! وهو رجل وديع، مؤدب، مليء بالنوايا الطيبة، ولكنه ـ يا إلهي ـ في أي حال اجتماعية هو؟!

وأراد "رينان" أن يستكمل رحلته إلى فلسطين، ويعود "مارييت" للإلحاح عليه حتى يقوما برحلة نيلية إلى أسوان. يقبل "رينان"بقلق لايعطيه رغبة في البقاء أكثر من ثلاثة أسابيع، أرسل إلى صديقه "مارسلان بيرتولو" في 17 ديسمبر 1864 من على ظهر المركب الذي أرجعه إلى القاهرة يقول:"الشيء الوحيد الذي لامثيل له في هذا البلد العظيم هو سماؤها.. لاشيء .. لاشيء.. لا في سوريا ولا في إيطاليا أوحى إليّ بهذا الانطباع. فجفاف الجو المطلق يولد ألحانا حلوة رقيقة لامثيل لها. فصبحياتها وأمسياتها ـ السماء ـ فاتنة. أبسط الأشياء. مجموعة النخيل، أو سهل أخضر، أو أفق من التلال الصخرية تأخذ قيما غريبة. وبعض أماكن الريف أيضا خلابة. أما التفاصيل فجارحة. متربة، متسخة، فقيرة الخضرة، وقلة الماء الصافي تجعلنا قلقين. فالشجرة الغليظة ذات الأفرع الشائكة تخرج من أرض من الرماد. أما الشيء الساحر فهو السماء، والأفق، والنيل. فمتوسط عرضه كيلومتر".

وقبل الوصول إلى أسوان بيوم تختلف الصورة.

"فالوادي يضيق، والمجرى يمتلىء بالصخور والمراعي عند ـ فيله ـ حيث تتخللها الشلالات، ويصب النيل في مضيق بين كتل من الجرانيت، وتأتي الصحراء من الجانبين مع جمال "فيله" الأخاذ.

والمنظر الغريب للسكان يعطي صورة متكاملة مؤثرة للغاية، وأمام آخر صخرة في "فيله" كان تأثري أشد حينما ودعت الوادي النوبي الذي صغر وأصبح كشريط ضيق".

ومع ذلك فهو يرسل خطابا آخر إلى الأميرة "جولي بونابرت" من أثينا بتاريخ 16 مارس 1865 يقول فيه: "لايمكن أن أقول إن مصر تمثل بالنسبة لي البلد المفضل. فبينما كنت مدللا وسط الطبيعة المليئة بالرقة والتنوع على ساحل سوريا، لم أتمكن من التأقلم مع الريف "يقصد المصري" الممل وعلى هذه الأرض المتربة المتسخة، وهذه المياه الراكدة الموحلة، وعلى كل حال فإن بعض السفريات تجعلك تشعرين بانفعال أعمق".

الانفعال الأعمق

من أين يأتي لرينان الانفعال الأعمق? من أثينا. حيث يقول: "إن الانطباع الذي أثارته فيّ أثينا هو أعمق الانطباعات التي شعرت بها في حياتي. فهناك مكان واحد يوجد فيه الكمال لامكانان، هو هنا فلم أكن أتصور مطلقا مكانا يماثله". ومن هنا كانت صلاة "رينان" الشهيرة في الأكروبول.

"رينان" يضع قدما في الشرق، وأخرى في الغرب، ولكنه يعود سريعا فيسحب قدم الشرق، ويستقر متأملا معجبا بالحضارة اليونانية، وتأملاته وحواره مع "مارييت" على ظهر مركب أسوان والتي كونت الدراسة التي أرسلها إلى مجلة "العالمين" في عام 1865 ونشرت تحت عنوان "فوق النيل من أسوان للقاهرة" هذه التأملات يونانية غربية.

مفهوم الفن اليوناني

لقد عانت فنون الشرق العربي بعامة في هذه الفترة من محاولة تقييمها مقارنة بمفهوم الفن اليوناني. وحتى بعد نشر بعض الأعمال الأدبية التي تتعلق بشعوب آسيا وإفريقيا مثل "المومياء" لـ تيوفيل جوتييه و"سلامبو" لـجوستاف فلوبير، ظل للفن اليوناني السيادة على أمزجة الغرب، وكان الرواد الذين حاولوا توضيح المقاييس الخاصة بفنون الشرق يعانون ويواجهون دائما هذه المقارنة. فرينان حينما يتأمل ضخامة معبدالكرنك يجد نفسه يزداد إعجابا بالبارتينون. وفنون الشرق بعامة يراها فنونا طبقية استبدادية يتحكم فيها الجانبان السياسي والديني.

وعلى ذلك فإن مقابر "سقارة" تجذبه أكثر من مقابر "وادي الملوك". يرى في الأولى الناس في حياتهم الخاصة يعملون بالزراعة والصيد ويرقصون ويلعبون. وفي ذلك يقول: "يمثل ذلك مذهبا واقعيا وحفزا جميلا دقيقا قصد به قوة التعبير والبيان، والمكتوب باللغة الهيروغليفية يشرح بأكثر مما يجب ما تخفيه الصور. والملاحظ أن الحياة العسكرية غير موجودة قبل الأسرة الثانية عشرة، كما أن الرسومات الدينية قليلة، والإله "أنوبيس" حارس للبيت الأبدي، أما الإله "أوزريس" حارس الموتى العظيم لم نره ممثلا في هذه الآونة، فكل هذه المقابر لم تكن أبدا معابد مأتمية معدة لإله ما. إن الميت هو السيد، أو في بعض الأحيان يعتبر إله المكان الداخلي. كل شيء لأجله. كل شيء لمصلحته". وحينما ينتقل إلى مقابر وادي الملوك يقول: "الميت لم يعد في مأواه الخاص، فعديد من العقائد اكتسح منازل الموتى، وصورة الإله أوزوريس غطت الجدران. وتنقش على جدران المقابر عبارات وهمية مخيفة، بل أكثر خبلا من تصور أي عقل بشري يهذي. وظهر الكاهن الذي جعل من تجارب الروح التي تمر بها مصدرا لكسبه، حيث أعطى لنفسه الحق في التخفيف عن هذه الروح المسكينة" ويرى "رينان" ـ وله حق في ذلك ـ أن المعتقدات الباطلة تلازم دائما حكم الاستبداد، وأن الفن لايزدهر في ظل القيود، وكثرة القوانين.

ويقول: "لقد بلغ النحت المصري بلاشك فجأة ومنذ بدايته ذروة الاتقان، إنها معجزة لاتقارن، هذا التمثال "شيخ البلد" أو تمثال زوجته اللذان اكتشفهما "مارييت" في سقارة. تعبير الرضا والفرح على وجهيهما الباسمين يفوق الوصف، لكأنهما هولنديان من عهد لويس الرابع عشر، لقد كان لمصر عصر من الحرية قبل حقبة التحتمسيين "نسبة إلى تحتمس"، والرمامسة "نسبة إلى رمسيس" أصحاب الفن الرسمي الذي لايريد النزول إلى تصوير مثل هذه البساطة، بساطة وسذاجة فيها قدر من السوقية. ولكنها تعطى للعمل الفني ارتعادة حية. وكيف تأمل بتغيير أو تقدم حضاري حيث الملك هو الكل،، يبتلع كل شي، ويحطم كل شيء".

وإذا كان "رينان" محقا في ملاحظاته حول حرية الفنان، وفي مقارناته بين حقبة وأخرى عن وجهة النظر المنطقية، فإننا نراه في النهاية يصدر حكما عاما فيقول: "كانت مصر بين جميع البلاد، الأكثر تحفظا، فليس فيها ثائر واحد ولامصلح اجتماعي، ولا شاعر عظيم، ولا فنان مشهور، ولا عالم، ولا فيلسوف، ولا حتى وزير له شأن، ولم نقابل واحدا من هؤلاء في تاريخها. وإذا كان قد ظهر بعض الرجال الأكفاء في مصر كانوا دائما يخمدون تحت وطأة الروتين. والغباء العام. الملك هو الوحيد المعترف بوجوده، هو الوحيد صاحب الاسم. وقد يقال إن هذا قد حدث لغياب المؤرخين الذين يتابعون الحياة العامة، ربما كان لديها رجال عظام، ولكن لم نجد مؤرخين يصفون لنا أسلوبهم، حينئذ يصبح ما نقرره عن هذا البلد المسكين حكما قاسيا. فكثير ما كان النسيان جزءا من أسلوبها".

يكاد "رينان" بحكمه المتردد هذا أن يلمس طبيعة الفن في مصر القديمة أو فنون الشرق العربي القديمة، فالفنون المعيشة الجمعية في لحظة إبداعها لاتعرف، بحكم ارتباطها بالجميع دون فصل بين المبدع والمتلقي، التميز الفردي. فيها نوع من النسيان أو إنكار الذات. ولو أدرك "رينان" عمق هذا المعنى لكشف هذا الخيط الخفي في فنون الجموع. استمر متناميا على مدى العصور من القديم إلى الحضارة الإسلامية، واستمر متناغما مع المجاور من حضارات تنوعت أصولها، واتفقت فروعها فيما يطلق عليه "الوحدة مع التنوع".

هذا فعلا عما تضمنته هذه الرؤية من مساواة أفراد هذه الجموع من الإنتاج الإبداعي بهارمونية بين الجماعات، وفي الاستهلاك الجمالي ـ إذا صح التعبير ـ بعدالة للمنتج الفني كملكية عامة، وليس بفردية الاقتناء كما هو حادث في حضارة اليونان بخاصة، وحضارة الغرب بعامة. وانداح هذا السلوك مع هذه الحضارة فلحقنا، وسعدنا ظلما لأنفسنا بالالتحاق به.

الكل في واحد

وقد أوجزت عبارة "الكل في واحد والواحد في الكل" التي أنشدها "إخناتون" هذ المعنى، وقد يقتضي الأمر هنا مقارنة استخدام نفس العبارة في الغرب على لسان الفرسان الثلاثة يرددونها كشعار، ولكن في خدمة الملك أو السلطة، وليس في خدمة المعنى الإنساني الواسع.

ويضيف "رينان" تبريرا لموقفه "الخط الواقعي عند الفنان اليوناني معد لإبراز المثل الأعلى. أما الفنان المصري فعكس ذلك، يعجب بنفسه من خلال العرض العام المقدم بطريقة مشتركة. هنا تأخذه النشوة بعمله لدرجة أنه لم يحلم بشيء آخر، فهو قانع، لانحس في داخله القلق للسعي وراء الأفضل. هذا القلق أو الجهد الذي ظل يطارد الفنان اليوناني القديم، والفنان الإيطالي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، فتلك التماثيل المذهلة في فنون الشرق غير قابلة للتطور، وهذا الفن القابع في ظلمات التأخر سيبقى لعدة قرون متكررا وينقش على مساحات عديدة من الكيلومترات، كما ستغطي الصورة الأعمدة التي لاعد لها دون إضافة أو محاولة للوصول للكمال، ولم الوصول إليه بما أن الملك والكاهن لهما فقط سلطة إصدار الأوامر، ولا يفرقان بين الغث والسمين?.. بينما الفنان اليوناني كان يجد ما يعجب ويشجع، أو يسخر وينتقد. مباراة تحكمها الغيرة والمنافسة والولع بإظهار الجمال، إنه شعب مصاب بحمى الجمال".

ونجيب عن موقف رينان في النقاط الآتية:

أولا: القول بأن الفن لايزدهر في ظل الاستبداد. هذه حقيقة يطبقها "رينان" على فترة الدولة الحديثة من تاريخ مصر القديمة. وكان له عذره في هذا ـ إذا كان التعجل عذرا ـ فلم يكن قد ألم بفترة ثورة إخناتون الدينية والسياسية من الدولة الحديثة التي أخرجت الثورة الفنية في التعبير بطريقة واقعية، وربما أيضا ساخرة من الواقع المرير. ولكن يجب الانتباه أيضا إلى أن هذا الأسلوب في التعبير كان أيضا معروفا من قبل إخناتون، وانتبه إليه المستشرق "بريس دافين".

ثانيا: وجدنا "رينان" بعد ذلك يعمم قاعدة الاستبداد التي تقتل روح الإبداع على جميع مراحل الفن المصري، بل على جميع مراحل الفنون في الشرق العربي القديم.

ثالثا: يخلط "رينان" في نتائج هذه القاعدة بين التكرار والطابع العام، فإذا طبقنا نفس القاعدة بنفس المقاييس على الفن اليوناني سنجد أن المعابد والأعمدة والتماثيل أيضا مكررة.

رابعا: يغفل "رينان" أو ينسى أن طابع الحضارة اليونانية فيه أنانية وفردية تعتز فقط باليوناني، فهو الحر الوحيد المتمتع بالديمقراطية والمساواة مع زميله اليوناني، وما عداه من الشعوب عبيد. هذا التطرف في مفهوم الحرية والفردية يعطي نتيجة عكسية من فقدان الروح.

خامسا: إذا كانت أثار سقارة بتصويرها للحياة الشعبية تثير إعجاب واهتمام "رينان" لأنها بعيدة عن الاستبداد الملكي، فإننا سنجد في نفس الحقبة أثارا ملكية قائمة في شكل أهرامات لاتخدم سوى أهداف ملكية كهنوتية. وإذا كانت أثار وادي الملوك تثير سخطه باستبدادها الملكي الكهنوتي، فإننا سنجد أيضا وفي نفس الحقبة أثاراً في "دير المدينة" و"القرنة" تمثـل الحيـاة العامة في بساطة بعيدة عن أي طغيان ديني سياسي.

وإذا كانت بعض أحكام "رينان" حول الحضارة المصرية القديمة أو حضارات الشرق التي شارك في التنقيب عنها أثناء رحلته الأولى إلى الشام، قد جاءت جائرة، أو متحيزة للجانب الهيليني لنقص معلومات استكملت على يد غيره، فلم يكن ذلك عذرا لرجل كان التفكير العلمي والمنطقي رائده، ولكن عذره ـ إذا أمكن اعتباره عذرا ـ هو فلسفته نفسها التي يقول عنها: "لاتقوم براعة الكاتب في أن تكون لديه فلسفة فحسب، بل في أن يخفي هذه الفلسفة. وعلى الجمهور أن يرى الينابيع التي تتفجر منها هذه الأنهار".

كيف كان أسلوب "رينان" في الحياة العامة بناء على هذه الفلسفة? بدأ المشاركة في الحياة العامة بالدعوة إلى عودة الملكية. ثم ما لبث أن دعا إلى تأييد الجمهورية، وأصبحت لعبته المفضلة هي ممارسة القياس المنطقي الذي يحيل الأبيض إلى أسود، والأسود إلى أبيض. وفي ذلك يقول "جوستاف لانسون" في كتابه "تاريخ الأدب الفرنسي":"كانت هذه القدرة على التلاعب وهذه المرونة العقلية تعطيان الفرصة للدفاع عن أشد الأشياء تناقضا ـ مع تبرير كل من المتناقضين على حد سواء، وقد رآه البعض ليس إلا أحد الحواة البارعين. فقد وهب سحرا، ورشاقة، وخيالا، وتهكما، وبحيث يمكن القول بأنه أمهر بهلوان مفكر قدر له أن يوجد في هذا العالم".

بهذا المنطق كان ابن رشد والمسيح عند "رينان" وسيلة، تبررها غاية استكمال فلسفته الخفية. وبهذا المنطق ضاع الحب بين الصديقين "رينان" و"مارييت". انتهى الأول مكرما في بلده فرنسا، وانتهى الثاني مكرما في غير بلده، في الشرق، في مصر حيث يرقد رفاته الآن في الحديقة المحيطة بالمتحف المصري. وكتب على قبره "إلى مارييت شهادة عرفان بالجميل من مصر" وكان آخر جميل هو إنشاء متحف لجمع الآثار المصرية، ونضالا شجاعا مثاليا وقف فيه أمام نابليون الثالث وأوجيني ـ وهو الفرنسي ـ مطالبا بإرجاع الآثار المصرية التي أرسلها إلى باريس لتشارك في معرضها الدولي عام 1867.

وعادت الآثار لمصر. وعاد ضمير "مارييت" قريرا.

 

محمد المهدي

 
  




نفرت وزوجها رع حتب الأسرة الرابعة مصري قديم المتحف المصري





مجموعة اللاكون القرن الأول ق.م متحف الفاتيكان يوناني