لحظة الانتقام من مس آسيا

لحظة الانتقام من مس آسيا

ترفع طرف أنفها الصغير وتوجه نحوي طرف سبابتها وتحدجني بنظرة نافذة من خلف نظارتها وتقول:

ـ انهض.. اذهب إلى حضرة الناظر.

دائما كنت أكره اللغة الإنجليزية وفي هذه اللحظة أكره مس آسيا أكثر وأشعر برغبة عارمة في الانتقام منها، تتصاعد ضحكات زملائي الأوغاد داخل الفصل كأن هناك تواطؤا خفيا ضدي، أدمدم معترضا ببعض الكلمات، أصفق باب الفصل خلفي بأقوى ما أستطيع، أسير في الممر الطويل المشبع برائحة الورنيش العطن، أفكر في القفز من إحدى النوافذ المطلة على الفناء، ولكن مدرس الألعاب يقف هناك، لا مفر من السير حتى نهاية الممر، حيث توجد الغرفة المروعة وحيث يوجد الناظر متأهبا لوقع خطواتي "في هذه اللحظة كان حضرة الناظر في منتصف العمر وفي منتصف مسيرته الوظيفية، وكان يصرخ فينا دائما أن طه حسين هو سبب انهيار التعليم في مصر، لأنه سمح بدخول أبناء الأوغاد إلى المدارس. لم يكن قد ترقى بعد إلى منصب مفتش أول ثم إلى منصب مدير الإدارة التعليمية، بعد ذلك تم اختياره معلما مثاليا وقلده الزعيم جمال عبدالناصر وسام الاستحقاق في "عيد العلم" وارتدى الوشاح والحلة السوداء وعاد إلى المنزل ليموت وهو واقف أمام المرآة كأنه كان يلتقط لنفسه الصورة الأخيرة"، يشاهدني واقفا أمامه فيزوم من بين شفتيه:

ـ أهو أنت مرة أخرى، لابد أن مس آسيا هي التي أرسلتك.

أقول على الفور: إنها تضطهدني.

ينهض من خلف مكتبه ويستدير ليقف في مواجهتي، أتراجع بحيث لا أكون في متناول يده، يصيح:

ـ ألا تخجل من نفسك، مخلوقة بهذه الرقة والوداعة تتهمها باضطهاد حشرة مثلك، بدلا من أن تثير لها المشاكل في الفصل كان يجب أن تحضرلها زهورا.

أواصل التراجع وأقول: ومن أين لي مصروف لمثل هذه الأشياء.

ينظر ناحية العصا المركونة إلى الحائط ولكنه يتمالك نفسه، أتمنى أن يرفعها ويهوي بها علي مرة أو مرتين وينتهي الموضوع، ولكن بدلا من ذلك أسمعه وهو يقول:

ـ اذهب ولا تعد إلا مع ولي أمرك.

ـ هذا ظلم، في المرة الماضية رفضت الاعتراف به.

ـ لأنه كان مزيفا. أريد ولي أمر حقيقيا هذه المرة.

قبل أن أغادر المدرسة أدير في ذهني تفاصيل الانتقام من مس آسيا وكيف يجب أن يكون سريعا ومؤثرا ولو كلفني مستقبلي التعليمي، أخبئ الحقيبة في مكان من المستحيل الوصول إليه خلف دورة المياه، أسير في الشوارع حرا طليقا، لا فائدة من العودة إلى البيت الخالي، لن يعود أبي قبل أن يحل الظلام ليعد الطعام لنا ثم نأكل وننام، لم يبق لي إلا نصف ضوء نهار أتم فيه انتقامي، أيام كثيرة قضيتها متسكعا مثل هذا اليوم، أعرف كل تفاصيل بلدتي الصغيرة، عدد المقاعد داخل السينما الوحيدة، وأشجار الصبار في مقابر النصارى، والكباري الخشبية على النهر الصغير، أتسكع بوجه خاص أمام المقهى الزجاجي الذي يجلس عليه الأعيان، يزغر في الجرسون اليوناني حتى ابتعد "في هذه اللحظة لم يكن قد اكتشف بعد أن زوجته ذات العينين الملونتين تخونه مع الحلاق الأرمني الذي يسكن في الدكان الذي يجاوره، عندما اكتشف بالمصادفة ذلك الأمر الذي كان يعرفه معظم زبائن المقهى ثارت بينهما مشاجرة ضخمة سال فيها دم الجرسون اليوناني على وجهه وأخذ يبكي داخل المقهى الخالي في قهر، وفي المساء شوهد وهو جالس في دكان الحلاق الذي كان يفحص رأسه وهما يتبادلان الحديث، لعلهما كانا يتفقان على اقتسام الزوجة، بعد ذلك حلت المشكلة بالفعل وبات في وسع الزوجة التردد بحرية بين المحلين ولكن ـ حسب ما أشيع ـ أرسل الجرسون اليوناني بلاغا إلى الأمن يتهم فيه الحلاق بأنه جاسوس لإسرائيل ومن يومها اختفى هذا الأخير"، أتراجع حتى أجلس على حافة النهر واثقا أنه بقليل من الحظ سوف تظهر مس آسيا في موعدها المألوف، يمر الكثير من الوقت وينتهي موعد المدرسة، ثم تبدو قادمة عبر الكوبري الخشبي المليء بالثقوب، أرى قامتها الطويلة النحيفة وهي ترتدي فستانا لونه "بمبه سكلاماه" وقبعة كبيرة من القش لها نفس اللون، تسحب خلفها كلبها الصغير "كنت أعرف أن اسمه الحقيقي هو شكسبير ولأنه اسم طويل وصعب ولا يليق بكلب أبيض صغير الحجم فهي تدعوه "شاكي" ولا تكف عن الحديث عنه"، تشده بحبل رفيع لا يكاد يرى، يحني الجرسون اليوناني رأسه محييا إياها وينظر رواد المقهى إليها بأفواه مفغورة وتهدأ الضجة المنبعثة من المذياع الخشبي فلا يسمع إلا صوت كعب حذائها، أنزلق أنا ببطء وأختبئ خلف صف من أشجار التين البري الموجودة على الشاطئ وأراقبها وهي تمر بي من خلف الأوراق الغليظة المليئة بالأشواك، تبدو بهذا الثوب الهفهاف الرائق كأنها قادمة من عالم آخر، أسير على مبعدة منها حتى لا يلمحني الكلب، رغم الكعب العالي فإن جسمها لا يتثنى، تترك شارع البحر وتسير تحت جسر السكة الحديد إلى الجانب الآخر من البلدة، لم يكن هناك إلا الكنيسة وأسوار المصنع والمحطة الواسعة التي تضم قطارات "الدلتا" الصغيرة.

أعشاب صغيرة تنبت من بين الأحجار، أشجار الجهنمية تلقي بزهورها الحمراء، يتوقف "شاكي" أحيانا ويدور حول نفسه ولكن مس آسيا لا تلتفت، تظهر أمامنا الكنيسة الحجرية المتربة، لا يوجد أحد، لم يكن هناك من يذكر الرب في هذه اللحظة إلا مس آسيا، تعبر السور الخارجي إلى ممر مرصوف برخام متكسر حتى الباب الداخلي للكنيسة، تتوقف قليلا أمام النوافذ ذات الزجاج الملون والنباتات المتسلقة التي تعلو الجدران، تظل واقفة مترددة في الدخول، لعلها لم تكن واثقة من درجة استعداد الرب لاستقبالها في تلك اللحظة، تربط الكلب إلى أحد الأشجار الرفيعة بجوار المدخل ثم تخلع قبعتها القشية وتغيب في الداخل، أنتظر قليلا ثم أعبر السور أنا أيضا، ينظر إلي الكلب المقيد ويضم قوائمه ويصدر صوتا خافتا أقرب إلى التساؤل منه إلى النباح، يحدق كل منا في الآخر عن قرب، يحاول كل منا اكتشاف الآخر، هل كان يعرف نيتي السوداء؟ أخشى أن تخرج مس آسيا لأي سبب ولا تكتمل أركان جريمتي، أتسلل خلفها إلى داخل الكنيسة، رائحة الرطوبة والبخور، ضوء النهار وقد تباعد وتحول إلى مربعات ملونة متناثرة على أرضية من الخشب المتآكل، ستنا مريم تحمل طفلا على ذراعها وترفع الذراع الأخرى عاليا، ربما لتمنعني من التقدم إلى الداخل، أسمعها وهي تقول: كل رسائلي إليه ذهبت هباء يا أبي، أتراجع مرعوبا، يظل وجه ستنا مريم جامدا ونظراتها معلقة إلى أعلى، الصوت يأتي من مكان آخر، مس آسيا تجلس على أحد المقاعد وهي تتحدث إلى حاجز من الخشب المعشق، ألمح خلفه ظل رجل ما يهز رأسه وهو يستمع إليها، أعرف أنه القسيس "مقاريوس" الذي كنا نطلق عليه "أبونا" إذ لا يوجد غيره استطاع المكوث في بلدتنا لهذه المدة الطويلة، ولا أعرف لماذا يجلس خلف هذا الحاجز مادام يعرف كل منهما الآخر؟ "في هذه اللحظة كان مازال يقوم بكل واجباته الدينية، لم تكن بنت الشربيني باشا قد وقعت في غرامه بعد كما قيل وقتها، ورغم أنه حاول جاهدا أن يردها ويجعلها تعرف الفوارق الدينية التي تحول دونهما، فإنها لم ترتدع، كانت فتاة جميلة وبريئة كما اللبن الحليب، وأشيع في البلدة أن القس يحاول تنصيرها، وثارت ضجة كبرى واضطر القس العاشق لاعتزال الحياة بعيدا وهاجرت الفتا ة إلى فرنسا بعد أن صادرت لجنة تصفية الإقطاع كل ممتلكات أبيها، ولم يظهر القس "مقاريوس" إلا بعد ذلك بسنوات طويلة عندما ذهب لمقابلة الرئيس السادات ـ كما ذكرت صحيفة وطني ـ وكان شيخا عجوزا جليلا وعرض عليه أن يفرج عن البابا شنودة وان يسجنه هو بدلا منه مدى الحياة، وقد رده الرئيس السادات قائلا: إن مصر لديها ما يكفيها من الشهداء وأنها ليست في حاجة إلى شهداء جدد" يستمع إلى مس آسيا وهي تبكي، لم أر دموعها، ولكن رأيتها أكثر من مرة وهي تدخل منديلا صغيرا خلف عدسة النظارة لتمسح عينيها، ولابد أن "أبانا" قال لها شيئا بصوت خافت لأنني رأيتها تفتح حقيبة اليد التي تضعها على حجرها وتخرج منها حزمة من الرسائل، ترفعها إلى أعلى حتى يراها القسيس وتشهق قائلة:

ـ كلها قد ردت إلى، لا أعرف أن كان قد غير عنوانه أم أنه قد رفض استلامها.

يبدأ القسيس في الكلام بصوت رتيب متتابع، أرى الرسائل وهي تنزلق من يدها ساقطة على الأرض، واحدة إثر أخرى، يصبح وجهها جامدا كما وجه ستنا مريم، أبدأ أنا في التراجع مغادرا الكنيسة، الكلب الصغير مازال في انتظاري، أفك الرباط من حول الشجرة، أتحسس جسده الدافئ، يرتجف ولكنه لا يعترض، لا يصدر أي صوت حتى وأنا أعدو به مبتعدا، أعبر الطريق المرصوف كله وأنحرف لأدخل بين المزارع حتى لا يراني أحد، لا توجد في ذهني فكرة محددة، أتقافز فوق الترع العكرة، أشاهد القضبان النحيفة الممتدة التي تقود إلى محطة قطار "الدلتا" فأسير في اتجاهها، أعدو خلف السور الممتد متجنبا الأحجار الصغيرة والأشواك الضارية النابتة بين القضبان، تقف العربات الصفراء مستعدة للانطلاق، طالما أحببتها لأنها أصغر حجما وأكثر بطئا واقل صخبا من القطارات العادية، كأنها قد صممت للصغار من أمثالي، أصعد إلى اقرب عربة وأجلس بجوار النافذة، يواصل الكلب التطلع إلي في دهشة وفضول، ربما لأن المغامرة قد أعجبته حتى الآن، أو ربما لأن العلاقة بينه وبين مس آسيا ـ مثلي ـ لم تكن دائما على ما يرام.

يبدأ الفلاحون في التوافد، يلقي بعضهم نظرة ازدراء على الكلب الأبيض الناعم الذي أحمله، الرجال منهم يسحبون خلفهم حيواناتهم الخشنة، ماعز وخراف وبط وأوز وحمار بالغ الهزال، والنساء يحملن فوق رءوسهن مقاطف مربوطة بإحكام، طوال عمري وأنا أشاهد الفلاحات يذهبن ويأتين إلى بلدتنا وعلى رءوسهن الصغيرة هذه الأحمال الثقيلة دون أن اعرف ماذا تحوي، لا يجلس إلا القليل من الركاب على المقاعد، يجلس معظمهم في طرقة العربة وبالقرب من الباب بجانب حيواناتهم وأثقالهم، يصفر القطار ويبدأ في الاهتزاز فيتدافع المزيد من الفلاحين والحيوانات، تزوم العجلات وهي تتحرك فوق القضبان الصدئة، ينبح "شاكي" بصوت جذل، تدور المزارع وتتحرك بيوت المدينة، نخرج من خلف السور الممتد، تبدو الكنيسة والفناء الذي يحيط بها من على مبعدة، ألمح مس آسيا، وأبونا واقف إلى جانبها، ينبح الكلب عاليا ولكن لا يرتفع فوق صوت القطار، أتراجع عن النافذة ونواصل الابتعاد عن الكنيسة والبيوت وزرابي القطن ومداخن المصنع، تتأرجح العربات فوق "الفلنكات" الخشبية التي تعبر الترع والمصارف، نغوص في ظلال أشجار الصفصاف والجزورينا والجميز، تبتعد الشمس ولا يبقى منها إلا حزم متفرقة من الأشعة، يأتي المحصل بدينا متأرجحا، بصورة واضحة، لعل هذا ما يساعده على حفظ توازنه، يسب الفلاحين لقرفهم والحيوانات لروثها، لا يردون عليه السباب، يحاولون فقط إزاحة الحيوانات من طريقه، يتوقف أمامي ويتطلع إلى الكلب في استغراب:

ـ وأنت، ماذا تفعل هنا مع هذا الكلب، هل تذهب معه في نزهة، هيه، لا تبتعد كثيرا، فاهم.

يتركني دون أن يطالبني بالتذكرة، لم تكن معي على أي حال "في تلك اللحظة لم أكن أعرف أنه صديق أبي، إنه قد قص عليه تفاصيل هذا اليوم فيما بعد، كما أن حياته قد تغيرت بعد هذا اليوم أيضا، فقد ساهم في إفشال إضراب قام به عمال وموظفو سكك حديد وجه بحري التي كنا نطلق عليها "الدلتا" للمطالبة برفع أجورهم ووشى بقادتهم، ومكافأة له على ذلك تمت ترقيته بسرعة، وقاطعه معظم الموظفين، لم يبق له من أصدقاء سوى أبي الذي كان يقابله دائما على المقهى وهو يبكي ويتوعد الجميع بالانتقام عندما يتم اختياره رئيسا للمصلحة، وقد حدث هذا بالفعل ولكن في اليوم الذي عين فيه مديرا صدر قرار بإلغاء سكة حديد وجه بحري كلها وتوقفت قطارات "الدلتا" إلى الأبد، أرسل هو خطاب احتجاج شديد اللهجة إلى رئاسة الجمهورية قال فيه إن هذا القرار سوف يقطع أواصر الريف المصري ويتسبب في انهيار أسواق الثلاثاء وغلاء الحيوانات وعنوسة البنات وعدم مد المدن بالخضراوات الطازجة، ولم يأبه به أحد منذ ذلك الوقت"، يسترخي الفلاحون وتنفلت الحيوانات من عقالها فور أن يختفي، تصدع الماعز فوق المقاعد وتمد رءوسها خارج النوافذ تحاول اصطياد اوراق الشجر، تتناطح الشياه وتصفق الأوز بأجنحتها، ينفلت "شاكي" من يدي ويقف على ظهر الحمار البالغ النحافة، يبدو سعيدا لدرجة تخفف من إحساسي بتأنيب الضمير تجاه مس آسيا، يتوقف القطار كل عدة دقائق، يهبط أناس وحيوانات ويصعد أناس وحيوانات، وأنا أريد الابتعاد عن البلدة لأقصى ما أستطيع، أعتزم أن احصي محطات عشرا قبل أن أهبط، مضيت بعيدا ولم يعد هناك مجال للتراجع، وأخيرا أهبط.

لم يكن هناك أكثر من رصيف من الأحجار لا توجد عليه أي علامة، أسير وأنا أحمل الكلب، يهبط معي آخرون ويأخذون في الابتعاد سريعا، لا يوجد أثر لبيوت البلدة، أحتار إلى أين اتجه، أصبح وحدي فأشعر بالخوف، أضع "شاكي" على الأرض وأفك الطوق المعقود حول عنقه وأصيح فيه أن يذهب، لكنه لا يفعل، يظل محدقا في مرعوبا وخائفا من أن أتركه، ربما كان يعتقد أن الصداقة المؤقتة التي تمت بيننا أثناء الرحلة سوف تدوم إلى الأبد، أعاود الصياح فيه بكل ما أوتيت من قوة فيظل واقفا أمامي، أعود للمحطة فيعود خلفي، اجلس على أحد الأحجار منتظرا القطار العائد، لا أعرف متى سيأتي نتطلع إلى بعضنا في خوف وتبدأ الشمس في المغيب، آخذ في الارتجاف ويحاول الكلب التمسح بي فأدفعه بعيدا، تستطيل ظلال الأشجار وتبرد الريح، أبدأ في البكاء قبل أن يلوح ضوء القطار قادما من خلف الأفق، لا أصدق عيني، أتقافز ويتقافز "شاكي" معي، تتوقف العربات نصف المعتمة فأهرع إليها، يحاول هو القفز خلفي ولكن جسده الضئيل لا يساعده على الوصول إلى حافة العربة العالية، ينبح في ألم، فرحتي بالنجاة لا تجعلني مستعدا للمجازفة والهبوط لإنقاذه، يقف على قائمتيه الخلفيتين ويرفع الأماميتين إلى أعلى محاولا استعطافي، يتحرك القطار الخالي إلا مني، كأنما لم يجئ إلا لكي أتم انتقامي، لا يظهر المحصل، لا يصعد أحد ولا يهبط ولا أكف عن الارتجاف حتى تظهر بيوت المدينة.

أسير دائما وسط الظلام، أوشك على الانزلاق وسط الحواري المبللة، أرى الضوء خلف نافذة البدروم، أهبط الدرج فأشم رائحة الطعام فأدرك أن أبي قد جاء، أجده جالسا في مواجهتي وهو ينظف أدواته كما هي العادة، مفاتيح وعدد ومفكات وكلابات وبنس وقواطع، أشم رائحة الكيروسين، يرفع رأسه ويرمقني بنظرة متفحصة، يقول وهو يواصل تنظيف أدواته:

ـ لماذا تأخرت هكذا وأين حقيبة المدرسة؟

لا أدري إن كان يعرف ما حدث أو انه كان يختبر قدرتي على الكذب، أقول على الفور:

ـ طردت من المدرسة، أخبرني الناظر ألا أعود إلا ومعي ولي أمري.

يظل صامتا، يمسك "المزيتة" في يد "والعدة" في اليد الأخرى، لماذا لا ينهض هو أيضا ويضربني وينتهي الأمر؟ أسمعه وهو يقول:

ـ اغرف بعض الأرز والبطاطس وكل، الصباح رباح.

هل تأجل عقابي؟ أم أن علي أن أدلي بالمزيد من الاعترافات؟ الطعام ساخن ومن دون لحم، أرى على الحلل والملاعق والطباق آثار أصابع أبي السوداء، أجلس في الركن الآخر من الغرفة الضيقة أراقبه وهو يعيد ترتيب أدواته، آكل قليلا وأنام في نفس المكان الذي كنت جالسا فيه وأظل طوال الليل أحلم بـ "شاكي" وهو يقف أمامي على قائمتيه الخلفيتين، لا أستيقظ إلا عندما أسمع وقع أقدام المارة والعربات "الكارو" وهي تعبر بجوار النافذة، اسمع صوت غطيط أبي، أرتدي ثيابي في هدوء وأظل جالسا حتى يستيقظ، لا يقول لي كلمة واحدة وهو يراني جالسا ارتدي زي المدرسة، يلبس العفريتة المتسخة ويحمل على ظهره صندوق العدة، يسير وأسير خلفه في عكس الاتجاه الذي يؤدي إلى المدرسة، يتبادل تحايا الصباح مع الجيران المبكرين، ما إن نخرج من الحي الذي نسكن فيه حتى يتوقف ويرفع صوته إلى أعلى وهو يصيح بصوت عال ممطوط "نعمر"، الصباح بارد والأرض مبللة وشارع البحر لا يوجد فيه إلا بعض طيور حائمة، نعبر إلى الحي الراقي ويواصل أبي النداء، أحس كم أن صوته متعب وشقيان، لا يأبه بنا أحد، لا يفتح لنا أحد، نسير طويلا دون أن نأكل ولو لقمة واحدة، أخيرا تطل علينا امرأة من نافذتها وتطلب من أبي أن ينتظر حتى يصلح ماكينة الخياطة الخاصة بها، نتوقف، يمسك أبي "الماكينة" السوداء، يقلبها على ظهرها ويفتحها، يفتح صندوق "العدة" ويخرج منه العديد من الأشياء، لا يوجد به أدوات التصليح فقط ولكن المئات من قطع الغيار، مسامير مختلفة الشكل وبراغي وأسلاك وتروس صغيرة وقطع حديدية غريبة الشكل، هذه هي المرة الأولى التي أرى احشاء عالمه الخفي، لابد انه جمعه خلال ايام التجوال الطويلة، يدخل أصابعه الضخمة في جوف الماكينة، تؤكد له المرأة أنها احتارت فيها، يخرج كورا من الخيوط الملفوفة والإبر المتكسرة، يضع داخلها بعض نقاط من الزيت ثم يقلبها، تدور العجلة وتتحرك الإبرة صعودا وهبوطا فتضحك المرأة في حبور "أي خدمة ياست" تعطيه المرأة أجره فلا يناقشها ولا حتى ينظر فيه، تصبح الشمس أكثر ارتفاعا ويفقد النهار نعومته، يصيح أبي "نعمر"، تقودنا امرأة أخرى إلى المطبخ حيث توجد ثلاجة ضخمة، يميله ا أبي على جنبها ويأخذ في العمل، لا يطلب مني مساعدة ولا يوجه لي كلمة مباشرة، تحضر المرأة طبقا من الحلوى فلا يأمرني بالأكل أو الاعتذار، ندخل حديقة أخرى لنصلح طلمبة للمياه، ثم مولد كهرباء محترقا، وراديو خشبيا له بطارية جافة لم أتصور أن أسمع له صوتا أبدا، وآلة تليفون في إحدى الوكالات التجارية، وننقذ ركاب أتوبيس ضخم تعطل بهم على جانب الطريق وندير مخرطة ضخمة في إحدى الورش، كل ذلك دون أن نتوقف عن السير في أرجاء المدينة، ننتقل من الأسفلت إلى الطرقات المرصوفة بالأحجار ثم إلى الحواري الرطبة المتربة دون أن يكف عن الصياح "نعمر" وأتبعه جائعا ومتعبا، لا أكف عن تأمل أصابعه وهي تندس في الآلات الصامتة الميتة فلا تلبث أن تنتفض بالحياة، يخرج أشياء صدئة ويعيد جليها، وأسلاكا ممزقة يرمم أوصالها، ودائما ما يجد في صندوق العدة الشيء الذي يبحث عنه، ينساب العرق من جبينه أسود له نفس لون الزيت الذي يزيت به الآلات، لا نتناول أول وجبة لنا إلا في منتصف اليوم والشمس حامية، نجلس على جانب من الطريق ونأكل بضع أقراص من "الفلافل" والخبز والفول "الحراتي" الأخضر، ندخل أحد المساجد للشرب والاغتسال فيقوم أبي بإصلاح كل صنابير المياه الخربة فيه وينصرف دون أن يطلب أجرا أو يخبر أحدا.

لا نعود إلى البدروم إلا في نهاية هذا اليوم الطويل، يصعد الصهد من رأسي ويكاد الألم يشل أصابع قدمي، يضع أبي صندوق العدة ويقوم بتسخين بقايا البطاطس والأرز الموجودين منذ الأمس، أكتم دموعي وأرفض الطعام وأنام على الفور، يخيل إلي أنه يقوم بخلع ملابسي ويلبسني جلباب النوم ويخيل إلى أنه يجلس بجانبي ويتحسس جبهتي ويهمس لي في صوت خافت:

ـ على عيني يا إبراهيم، ولكن أردت أن أجنبك هذا المصير، لا أريد أن تهجرك امرأة من أجل الشحم الموجود تحت جلدك أو الوسخ الذي على ثيابك أو البدروم الرطب الذي تعيش فيه، لا أريد أن أسمع صوتك وأنت تصيح "نعمر" وأن تأكل الطرقات روحك قبل أن تأكل قدميك، نم يا إبراهيم والصباح رباح.

أستيقظ في الصباح فأجد أن ثياب المدرسة قد غسلت ونشرت فوق حبل بجانب المصباح الذي بقي مشتعلا طوال الليل أجدها جافة وصالحة للبس رغم أن عليها آثار أصابعه، ارتديها، أظل جالسا أنصت إلى غطيصه الهادئ ووقع الأقدام في الخارج، ما إن يستيقظ حتى يبدأ على الفور في إعداد "سندوتش" ويأمرني بتناوله، يأخذني من يدي ويحمل صندوق العدة باليد الأخرى، ونسير في الاتجاه المؤدي للمدرسة، عندما نقترب من الباب يتحدث معي للمرة الأولى:

ـ أين خبأت حقيبتك؟

ندخل إلى فناء المدرسة، يترك صندوق العدة عند الحارس وأذهب لإحضار الحقيبة، نصعد معا إلى غرفة الناظر، أود أن تتاح لي الفرصة للاعتراف بكل جرائمي ولكن الناظر يقول وقد نفد صبره:

ـ يجب أن تغفر له مس آسيا أولا.

كيف يمكن أن تغفر لي؟

نسير معا إلى غرفة المدرسين، لماذا يصر كل واحد منهم على أن يعاقبني بطريقته الخاصة دون ان يتركوا لي فرصة للاعتراف؟ على الأقل كنت واثقا من أنني سوف أعترف أمام مس آسيا، نفتح الباب فنجدها جالسة إلى منضدة عليها غطاء من المخمل الأخضر المتآكل، تحدق فينا ونحن واقفان عند الباب كأنها لا تستطيع التعرف علينا، وجهها محمر وعيناها مجهدتان، أختبئ خلف أبي متمنيا ألا تراني، يحاول أن يتكلم ولكنها ترفع يدها وهي تقول: لا اعتذارات اتركه وانصرف.

يدفعني أبي برفق إلى منتصف الغرفة ثم يغلق الباب خلفه وأبقى وحدي واقفا في مواجهتها، تشير لي فأجلس على المقعد المقابل لها، أخفض رأسي، يبدو المخمل الأخضر شديد الشبه بالحقول التي ضاع وسطها "شاكي"، أرفع بصري فأعرف أنها قد بكت إلى حد الإنهاك، تتساءل في صوت خافت:

ـ هل كنت قاسية معك إلى هذه الدرجة؟

لا أدري ماذا يمكن أن أجيب، ولا أدري لماذا لا تسألني بشكل مباشر عن جريمتي، يبدو أنها لا تنتظر ردا مني لأنها تواصل القول:

ـ ربما لأنني لم أكف عن الحلم بك، وكان ما يغيظني دائما أنه حلم مستحيل.

لا أفهم شيئا، أواصل التحديق في بلاهة، تسكت لتبلع ريقها أو ربما لتجد كلمات أخرى ثم تقول:

ـ لو سارت الأمور معي بطريقة طبيعية لتزوجت وأنجبت ولدا مثلك، وربما كان يشبهك تمام الشبه، في مثل هذه اللحظة كان يمكن أن أكون أمك.

تمنيت ألا تقول هذه الكلمات، تسري البرودة في عظامي، أسحب يدي من فوق المنضدة حتى لا تلحظ ارتجافي، أرى أبي وهو يبكي في ذلك الصباح البارد البعيد، أبحث عن ثوب النوم الأحمر الذي كان معلقا فوق الحبل الموجود في ركن الغرفة فلا أجده، نبقى ـ أنا وأبي ـ جالسين لمدة أربعة أيام دون طعام ودون أن نجرؤ حتى على إضاءة المصباح، وعندما تهاجمني الكوابيس أنتقل إلى حضنه فأجد أن نفس الكوابيس تهاجمه بنفس الضراوة، تنظر إلي وتقول:

ـ لا تبك، في الليلة الماضية بكيت بما يكفي لأهل المدينة كلهم، أتدري حتى شكسبير فقدته أىضا؟

أفتح فمي لأقول لها إنني قد فعلت ذلك ولكني أرى عينيها وهما تحدقان في، تبحثان عن حلم ضائع، يختلط وجهها بذلك الوجه القديم، لا أجرؤ على قول أي شيء، خوفا عليها، أخـفض رأسي وتنساب دموعي في صمت، أسمعها وهي تقول: هل تشاركني في البحث عنه؟

أقول من خلال حلقي الجاف: أجل، سوف أفعل.

 

محمد المنسي قنديل