حوار هادئ مع فكر خاطئ

حوار هادئ مع فكر خاطئ

هل يمكن لأحد أن يعتقد أنه الوحيد الذي يملك حق الصواب وأن الآخرين في ضلال مبين؟

إنه مما يسيء إلى الفكر الإسلامي وأهله ظاهرة طرأت حديثا على المجتمعات الإسلامية وتمثلت في بعض الأفراد الذين يلجأون إلى وسيلة غير مقبولة أو منبوذة لنصرة فكرهم فيعلنون أنهم وحدهم أصحاب الصراط الواحد المستقيم وأن غيرهم في ضلال، وحجتهم في ذلك أن الدين واحد والمصدر واحد والصراط واحد والفهم واحد.لقد برزت هذه الظاهرة في أسلوب تعليقات بعض الشباب في الندوات والمؤتمرات لإظهار رأيهم فلا يجدون سوى الاعتراض على المحاضرين، والأدهى من ذلك أن يعترض بعضهم على علماء كبار.برغم أن هذه الظاهرة لاتمثل إلا شريحة قليلة جداً في المجتمع العربي والإسلامي، لكنها منهج لمدرسة فكرية، وهؤلاء الشباب هم رواد هذه المدرسة وجنودها المخلصون ولهذا كان لابد من تصحيح المفاهيم الأساسية لهؤلاء، والأهم في التصحيح ليس النتائج المترتبة على هذا الفكر بل هو المنهج الذي يعتبر المصدر الأساسي للنتائج الخاطئة التي يغرسها هذا المنهج، إنه يمكن حصر الخطأ المنهجي في أمرين هما:

1 ـ خطاب التكفير.

2 ـ العصمة الكاذبة.

خطاب التكفير

على الرغم من أن هذه المدرسة لاتكفر من خالفهم من المسلمين فإنها تستخدم معهم خطاب التكفير فيزعم شبابها بل وبعض شيوخها أنهم أصحاب الصراط الواحد وأن غيرهم من الأفراد والجماعات في ضلال، وهم لايجهلون أن الصراط الواحد هو الإسلام وغيره هو الكفر البين، كما يقولون إنهم الفرق الناجية وغيرهم من المسلمين هم من الفرق الضالة التي أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم بافتراقها إلى النار، وهؤلاء لايجهلون أن الله وحده هو الذي يعلم مصير المسلمين في الجنة أو النار وقال سورة النساء آية 48إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولقد تناسى هؤلاء أن الحديث النبوي بشأن افتراق الأمة له أكثر من رواية في بعضها "كلهم في النار إلا ملة واحدة" والملة تعني ملة الإسلام وبالتالي فالذين افترقوا إنما ارتدوا إلى الكفر، وفي رواية أخرى "أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال" وهذا يعني الافتراق إلى الكفر، لهذا قال الإمام الشاطبي إن هذه الفرق تحتمل من وجهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما أحدثوا، فهم قد فارقوا أهل الإسلام وليس ذلك إلا الكفر "الاعتصام ج4 ص190 والسنة المفترى عليها ص32 ـ 34".

كما تناسى هؤلاء أن ادعاء كفرالمسلم أو لعنه من شأنه أن يرتد الكفر واللعن على الذي قاله، فقد روى أبوداود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يمينا وشمالا فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن" لذلك فإن استخدام خطاب التكفير في مواجهة المخالفين من المسلمين هو أخطر مزالق الخطأ لدى هؤلاء الشباب.

العصمة الكاذبة

أسجل هنا أن أصحاب هذا الفكر لايدعون العصمة لأنفسهم، ولكن الخطأ الأكبر في منهج هذه المدرسة، في ادعاء أنه لايوجد إلا فهم واحد هو فهمهم، فمن حاد عنه فقد ضل وأضل، بهذا يضفون على أنفسهم عصمة لو تعمدوها لكان مكانهم المصحة. كما أنه في سبيل إقناع غيرهم بهذا الفهم الواحد يستدلون ببعض الآيات القرآنية، وبعض الأحاديث النبوية ويخفون ما قاله السلف الصالح المعنى الذي عليه جمهور الأمة، كما يستدلون بأدلة من القاموس الشيوعي، فعلى سبيل المثال:

أ ـ يستدلون بقول الله تعالى سورة يونس آية 32فماذا بعد الحق إلا الضلال يونس 32 وقد أخفى هؤلاء السياق القرآني والذي يتضح منه أن الضلال هنا خاص بكفار ينكرون اختصاص الله بالتشريع والحكم ويسلمون له بالخلق والرزق وبالتالي يشركون مع الله تعالى، القائل سورة يونس الآيتان 31-32قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون. فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون يونس 31 ـ 32 فالحق هنا هو الله تبارك وتعالى وليس فهم هؤلاء، والضلال هو مادون الله وليس المسلم الذي يخالف رأي هذا الحزب أو هذه الجماعة.

ب ـ يقول بعضهم إن الخلافة هي النظام الإسلامي الأوحد وأن السبيل الوحيد إليها هو البيعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" رواه مسلم 6/23 وقد تناسى هؤلاء أن اختيار الأمير أو الخليفة يسبق البيعة وأن البيعة هي عقد بين الحاكم والشعب، ولايمكن تحقيق ذلك إلا بعد الانتهاء من مرحلة اختيار الحاكم، وهذا الاختيار ورد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار "أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم" رواه البخاري ـ فتح الباري 16/113. وهذا الخطاب موجه للناس الذين سيمثلهم هذا الأمير ومن ثم فالأصل والأولى هو اتفاقهم جميعا على شخص منهم، فإذا تعذر الإجماع فلا يسمى اختياراً إلا من أيدته الأغلبية، وليس مباحاً أنه عند وجود خليفتين يجب قتل الأخير منهما وإن كان هذا هو ظاهر النص. فالحديث النبوي غير مراد منه القتل فهو على سبيل الزجر مثل حديث الهم بحرق بيوت من يتخلفون عن صلاة العشاء والفجر في المسجد ولاجدال أن انعقاد الخلافة أو الإمامة أو الإمارة لاثنين في إقليم واحد أمر يؤدي إلى النزاع بل قد يؤدي إلى الحرب ولهذا تحرم بيعة كل منهما.

جـ ـ وقيل لايوجد في الإسلام سوى مسمى الخليفة وأن البيعة هي السبيل الوحيد للخلافة، وهذا فيه خلط بين البيعة وطرق اختيار الحاكم وفيه إلغاء لتاريخ المسلمين، فلم يرد نص في القرآن الكريم أو السنة النبوية يحدد طريقة اختيار الحاكم، لأن ذلك مما يتغير باختلاف الزمان والمكان فيجوز أن يكون الاختيار من أهل الشورى أولا ثم من الشعب بعد ذلك، ويجوز أن يرشح أهل الشورى من هو أهل للرئاسة وذلك ليتم الاختيار من الناس. والذي لاخلاف عليه هو أن الاختيار للأمة لقول الله تعالىسورة الشورى آية 38وأمرهم شورى بينهم وللحديث النبوي السابق الإشارة إليه أما البيعة فهي الإجراء التالي لهذا الاختيار وهي كما عرفها ابن خلدون "العهد على الطاعة" المقدمة ج2 ص549، فالبيعة عقد بين الخليفة والأمة للتأكيد أنه نائب عنها فلها محاسبته وعزله، أما تسمية رئيس الدولة فقد سمي أبوبكر بالخليفة وفي هذا قال: "لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص27. وفي هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين" رواه البخاري ص69 وقد أطلقوا على الخليفة الثاني خليفة خليفة رسول الله فلم يستحسن ذلك لأن الرؤساء من بعده سيتكرر معهم لفظ خليفة بعدد الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: "بل أنتم مؤمنون وأنا أميركم" لهذا سمي الخليفة الثاني والخلفاء من بعده باسم أمير المؤمنين.

وأما لفظ الديمقراطية فليس كفراً في ذاته وإنما في مضمونه إذا كان يخول البرلمان حق التشريع من دون الله، فإذا التزمت أي دولة إسلامية بعدم التشريع بما يعارض الإسلام كانت ديمقراطيتها إسلامية، وإذا تمخضت الخلافة عن نظام يمارس الظلم ويحلل ويحرم دون الله كان نظاما طاغوتياً، كما أنه صلى الله عليه وسلم قد وادع بني مدلج دون أن يدفعوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وعاهد بني ضيرة على أنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم وأن ينصرهم على من يداهمهم وذلك مقابل ألا يغزوه وألا يعينوا عليه عدواً. وحالف قبيلة خزاعة مع كفرها في مواجهة قريش على أن ينصرها عند الاعتداء عليها، ولهذا لما خرج نفر من قريش متنكرين وقتلوا عشرين رجلا من خزاعة ذهب عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة مستنصراً بالنبي صلى الله عليه وسلم فكانت غزوة الفتح.

الخلافات الفقهية

إن الأسباب التي أدت إلى الخلافات الفقهية يمكن حصرها في أحد عشر سببا هي:

1 ـ عدم معرفة الحديث النبوي.

2 ـ الشك في ثبوت الحديث.

3 ـ الاختلاف في فهم النصوص.

4 ـ عدم وجود النص.

5 ـ الخلاف في قواعد دلالة الألفاظ.

6 ـ الدلالة الظنية المشتركة.

7 ـ الخلاف في دلالة العام.

8 ـ دلالة الأمر والنهي.

9 ـ الخلاف في أنواع السنة.

10 ـ الاختلاف في الدلالة المتفق عليها.

11 ـ الخلاف بسبب الأدلة المختلف عليها.

وسنختار من هذه الأسباب سبباً واحداً هو الخلاف بسبب اللفظ المشترك أو الدلالة الظنية، فنشير إلى أن الأمور قطعية الدلالة قليلة وأن غالبية النصوص ظنية الدلالة، وبالتالي فالأمور التي اختلف فيها الفقهاء أكثر من أن تحصى ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية أن الاختلاف في الأحكام أكثر من أن ينضبط، مجموع الفتاوى 24/123.

ورتب شيخ الإسلام على ذلك أنه ليس للحاكم أن ينقض حكم من سبقه وحكم غيره في مثل هذه المسائل، وليس للعالم ولا المفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل ولهذا لما استشار الخليفة هارون الرشيد، مالكاً أن يحمل الناس على كتابه الموطأ، منعه الإمام مالك لأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في البلدان وأخذ كل قوم من العلم ما بلغهم، وقد صنف رجل كتابا في الاختلاف فقال الإمام أحمد "لاتسمه كتاب الاختلاف ولكن سمه كتاب السعة". مجموع الفتاوى 30/791.

الظني الدلالة

الظني الدلالة هو اللفظ الذي يدل في اللغة على أكثر من معنى وهذا يكون في الفعل والاسم والحرف.فمثلا الفعل "قضى" يأتي بمعنى حكم وأمر وأعلم "والقرء" اسم يطلق على الطهر وعلى الحيض، والحرف "من" يكون، بمعنى الابتداء كقول الله تعالى سورة الإسراء آية 1سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الإسراء 1.

ويكون للتبعيض كقول الله تعالى سورة آل عمران آية 31لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون آل عمران 29 أي بعض ما تحبون ويأتي بمعنى البدل لقول الله تعالى سورة التوبة آية 38أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة التوبة83.

وهذه الألفاظ المشتركة توجد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية وبسبب هذا الاشتراك في أكثر من معنى فإن دلالة هذه النصوص دلالة ظنية وهذا كان محل خلاف بين الفقهاء.

أدب الخلاف

لقد كان لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج واضح في الأمور الخلافية تمثل في أن يعمل كل منهم باجتهاده وألا يعيب على من خالفه، وهذا المنهج قد أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أدبهم بهذا الأدب الرفيع والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها ما رواه أبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: "خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيباً فصليا، ثم وجد الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك فقال للذي لم يعد الصلاة: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين".

وقد لخص ابن الدهلوي موقف الصحابة رضي الله عنهم والتابعين من بعدهم وذلك في كتابه الإنصاف في أسباب الاختلاف "ص24 ـ 25 ـ 71" فقال: "وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ البسملة ومنهم من لايقرؤها، ومنهم من يجهر بها ومنهم من لايجهر بها، وكان منهم من يقنت في الفجر ومنهم من لايقنت الفجر، ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء، ومنهم من لايتوضأ من ذلك".

ثم قال: "ومع هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض، مثل ما كان أبو حنيفة أو أصحابه والشافعي وغيرهم رضي الله عنهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم، وإن كانوا لايقرأون البسملة لا سراً ولا جهراً".

وصلى الرشيد إماماً وقد احتجم، فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد ـ وكان أفتاه الإمام مالك بأنه لا وضوء عليه.

وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه?

فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب!!

وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريباً من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله، فلم يقنت تأدباً معه، ولما حج المنصور قال لمالك: قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث في كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم بأن يعملوا بما فيها، ولايتعدوه إلى غيره.

فقال: يا أمير المؤمنين: لاتفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، ودانوا به من اختلاف الناس وما اختار كل أهل بلد منهم لأنفسهم. أي أن الإمام مالك رفض أن يكون كتابه الموطأ هو المرجع في الفقه.وقد نسبت هذه القصة إلى هارون الرشيد، وأنه شاور مالكاً في أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على مافيه، فقال:لاتفعل فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل سنة مضت. قال: وفقك الله يا عبدالله.

سوء الأدب

إن من أسباب سوء الأدب مع العلماء والأئمة الإعلام أن ظن بعض الشباب أن لهم حق الإفتاء في دين الله، وذلك لأنهم قد علموا من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يعلمه غيرهم ومادام قد استبان لهم ذلك فلايجوز ترك ما علموه لقول إمام أو أكثر من أئمة المذاهب الفقهية.

وهذا الظن جعلهم يعلنون الحرب على باقي طوائف المسلمين زاعمين أنهم يمارسون واجب النهي عن المنكر حيث لعن الله الذين لايتناهون عن منكر فعلوه.

وقد غاب عن هؤلاء أنهم في الحقيقة لايطرحون رأي الأئمة ويقدمون عليه حكم النبي صلى الله عليه وسلم بل يقدمون فهمهم القاصر والخاطئ لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلون فهمهم هو حكم الله، وهذا قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه لبريدة.

ولقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد فهل ينكر عليه أم يجهر فقال: "مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول العلماء لم ينكر عليه ولم يجهر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين".

وقال في موضوع آخر: "وأما من ترجح عنده فضل إمام على إمام، أو شيخ على شيخ بحسب اجتهاده كما تنازع المسلمون أيما أفضل: الترجيع في الأذان أو تركه? أو إفراد الإقامة أو تثنيتها، وصلاة الفجر بغلس أو الإسفار بها? والقنوت في الفجر أو تركه? والجهر بالتسمية أو المخافتة بها، أو ترك قراءتها? ونحو ذلك فهذه من مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة، فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده، من كان فيها أصاب الحق فله أجران، ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر وخطـؤه مغـفور له، فمن ترجح عنده تقليد الشافعي لم ينـكر على من ترجح عنده تقليد مالك، ومن ترجح عنده تقليد أحمد لم ينـكـر على من ترجح عنده تقليد الشافعي ونحو ذلك" "مجموع الفتاوى 20/207،292".

عدم الإنكار في الأمور الخلافية

لقد تناسى هؤلاء الشباب قاعدة ذهبية من قواعد أدب الخلاف عند علماء المسلمين، وهي عدم جواز الإنكار في الأمور الخلافية، فكل ما كان محل خلاف ولم يكن محل الإجماع فلا يجوز الإنكار فيه، بل بلغ الأمر في أدب الخلاف أن قيل إن ولي أمر المسلمين ليس له أن يمنع الناس من شئ هو محل خلاف بين الحل والحرمة وليس للمحتسب الذي يوليه الحاكم الإنكار في الأمور الخلافية.

وفيما يلي بعض ما قاله الفقهاء في ذلك:

1 ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية وقد سئل عمن ولي أمور المسلمين فأراد أن يمنع الناس من شركة الأبدان عملاً بمذهبه في ذلك فأجاب: "ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص كتاب، ولاسنة ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك، ولاسيما أن أكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة الأمصار".

كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل.

وقال: "كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وكان عمر بن عبدالعزيز يقول: "ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة" وكذلك قال غير واحد من الأئمة: "ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه" مجموع الفتاوى "30/97،80".

2 ـ قال الإمام النووي في شرحه للحديث النبوي: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده": "ثم إنه يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء، ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأن أحد المذهبين كل مجتهد مصيب وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه".

وقال "لم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين من بعدهم رضي الله عنهم أجمعين، ولاينكر محتسب ولاغيره على غيره.

وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا القاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً ولا إجماعاً أو قياساً جليا" شرح مسلم للنووي 2/13/23.

3 ـ قال الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه "جامع العلوم والحكم": "والمنكر الذي يجب إنكاره ما كان مجمعاً عليه. فأما المختلف فيه، فمن أصحابنا من قال: لايجب إنكاره على من يفعله مجتهداً أو مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً" واستثنى القاضي في الأحكام السلطانية وما ضعف فيه الخلاف.

4 ـ قال العلامة ابن قدامة: "لاينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه فإنه لا إنكار على المجتهدات" "الآداب الشرعية لابن مفلح 1/186".

5 ـ وقال حجة الإسلام الغزالي:"ما فيه الحسبة: كل منكر موجود في الحال الظاهر، للمحتسب بغير تجسس معلوم كونه منكراً بغير اجتهاد".

وقال عن الشرط الرابع لإنكار المنكر: "أن يكون كونه منكراً معلوماً بغير اجتهاد فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة فيه، فليس للحنفي أن ينكر على الشـافعـي أكله الضب والضبع، ومتروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر، وتناوله ميراث ذوي الأرحام، وجـلـوسـه في دار أخذها بشفـعة الجوار، وإلى غير ذلك من مجاري الاجتهـاد" إحياء عـلـوم الدين للغزالي 2/32.

وأخيراً وليس آخراً، فإن أدب الخلاف بين المسلمين بعضهم بعضا لايمكن أن يكون أقل من أدب الخلاف بين المسلمين والمشركين والذي أمرنا الله تعالى به في آيات كثيرة من القرآن الكريم منها قوله تعالى سورة سبأ الآيتان 25-26قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون. قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم "سبأ 25/26".

نأمل أن نتأدب جميعاً بهذا الأدب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون.

 

سالم البهنساوي