عن السياسة الأسبوعية

عن السياسة الأسبوعية

قراءة حديثة في مجلة قديمة:

إعادة طبع المجلات القديمة تعيد للذاكرة القومية بعضاً من حيويتها كما أنها تحمي ركنا مهما من أركان المجتمع المدني.

يبدو أن السهولة العملية لإعادة طبع المجلات بسبب قطعها المقارب لقطع الكتاب على الأقل، بالإضافة إلى أنها لاتشمل من نوافل التفاصيل ما تنقضي الحاجة إليه بمضي وقته، جعلا الأذهان تنصرف إلى إعادة طبع المجلة القديمة بالدرجة الأولى، وتغض النظر عن إعادة طبع بعض الجرائد الأساسية التي لعبت من الأدوار ما لايقل أهمية عن المجلات، خصوصا إذا كانت هذه الجريدة أسبوعية، تقع موقعا متوسطا ما بين الكتاب والصحيفة، أو إذا كانت صدرت في فترة حاسمة عاصفة من فترات التحول فحملت ملامح الفترة وتولت تجسيد تياراتها المتصارعة، أو صدرت لفترة قصيرة زمنيا لكنها تركت من عميق الأثر ما ظل باقيا لأجيال عديدة. ولا حاجة لأن استشهد بأسماء هذا النوع من الجرائد، فالتاريخ الثقافي العام وتاريخ الصحافة الخاص يكرران هذه الأسماء ويلفتان الانتباه إلى أهميتها البالغة في كل الكتابات الدائرة في مجالاتهما.

ولقد شغلتني في إطار هذا المنظور من الاهتمام، في السنوات الأخيرة، مجموعة من الصحف التي لعبت، في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى ومابعدها في مصر، أدوارا ثقافية مهمة ظل أثرها باقيا إلى الآن. وتبدأ هذه المجموعة تاريخيا بجريدة "الجريدة" التي أصدرها أحمد لطفي السيد فيلسوف مذهب الحرية لسان حال النخبة الليبرالية في المجتمع المصري، وهي النخبة التي ضم الكثير من أفرادها حزب الأمة الذي دعمه كبار ملاك الأراضي الزراعية في مصر، ورأوا في توجهه السياسي الثقافي الاجتماعي ما يحقق أحلام الحداثة والتحديث في المجتمع. وقد واصلت "الجريدة" دورها التأسيسي إلى أن توقفت عن الصدور سنة 5191 بعد سنوات قليلة نسبيا من الصدور، لكنها حافلة بالنشاط والإنجاز، وحسبها أنها أتاحت الفرصة لأن يقرأ القراء لأول مرة أفكار الشباب الذي تحلق حول أحمد لطفي السيد وتبنى أفكاره الليبرالية.

أيام كانوا شبابا

ويبدو أن هؤلاء الشباب الذين قدمتهم "الجريدة" من أمثال علي ومصطفى عبد الرازق ومحمد حسين هيكل وطه حسين ومنصور فهمي وتوفيق دياب وغيرهم لم يرضوا بأن يظلوا بلا منبر مستقل، فاجتمعوا واتفقوا على أن يكون لهم منبرهم الجديد المعبر عن أفكارهم الصاعدة والواعدة، فأصدروا "السفور" في مايو 1915، وعهدوا بالإشراف على تحريرها إلى عبدالحميد حمدي، وجعلوا من تسميتها دلالة أشمل من مجرد سفور المرأة، وأوسع من المجتمع المصري الذي أرادوا رفع الحجاب والنقاب عن كل ما يحول بينه وبين التقدم. ولذلك أكدت الجريدة في افتتاحية عددها الأول الصادر في الحادي والعشرين من مايو 1915 أن للسفور معنى أشمل مما يتبادر إلى الذهن عند سماع الكلمة التي جرت بها أقلام الباحثين في مسألة المرأة المصرية، فليست المرأة وحدها هي المحجبة في مصر، فنزعاتنا وفضائلنا وكفاءاتنا ومعارفنا وأمانينا وكل شيء عندنا يدور على غير حقيقته، فنحن أمة محجبة حقيقتها، بادية منها ظواهر كاذبة لاتتفق مع ما فطرت عليه الأمة، وكان هذا المعنى الجذري للسفور علامة على التوجه الجذري للجريدة التي انطلقت منها أهم أفكار التحديث واتجاهات الحداثة التي شغلت المجتمع المصري طوال فترة ما بين الحربين. ولكن كان عمر "السفور" قصيرا للأسف، فلم تستمر هذه الجريدة الأسبوعية سوى سنوات معدودة، تعرضت فيها لمشكلات انتهت إلى توقفها في منتصف سنة 1921.

ولكن لم يكد يمضي وقت طويل على توقف "السفور" حتى اجتمعت النخبة التي تحلقت حول الجريدة في الحزب الجديد الذي ورث حزب الأمة القديم، أعني حزب الأحرار الدستوريين الذي تأسس في الثلاثين من أكتوبر 1922 برئاسة عدلي يكن باشا، وعضوية عدد كبيرة من أبناء كبار الملاك الزراعيين الذين أصبحوا رجالا ناضجين ومثقفين بارزين أكملوا تعليمهم في فرنسا. وقد عهد الحزب الجديد إلى أحد هؤلاء المثقفين بالإشراف على إصدار صحيفة يومية تكون لسان حال الحزب المعبر عن توجهاته السياسية والثقافية والاجتماعية، فأصبح محمد حسين هيكل رئيس تحرير جريدة "السياسة" اليومية التي كانت امتدادا لفكر "الجريدة" من ناحية، وتجمعا ضم مجموعة "السفور" الراديكالية من ناحية ثانية. ويبدو أن صورة "السفور" الأسبوعية لم تفارق ذهن هيكل، خصوصا في تركيزها على الجوانب الثقافية الاجتماعية، وهي الجوانب التي احتلت موضع الصدارة من اهتمامات السفور التي وصفت نفسها بأنها جريدة اجتماعية نقدية أدبية تصدر مرة في الأسبوع. وأفلح هيكل في إقناع قيادة الحزب بإصدار جريدة أسبوعية، تغدو امتدادا للسياسة اليومية وتأكيدا لأهدافها الثقافية الاجتماعية.

هكذا، صدرت جريدة "السياسة الأسبوعية" في صباح السبت الثالث عشر من مارس سنة 1926م "الموافق الثامن عشر من شعبان 1344هـ" في ست عشرة صفحة من قطع الجريدة المعتاد، وهو القطع الذي سرعان ما تخلت عنه بعد أشهر لتلتزم بقطع "التابلويد" الذي كانت عليه "السفور". وكان ثمن النسخة الواحدة عشرة مليمات مصرية، وتكلفة الاشتراك السنوي داخل القطر ستين قرشا، وخارج القطر ثلاثين شلنا، ويتم الاتفاق على الإعلانات مع إدارة الجريدة بمقرها في رقم 10 من شارع المبتديان بحي السيدة زينب. وتضم الجريدة مجموعة من الأبواب الموزعة على أهم حوادث الأسبوع وأخبار السياسة الخارجية والمنوعات الثقافية وصفحة علمية إلى جانب الأثريات، وهو باب يبين عن تصاعد الاهتمام بالآثار الفرعونية والبحث في التاريخ المصري القديم نتيجة مناخ ثورة 1919 واكتشافات مقبرة توت عنخ آمون، إلى جانب صفحة الأدب والصفحة التاريخية وغير ذلك من الأبواب الفرعية التي لاتخرج عن الاتجاه العام الذي بدا أن الجريدة تسير فيه منذ العدد الأول لصدورها. وقد احتل كل مساحة الصفحة الخامسة عشرة من العدد إعلان عن "السياسة الأسبوعية" من حيث هي صحيفة أسبوعية حافلة بالدراسات الأدبية والعلمية والتاريخية والقانونية والسياسة المصرية والشرقية الدولية العامة بأسلوب جديد. ومن مميزات الجريدة ـ فيما يقول الإعلان ـ غزارة المادة في كل فن وصور رمزية سياسية وقسم مصور لأهم الحوادث والأشخاص، لكي تقف قراءها على مختلف تيارات الجهود ونتائج القرائح في العالم كله، وتكون الصلة المتينة بين الغربيين والشرقيين. أما الصفحة السادسة عشرة والأخيرة فاحتلها بأكملها إعلان عن أكبر المحلات الوطنية بالقطر المصري، محلات الماوردي بالعتبة الخضراء بمصر، حيث أجود البضائع وأكثر المعروضات بأرخص الأثمان.

لوحات سياسية وأدبية

وكان اتجاه الجريدة متوقعا بالطبع من قراء "السياسة" اليومية الذين كانوا على ألفة بالكتاب الذين وجدوا إسهامهم في العدد الأول. ولم يكن بقية القراء في دوائر المجموعات القرائية المختلفة بعيدين عن التوقع نفسه، فقد وجدوا أمامهم شباب "الجريدة" وطليعة "السفور" مضافا إليهم أسماء جديدة بدت واعدة في ذلك الوقت. أما على المستوى السياسي فكان مقال إسماعيل صدقي عضو الأحرار الدستوريين ووزير المالية السابق ورئيس لجان التحكيم لقسم المعرض الصناعي دالا بملاحظاته على السياسة الاقتصادية للحزب، وذلك في موازاة الموقف السياسي الذي صاغه هيكل بكتابة لوحاته القلمية تحت عنوان "في المرآة". وكانت اللوحة الأولى عن "زيور باشا" خصم الأحرار الدستوريين ورجل الملك فؤاد في المهام الصعبة التي قصفت الأقلام وهددت الحريات وأغلقت البرلمان. وقد ظل باب "في المرآة" دون توقيع ربما بسبب سخريته الحادة في اللوحات القلمية التهكمية وهي لوحات تصدرتها رسوم كاريكاتيرية للشخصيات التي يدور حولها الباب. ولا أعرف هل اقتصرت كتابة هذا الباب على هيكل وحده أم أن غير هيكل أسهم فيه، فللشيخ عبد العزيز البشري لوحات مشابهة جمعها في كتاب تحت العنوان نفسه، لكن حسب ما رجحه لي صديقي الأستاذ أحمد هيكل ابن المرحوم محمد حسين هيكل فالباب لأبيه.

المهم أن هذا الباب كان واجهة الرأي السياسي للجريدة والحزب، ومن ثم كان تأكيدا للقيم السياسية والاقتصادية للثلاثية الليبرالية الشهيرة: دعه يعمل، دعه يمر، دعه يفكر. وقد تجلت هذه القيم منذ العدد الأول على نحو مباشر في الباب الذي أصبح ثابتا بعنوان سياسة الأسبوع، وعلى نحو غير مباشر في مقال محمد عبدالله عنان عن عقلية الثورة الفرنسية، والحديث مع مدير الجامعة المصرية أحمد لطفي السيد عن استقلال الجامعة عن الأهواء السياسية وحرية التفكير والتعليم، بالإضافة إلى مقال "الخلافة بين يدي السياسة" لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ علي عبدالرازق. وكان علي عبد الرازق في هذا العام يداوي جراحه مما حدث له في العام المنصرم بعد أن أصدر كتابه "الإسلام وأصول الحكم".

تمضي الصفحات الأدبية من العدد الأول في تأكيد قيم الليبرالية الفكرية، فيكتب طه حسي المحرر الأدبي للسياسة اليومية عن كتاب رئيس التحرير "في أوقات الفراغ" مخالفا إياه في الكثير من آرائه التي وضعت نقده الأدبي في تعارض لافت مع مفاهيم طه حسين عن النقد الأدبي. وتأتي الصفحة الحادية عشرة، صفحة الأدب، بمفاجأة العدد التي سرعان ما أحدثت دويا في الحياة الثقافية العربية كلها. وهي مقدمة كتاب جديد لطه حسين، لم تكن مطبعة دار الكتب المصرية قد فرغت من طبعه بعد، وإن كانت قد أعلنت عن صدوره في الأسبوع المقبل، وهو كتاب عنوانه "في الشعر الجاهلي". و"هذا العنوان واضح الدلالة على موضوع الكتاب. وسيظهر هذا الكتاب في أوائل الأسبوع المقبل مطبوعا طبعا متقنا في مطبعة دار الكتب المصرية الأميرية، وها نحن أولاء نقدم للقراء مقدمة الكتاب ومنهج البحث". وتمضي صفحة الأدب في ذكر المقدمة والمنهج بما يحتل أكثر من تسعين في المائة من الصفحة، ولايترك سوى ثلث عمود من الأعمدة الستة، احتلتها مقطوعات مختارة للشاعر الفيلسوف الهندي رابندرانات طاغور ترجمتها عائشة فهمي الخلفاوي. وهي مقطوعات تبدو ذات صلة ما بمسعى مقدمة طه حسين، خصوصا حين نقرأ فيها: سيأتي الصباح ويختفي الظلام، ويتدفق صوتك كأنهار من ذهب، مخترقا طبقات السماء، وستتخذ كلماتك أجنحة من أوكار طيوري لتسبح كالأناشيد، وستتفجر أغانيك أزهارا تملأ أراضي الغابة.

ترى هل كانت أراضي الغابة إشارة رمزية إلى عوائق التقدم التي صنعها خصوم التفكير العقلي الذين عانت منهم مجموعة "الجريدة" ثم مجموعة "السفور" وأخيرا مجموعة "السياسة الأسبوعية"؟ لا أستطيع أن أجزم بإجابة. لكن الواضح أن العدد صاغ ملامح معركة ضخمة سرعان ما أخذ يخوضها كتاب "السياسة الأسبوعية" في مواجهة المتحجر من أشجار الغابة في أكثر من مجال من مجالات الثقافة العربية الحديثة. وقد أنجزت الجريدة في ذلك الكثير الذين ندين به لها، عرفانا وتقديرا، طوال زمن صدورها الذي امتد إلى أكثر من عشرين عاما، ابتداء من عددها الأول الصادر في الثالث عشر من مارس 1926، وانتهاء بعددها الرابع والعشرين بعد الستمائة الصادر في الثامن والعشرين من مايو 1949، وما بينهما الأعداد التي كشفت بها الطليعة الفكرية عن آفاق واعدة أسهمت في دفع خطى الوعي الثقافي العام خطوات جسورة في طريق التحديث والحداثة. ولذلك تحتل أعداد جريدة "السياسة الأسبوعية" مكانة خاصة في سياق المعارك التي صنعت انتصاراتها لحظات التوهج في تاريخنا الثقافي الذي لم يتوقف دفاعه عن حرية العقل والإبداع.

الجريدة والوعي العربي

وأحسب أن تلك المكانة هي ما دفعتني إلى الإلحاح على صديقي وزميلي الدكتور محمود فهمي حجازي، وكان يشغل منصب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، في أن يصدر المجلدات الأولى من "السياسة الأسبوعية" ضمن احتفالات المجلس الأعلى للثقافة في مصر بالذكرى الأربعين لوفاة محمد حسين هيكل "1888 ـ 1965". وبالفعل صدر المجلد الأول من الجريدة في منتصف ديسمبر سنة 1996 بعد مصاعب عملية طريفة، سببها الأول أن هذا المجلد الذي يضم الأعداد من الأول إلى الرابع والثلاثين صدر بالقطع العادي لجريدة "السياسة" اليومية، وهو القطع الذي تخلت عنه الجريدة بعد ذلك وآثرت قطع "التابلويد". وعندما بحثنا عن هذا المجلد في دار الكتب لم نجده مع بقية المجلدات الكاملة الموجودة في الدار. وظننا في أول الأمر أن المجلد الأول مفقود أو مسروق. فاستعنا بمكتبة جامعة القاهرة، فإذا بمجلدها الأول أصابه الدمار بسبب عدم الصيانة والترميم. ولم نجد سوى أسرة هيكل نستمد منها العون، ونستعير المجلد الأول منها، ولم تتأخر الأسرة في مد يد العون. وقادتنا المصادفة، وحدها، أثناء تصوير صفحات المجلد الأول، إلى اكتشاف نسخة دار الكتب، موضوعة مع مجلدات جرائد أخرى تشبهها في القطع، فانتهت المشكلة الأولى التي سببها القطع الكبير للمجلد الأول. وبقيت مشكلة ضخامة القطع التي حلت بواسطة تصغير صور الصفحات من القطع العادي إلى قطع التابلويد. وهو حل ترتب عليه صغر الأحرف في صفحات المجلد الأول الذي أصدرته دار الكتب، الأمر الذي يعوق سهولة القراءة. خصوصا لمن ضعف بصرهم من أمثالنا بسبب الانكباب على القراءة. ولكن هذه المشكلة لم تعد قائمة، لحسن الحظ، في المجلدين الثاني والثالث اللذين أصدرتهما دار الكتب المصرية في شهر فبراير الماضي، فالأحرف فيها بالحجم الطبيعي في الأصل.

ومهما يكن من الأمر، فلا أحسب أن هذه المشكلة العملية تقلل من أهمية إعادة طبع "السياسة الأسبوعية" بوصفها نموذجا للجريدة التي أسهمت في تكوين الوعي العربي الحديث، سواء في معاركه السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية أو الأدبية، فالجريدة خاضت غمار هذه المعارك في جسارة المؤمن بالمستقبل، وكانت منذ اللحظة الأولى لميلادها استمرارا صاعدا للصفحة الناصعة التي بدأت بمجموعة لطفي السيد التي تحلقت حول "الجريدة". ويزيد من أهمية إعادة طباعتها أنها صدرت في سنوات حاسمة، دالة، محتدمة بالصراع السياسي والتغير الثقافي اللذين تركا آثارهما الباقية على ملامح الوعي السياسي وعلاقات التيارات الثقافية إلى اليوم. ومن المنظور السياسي الخالص، صدر العدد الأول في سياق الصراع المحموم بين القوى الوطنية من ناحية والقصر والاستعمار من ناحية ثانية، فكانت تعبيرا عن صوت النخبة الأرستقراطية "الليبرالية" في قضايا الاستقلال السياسي والعدالة الاجتماعية والحرية بكل أبعادها ومجالاتها. وكان العدد الأول موافقا لانتصار القوى الوطنية على مؤامرات القصر والاستعمار، واستجابة إلى التآلف الوطني الذي وقع بين الوفد حزب الأغلبية والأحرار الدستوريين، والذي ترتب عليه استقالة حكومة زيور المعادية للحريات، وعودة الدستور، وتشكيل وزارة ائتلافية برئاسة عدلي يكن زعيم الأحرار الدستوريين وعودة البرلمان برئاسة سعد زغلول زعيم الأغلبية الوفدية.

وإذا كان موقف المنتمين رسميا إلى حزب الأحرار الدستوريين من كتاب "السياسة الأسبوعية" أقرب إلى المحافظة في قضايا العدل الاجتماعي، بحكم موقعهم الطبقي كأبناء كبار الملاك الزراعيين الذين أطلق عليهم أصحاب المصالح الحقيقية، فإن موقف هؤلاء الكتاب كموقف حزبهم بوجه عام من قضايا الحرية الفكرية والإبداعية كان يتسم بدرجة عالية من الجذرية، انطلاقا من مفاهيم عصر الأنوار الأوربي التي تمثلها مثقفو هذا الحزب، وتأثرا بالمبادئ العقلانية للنزعة العلمية التي أشاعتها الفلسفة الوضعية في أوربا، تلك النزعة التي تأثر بها كل من محمد حسين هيكل وطه حسين في سنوات دراستهما الباريسية، ولذلك وقف الحزب مدافعا عن قضايا الحرية دفاعا مجيدا، سواء فيما قام به أعضاؤه أمثال عبدالعزيز فهمي في صياغة مواد دستور 1923، أو ما قام به كتابه من دفاع متواصل عن قضية الحرية الفكرية، يكفي أن اثنين من المتحلقين حول الحزب والمسهمين في جريدته أثارا الحياة الثقافية عامي 1925 و1926 بما ظل صداه باقيا إلى الآن. أقصد بذلك ما أحدثه علي عبدالرازق بنشره كتاب "الإسلام وأصول الحكم" سنة 1925 وما أحدثه طه حسين بعده بأشهر معدودة في العام التالي مباشرة حين نشر كتابه "في الشعر الجاهلي".

دفاعا عن الشيخ عبد الرازق

ولم تتوقف جريدة "السياسة" اليومية عن الدفاع عن علي عبد الرازق في أزمته التي أطاحت بالتحالف الذي وقع بين القصر والأحرار الدستوريين. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يحمل العدد الأول من "السياسة الأسبوعية" مقالة جديدة لعلي عبد الرازق بعنوان "الخلافة بين يدي السياسة". وهو مقال يلح على التشابكات السياسية للقضية التي أثارت حوله العواصف وأدت إلى طرده من منصبه في القضاء وسحب درجته الأزهرية. وكان صوت طه حسين إلى جانب أصوات كتاب السياسة صوت الاستنارة الجذرية في الدفاع عن حرية الفكر والاعتقاد، وفي تحديد موقف حاسم من قضية الدين والعلم، وفي عدم الوقوع في شراك الخطاب النقيض. وبرغم أن أزمة كتاب علي عبد الرازق تفاقمت لاعتبارات سياسية لاعلاقة لها بحرية الفكر أو المعتقد الديني بالمعنى المباشر، وذلك في سياق الصراع بين الملك فؤاد والقوى المناوئة لحلمه في وراثة الخلافة العثمانية بعد سقوطها في تركيا، فإن قضية الحرية الفكرية احتلت موضع الصدارة في وعي كتاب السياسة الأسبوعية الذين وضعوا مساحة الحرية المتاحة لعقل المثقف وإبداعه موضع المساءلة الجذرية على نحو حاسم جازم.

وجاء كتاب "في الشعر الجاهلي" ليدفع بهذه القضية وتلك المساءلة إلى صدارة الصدارة، خصوصا في ظرف سياسي متغير نسبيا، ائتلف فيه حزب الوفد مع الأحرار الدستوريين، وكان رئيس الحزب رئيس الحكومة، ووزير العدل عضوا في الحزب، ووزير التعليم الوفدي علي الشمسي غير بعيد عن التوجه الثقافي لليبراليي الحزب. ولذلك ظل سعد زغلول على موقفه السلبي السابق من طه حسين، حين قامت عاصفة الكتاب الأزمة، وذلك بسبب مقالات طه حسين القاسية في نقد ما أسماه ديكتاتورية سعد، ولكن وقفت أغلبية حكومة الأحرار الدستوريين إلى جانب طه حسين، مع بقية العناصر الوفدية المستنيرة، في ائتلاف فكري مواز لمواجهة المخاطر التي تهدد حرية الفكر، وكانت النتيجة خروج طه حسين سالما من المعركة التي لم تسفر عن خسائر فعلية، سوى مصادرة الكتاب الذي سرعان ما أصدره طه حسين تحت عنوان جديد هو "في الأدب الجاهلي" الذي صدر في العام التالي مباشرة، بعد أن حذف الفقرات الإشكالية من الكتاب وأضاف إليه مقدمة منهجية عن علاقة العلم بالحرية من منظور الدرس الأدبي، وذلك على العكس تماما من النتيجة التي انتهت إليها عاصفة كتاب علي عبدالرازق التي تصاعدت في ظرف غير موات سياسيا، فقد كان الدستور معطلا، والبرلمان مغلقا، ورئيس الحكومة "زيور باشا" ألعوبة بين يدي رئيس الديوان الملكي، والملك فؤاد كان يريد الانتقام من علي عبد الرازق الذي أفسد عليه حلمه في وراثة خلافة المسلمين بعد سقوط الخلافة العثمانية.

العلم والدين

ولم يكن من المصادفة أن يحمل العدد الأول من "السياسة الأسبوعية" مقال علي عبدالرازق الذي يؤكد موقفه السياسي من قضية الخلافة التي لم تكن قضية دينية بقدر ما كانت كانت قضية سياسية مرتبطة بالصراع بين الأوتوقراطية والديمقراطية، وأن يحمل العدد الفصل الأول من كتاب طه حسين الأزمة، الأمر الذي يدل على أن "السياسة الأسبوعية" خاضت معارك الاستنارة من اليوم الأول لصدورها. ولذلك ظهرت على صفحات سنتها الأولى مجموعة من أهم المقالات التي عرفها تاريخنا الثقافي المعاصر عن العلاقة بين العلم والدين. وهي المقالات التي أسهم فيها محمد حسين هيكل وطه حسين وسيد عفيفي وعلي سليمان الأنصاري وعلي حسين تقي أصفهاني وأحمد صبحي جنينة وعزيز طلحة والشيخ عبدربه مفتاح وغيرهم من الذين حاول أغلبهم تحرير إشكال العلاقة بين الدين والعلم، وتحطيم القيود المفروضة على الحرية المتاحة للمثقف في المجتمعات التقليدية والعمل على توسيع رقعتها إلى أبعد مدى. وانطلاقا من منظور هذه المقالات، توالت القضايا التي عالجتها الجريدة، سواء في موضوعات التجديد أو الشخصية المصرية أو المشكلات الحزبية أو مشاكل المجتمع المصري أو الرابطة الشرقية أو الأدب القومي أو غير ذلك من الموضوعات والمشكلات التي ظلت الجريدة حريصة على تنوير الرأي العام فيها، تأكيدا لقيم الحرية والعقلانية والتقدم، وتجسيدا لحضور المعاني الواعدة للدولة المدنية الحديثة. وهي المعاني التي حاولت المطامع السياسية التعكير عليها وصرف الانتباه عنها باسم تأويلات دينية بشرية، كانت غطاء لنزعات استبداد سياسية لاتخفى على من يبحث عنها.

والطريف الذي يلفت الانتباه، في سياق تأثير "السياسة الأسبوعية" وحوارها مع قوى وتيارات المجتمع المصري في العشرينيات، إنه ما كادت تمضي ثمانية أشهر على انتظامها في الصدور، حتى لحقت بها جريدة "البلاغ" اليومية لسان حال حزب الوفد بجريدة أسبوعية موازية هي جريدة "البلاغ الأسبوعي" التي صدر عددها الأول في شهر نوفمبر من سنة 1926 ذروة أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي" وفي سياق التوتر المكتوم الذي أخذ في التصاعد داخل الائتلاف السياسي القائم بين الأحرار الدستوريين وحزب الوفد. وكانت "البلاغ الأسبوعي" صوتا موازيا لصوت "السياسة الأسبوعية". يتحاور أحيانا ويتصارع أحيانا أخرى. لكن صدامه السياسي كان الوجه الآخر من التقارب الفكري مع أصوات كتاب "السياسة الأسبوعية" داخل منطقة التنوع، في الدائرة نفسها من العقلانية التي جمعت مابين أمثال محمد حسين هيكل رئيس تحرير "السياسة" و"السياسة الأسبوعية" من صحف الأحرار الدستوريين وأمثال عباس محمود العقاد أبرز كتاب "البلاغ" المنتمين إلى الوفد. ولذلك كان من الطبيعي أن تشكل "السياسة الأسبوعية" مع "البلاغ الأسبوعي" جبهة استنارة مؤثرة في مواجهة التيارات التقليدية التي تصاعد صوتها الاتباعي، سواء في مجلة "المنار" التي كان يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا أو مجلة "الزهراء" التي كان يصدرها محب الدين الخطيب، في موازاة جرائد مشابهة في الاتجاه. وأحسب أن أشكال الحوار الثقافي بين "السياسة الأسبوعية" و"البلاغ الأسبوعي" تستحق وقفة طويلة ودراسة مقارنة تلقي المزيد من الضوء على صفحة مهمة من صفحات تاريخنا الثقافي الحديث، وتعيد إلى الأذهان عهدا حيا من التوتر والصراع والنقاش والاختلاف الثقافي الذي يؤكد أهمية الجريدة الثقافية، وضرورة إعادة طباعة المؤثر منها، تأكيدا لمبدأ الحوار الثقافي الذي لا أجد أقدر من صفحات هاتين الجريدتين على تمثيله لأذهان شباب القراء المعاصرين، أولئك الذين نريد منهم أن يتعرفوا ماضيهم الحي، وأن يفيدوا من دروسه، لا ليعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء.

 

جابر عصفور