جبال
جبال
قراءة نقدية في ديوان كيف يمكن لقصيدة حداثية أن تكتب تحت ضغط ذاكرة بدوية؟ إن تلك الإشكالية تمثل مأزق الشعر العربي النعاصر بأكمله، حيث لم تتخلص بعد من رصيدها التاريخي والعاطفي، كما أن الذاكرة العربية مازالت تعيد إنتاج أزماتها، من خلال التعامل مع الزمن باعتباره حركة ارتداد لا حركة امتداد. وبالتالي تستحيل الذاكرة المعاصرة إلى ذاكرة بدوية، باعتبار أن الماضي قد صار مثاليا ومطلقاً ولا يجري عليه التاريخ.ولعل ديوان "جبال" للشاعر العماني سيف الرحبي أصدق مثال يجسد تلك الإشكالية، ويعد تعبيراً حياً عن ذلك الفصام بين الذاكرة وحاضرها، وبين وعي الشاعر وميراثه، لذلك الديوان وكأنه ساحة للصراع المحتدم بين الوعي واللاوعي من ناحية، وتعبير عن حالة التمزق بين الارتداد والامتداد خارجة من ناحية أخرى. إن سيف الرحباني الذي ظل يعاني تجربة الغربة على امتداد زمني متسع، أصبح في هذا الديوان يعاني من تجربة الاغتراب. وإذا كان هذا الديوان بمنزلة الديوان التاسع له، فإنه يمكننا أن نعده الديوان الأول من حيث الاقتراب من الواقع بشقية: النفسي والتاريخي. ولعل أهم الملامح الفنية لهذا الديوان أنه خلق لغة واقع، بعد أن كانت الدواوين السابقة تطمح إلى خلق واقع لغة. وهو بذلك يعد علاقة رفض، أكثر مما هو أداة رصد للواقع، وتجربة حياة أكثر مما هو تجربة ثقافية، بمعنى أنه دخول في الواقع بديلاً عن الوقوف على هامشه. هيمنة الماضي والديوان على مستوى الشكل- ينتمي إلى خارطة الشعرية الحداثية، لكنه- على مستوى المضمون- نتاج ذاكرة زمنية، يصبح فيها الماضي عنصراً مهيمناً، وبرغم الاحتفاء الشديد بالمكان، فإنه ليس أكثر من مجرد شاهد لتثبيت العامل الزمني داخل وعي التلقى. والوقت في "جبال" هو بمنزلة زمن دائري، لا يعتمد على الامتداد بقدر ما يتاسس على الارتداد. إذ أن هناك نقطة أصل دائمة، تمثل مرجعية للذاكرة، تبتعد عنها ثم لا تلبث أن تلاتد مرة اخرى. وهنا، ينتقل الوقت/ الزمن من مجرد علامة دالة على التغير والحركة، ليصبح هو المؤسس والباعث على هذا التغير وتلك الحركة. وعندما يكتسب الزمن تلك الفرعية، فإنه يرتقي إلى مرحلة ميتافيزيقية أكثر سمواً داخل الذاكرة، إذ يقترب من مفهوم "الدهر". و"الدهر" في عميق الذاكرة العربية يحتوي- بالضرورة- على فاعلية القدر وحاكمية القضاء. لذا، فإن موروث الذاكرة يعيد إنتاج مفردات الواقع: الإنسان والظرف والمكان، كي تتشكل من جديد تحت وطأة "المكتوب". إذ إن من أهم خصائص الدهر أنه يجعل من الزمن دورات دائمة تتخللها نظرة رجوعية إلى الماضي، وبالتالي، فإن الحاضر وإن كان يمارس وجوده بالقوة، إلا أن الماضي يمارس حضوره بالفعل. وبين القوة والفعل يبدو الزمن الماضي وكأنه جاثم على الحاضر، كما تبدو الأفعال وكأنها خارج إرادة البشر، حيث يظل "مكتوبا" عليهم أن يظلوا أسرى الماضي، أو مجرد ظل شائه له. وبرغن أن المكان يمارس حضوراً قوياً داخل الديوان، بدءا من العنوان، إلا انه يستحيل إلى مجرد شاهد زمني من خلال رمز الصحراء، التي لا تعدو أن تكون إطاراً لماضي: في هذه الصحراء العاتية فالصحراء ليست سوى ماضي الذاكرة، الذي يتجلى في أشكال مكانية عدة: كانت لأجدادنا منازلهم فإذا انتقلنا من الصحراء إلى البحر باعتباره حيزاً مكانياً بدوره، فإنه- أيضاً- يجسد حالة الارتداد الزمني: لم نعد نشبه هذا البحر وبرغم أن أهل الكهف ينسبون إلى الكهف بإعتباره مكاناً، فإنهم في النهاية ليسوا سوى حالة زمنية، تشبه ما صرنا إليه بالفعل. وهنا، تحل الأزمنة الكاسرة داخل المكان، كي تفترسه في عمق الذاكرة: أزمنة تتكدس أمام بابي، الجبال الشواهد وإلى جانب الصحراء والبحر، تستحيل الجبال بدورها إلى شاهد زمني، حين يتجه الشاعر إليها بالخطاب. تعاقبت تحت سطوتك الممتدة وبرغم أن وعي الشاعر يرفض الانصياع لسطوة الماضي، فإن لا وعيه يرتد به إلى الوراء دائماً، في سفر متصل: في هذه البقاع القصية وهذا الارتجال ليس داخل المكان بقدر ما هو داخل الزمن، إنه إعادة إنتاج لسفر الأسلاف الذين: خلعوا قلوبهم وأوتادهم، ولأن الدهر يمارس سطوته على المكان، فمن الطبيعي أن يرى الشاعر أن: الصحراء ماضية في غيها صراع الماضي والحاضر على أن الصراع بين الماضي والحاضر، من خلال رمز المكان، لا يتردد في الديوان سوى مرة واحدة، حين يتساءل الشاعر في وسخرية: كل هذه الذرى وليست الأمكنة وحدها شاهدة على سطوة الدهر، لكنه الإنسان أيضاً. وتتم "أزمنة" البشر، أي بتحويلهم إلى أزمنة، عبر رمزين أساسين: - رمز الموتي وكلا الرمزين يؤكد سيادة الزمن الماضي وامتداده في الحاضر. وقد يتوارى كل منهما إلا أنه يستدل عليهما من خلال الصفات أو الأدوار التي يقومان بها. قفد تنوب الصفات "الراحلون- الغائبون" عن الموتى، بالإضافة إلى صفات "الرعي- النبوة" التي تنوب عن الأجداد / الأسلاف. كذلك، فإن مفردات عالمهم قد تكون حاضرة بديلاً عنهم، مثل: "الاوتاد- الخيام- عواء الذئب- صيد القطا والوعول- العشب- الغنام". ويبدو الصراع- بداية- بين الماضي والحاضر من خلال رمز "الموتى" حين أخرج من البيت إن هذا الرمز لا يسيطر على العالم الخارجي فقط، لكنه يحكم العالم الداخلي للشاعر، لذا فإن الشاعر- من خلال المونولوج الداخلي- يحادث ذاته: تصحو من النوم ولكي يؤكد الشاعر على وجدو مرجعية للماض من خلال رمز الموتى، فإنه يجعل هؤلاء الموتى ينحسبون "صوب أنفسهم"، أي باتجاه نقطة الأصل التي في الخلف دائماً: لقد ذهبوا بعيداً صوب أنفسهم، وحين يتخلى الشاعر عن رمز الموتى، فإنه يستدعي رمز الأجداد/ الأسلاف مجرداً من صفة الموت حتى يبدو وجودهم داخل ذاكرة الحاضر وكأنه أمر بديهي، فهم. لا يطرقون الباب ولايستأذنون قالأسلاف طبقاً لتعبير سيف الرحبي "يتناسبون جداً بعد جد"، وكأن رمز الأجداد ماهو إلا شفرة زمنية، يتم من خلالها استنساخ الماضي. فهم يشعايشوننا، وكانهم هم الذين يجذبوننا إلى زمنهم الماضي، ولسنا نحن الذين نستدعيهم إلى لحظتنا الراهنة. ويمتليء الديوان بصفات هؤلاء الأسلاف ، أو مفردات عالمهم، تلك التي تشكل الذاكرة الشعرية المعاصرة ، لذلك يرى سيف الرحبى أن الزمن الماضي يسيطر على تلك الذاكرة: كأنما السنون ومن هنا يصبح الحاضر مجرد تجل لماض "معبأ بأحلام شاقة"، حيث: ناطحات سحاب مضاءة بأسماء لذلك، يبدو البشر داخل الحاضر وكأنهم ظل باهت للأسلاف : وجوه ذابلة ونحيلة ومن هنا، تتأجج صفات الأسلاف كان الراعى ، حفيد الأنبياء، وآخر صولجان السلالة، متكئاً على ذراعه ذاهباً في نومه الأبدي حيث الماضي ينام مطمئناً داخل عتبات الحاضر وهكذا، يرى سيف الرحبى- في إشارة عابرة- أن الحاضر ينسحب منا، حين يغادرنا الزمن الموضوعي في حركته الدائمة والدائبة، حيث: تأخر الوقت عن بدو رحلوا وحين ينتفي الزمن الموضوعي من ذاكرة الحاضر، فإن البديل الطبيعي هو الانتقال باتجاه الومن الأسطوري، حيث: أمهاتنا اللواتي خلفناهن وراءنا وحين تحاول ذاكرة الشاعر أن تتواصل مع الزمن الموضوعي، ضاربة عرض الحائط بهذا الزمن الأسطوري ، فإن سيف الرحبى يقرر: فقدت بعيرى إلى شجرة غاف لذلك، فإن الرعاة- الذين يمثلون امتداداً للسلاف في الحاضر- يقفون علي حافة الأزل، عاجزين عن الحركة في اتجاه الأبد: أسمع الرعاة ينحدرون بأناشيدهم نحو الهضبة في تلك اللحظة ، تستعيد ذاكرة الحاضر وعليها ، رغم افتقادها القدرة علي الفعل، لأنها لم تعد تمتلك سوى قوة الرفض بإزاء حركة الزمن في اتجاها نحو المستقبل الذي يشير إليه " الأبد الجارف": لم أعد أتذكرهم حين كانوا يضرمون النار في الخيام، عدا الصرخة التي كانت تقفز من قلب الحريق نحو العدم المنتصب كعصا الأعمى، وحين كانوا يبيدون الأيام والليالي في صيد القطا والوعول ، ثم يتعفنون في بطن الحكايات التي يرويها لاحقوهم من العجائز. لذلك ، فإن عاطفة الحاضر التي ترتبط بالامتداد الزمني مع الماضي هي التي تؤدي بالشاعر إلي أن يهجس: أنا مازلت أنتظر الغائبين
|